قائد الجيش الباكستاني… "عراب الظل" في المعادلات المعقدة

الصعود الخاطف لعاطف منير من طوكيو إلى تامبا

إدواردو رامون
إدواردو رامون

قائد الجيش الباكستاني… "عراب الظل" في المعادلات المعقدة

إسلام آباد -في سابقة غير معهودة، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بقائد الجيش الباكستاني، المشير سيد عاصم منير، في اجتماع غاب عنه نظيره الأميركي في منتصف يونيو/حزيران. لكن ما أثار الانتباه لم يكن فقط الشكل غير المألوف لهذا اللقاء، بل توقيته الدقيق وسط تصاعد التوترات في الإقليم، الأمر الذي دفع كثيرين إلى التساؤل عن خلفياته وتبعاته المحتملة.

وفيما تتجه أنظار العواصم إلى مسقط والدوحة بوصفهما وسيطين محتملين في ملفات إقليمية شائكة، يغيب عن كثيرين أن باكستان، منذ "الثورة" في طهران، هي التي تمثّل المصالح الإيرانية في واشنطن.

ومع حدود تمتد لأكثر من 900 ميل مع إيران، تخوض باكستان حربا استخباراتية مفتوحة ضد طهران، كما كتبتُ سابقا في مقال نُشر في "المجلة" مطلع عام 2024.

وعلى الرغم من العلاقات السياسية والثقافية المتجذّرة، واحتضان باكستان لأكبر تجمّع شيعي خارج إيران، فإن العلاقة بين الجهازين الأمنيين في البلدين، أي "الحرس الثوري" الإيراني والمخابرات الباكستانية (ISI)، تشهد عداءً مزمنا أشبه بـ"حرب ظل" ممتدة منذ ثمانينات القرن الماضي. فمن ميادين الصراع في سوريا، إلى المخيمات الفلسطينية في بيروت، مرورا بأذربيجان وأفغانستان، تواجه الطرفان مرارا عبر وكلاء ومصالح متضاربة.

هذه الخلفية تضع الجيش الباكستاني، وقائده المشير منير، في موقع بالغ الأهمية ضمن حسابات السياسة الأميركية في جنوب وغرب آسيا. وقد صرّح ترمب عقب اللقاء بأن منير أسهم في تهدئة التوتر بين الهند وباكستان مطلع هذا العام، كما لعب دورا محوريا في القبض على المطلوب الأول للولايات المتحدة داخل الأراضي الأفغانية. واعترف، في تصريح لافت، أن الجيش الباكستاني "يعرف إيران أكثر بكثير مما تعرفها الولايات المتحدة".

فمن هو المشير عاصم منير، الرجل الذي بات يحظى بثقة البيت الأبيض، ويُنظر إليه بوصفه "عرّاب الظل" في معادلات الأمن الإقليمي المعقدة؟

قبل بضعة أسابيع، تحوّل انتباه العالم ونشرات الأخبار، ولو لفترة وجيزة، إلى صراع آخر غير غزة أو أوكرانيا. ففي كل مرة تتواجه فيها الهند وباكستان، ترافق هذه المواجهة أسوأ الاحتمالات وخطر اندلاع حرب نووية. إلا أن البلدين بلغا هذه المرة فعلا حافة الهاوية، بحسب ما صرح به كل من الرئيس ترمب والسيناتور روبيو، لولا التحركات الدبلوماسية الهاتفية المكثفة التي أطلقها ترمب وقادها جيه دي فانس وماركو روبيو على مدار أربع وعشرين ساعة، وأسفرت عن وقف إطلاق نار كامل بين الجانبين.

جاء هذا التدخل بعد أيام من المعارك والضربات الجوية المتبادلة بين الهند وباكستان، إلى جانب هجمات بطائرات مسيرة استهدفت مواقع في عمق أراضي كل منهما.

 يتصدر قادة الجيش الباكستاني بانتظام قائمتي أقوى 100 قائد عسكري عالميا، اللتين تعدهما مجلة "فوربس" ومجلة "تايمز" نظرا لحجم الجيش الباكستاني وقدراته الهائلة

ورغم استمرار الجدل بين الطرفين حول من خرج منتصرا في الميدان، وبينما تشير تقارير إلى أن القوات الجوية الباكستانية حققت إصابات مؤكدة، فإن الشخصية الوحيدة التي برزت بشكل لافت كانت رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال عاصم منير. وإذا ما توجهت بالسؤال إلى القيادة المركزية الأميركية، المتمركزة في تامبا-فلوريدا، وهي الجهة المعنية بالتنسيق مع باكستان، فستجد قناعة راسخة بأن منير قائد صلب، يؤدي دورا محوريا في استقرار غرب آسيا، بل وحتى الشرق الأوسط. واليوم، بات العالم بأسره يدرك ذلك.

يتصدر قادة الجيش الباكستاني بانتظام قائمتي أقوى 100 قائد عسكري عالميا، اللتين تعدهما مجلة "فوربس" ومجلة "تايمز" نظرا لحجم الجيش الباكستاني وقدراته الهائلة. وبسبب علاقات هذا الجيش بدءا من المملكة العربية السعودية والصين، وصولا إلى علاقاته الراسخة التي تعود لعقود مع الجيش الأميركي، وبسبب ترسانته النووية بالطبع، يتمتع من يتولى قيادة الجيش الباكستاني بثقل عالمي. لذلك تزداد تكهنات وسائل الإعلام العالمية، كل ثلاث إلى ست سنوات، وبالاعتماد على مناصب القادة المختلفين، حول من سيتولى قيادة هذا الجيش الذي يبلغ قوامه 700 ألف جندي تقريبا، أكثر من تكهناتها حول أي جيش دولي آخر.

وكالة فرانس برس
جنود من الجيش الهندي بجانب دبابة في قطاع أخنور بالقرب من خط السيطرة بين الهند وباكستان

يتمتع عاصم منير بخلفية مختلفة عن غيره تماما، وربما كانت هذه الخلفية ستجعل من المستبعد على شخص مثله أن يصبح قائدا للجيش في ظروف سابقة. فهو أول قائد للجيش تلقى تعليمه في مدرسة دينية، بخلاف أسلافه الذين ذهبوا إلى مدارس داخلية نخبوية من العصر البريطاني أو كليات عسكرية يديرها الجيش. كما أنه أول قائد لم يتخرج من أكاديمية كاكول العسكرية الباكستانية النخبوية، بل درس في مدرسة مانجلا لتدريب الضباط، وهي مدرسة أقل شهرة ولم تعد موجودة الآن. كما أصبح أول جنرال يتولى قيادة الجيش دون أي دورات عسكرية غربية أو دراسات عليا في مجال الأركان، منذ أكثر من 40 عاما. بينما تلقى أسلافه التسعة السابقون تعليمهم، في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة أو كندا، في مرحلة ما من حياتهم المهنية المبكرة أو المتوسطة أو العليا. أما منير فلم يدرس في الواقع إلا في طوكيو وكوالالمبور، بعيدا عن أعين محللي الاستخبارات الغربيين المتطفلين. كما تولى أقصر مدة في رئاسة جهاز المخابرات الداخلية القوي.

لذلك، أثار صعوده غير التقليدي إلى القمة وبداياته المتواضعة الدهشة حين عُيِّن قائدا للقوات المسلحة عام 2022.

من طوكيو إلى تامبا

نظرا لأن الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية في تامبا، هو المسؤول عن تقييم دور باكستان ومكانتها كشريك رئيس غير عضو في "حلف شمال الأطلسي" (ناتو)، فقد زار عاصم منير أكثر من ست مرات خلال أقل من ثلاث سنوات. وفي كل عام، تُطرح خلال جلسات استماع في الكونغرس، سواء كانت أمنية أو استخباراتية، تساؤلات حول أمن الترسانة النووية الباكستانية، ومدى اعتماد الولايات المتحدة على باكستان لتحقيق الاستقرار في غرب آسيا والشرق الأوسط، بالنظر إلى علاقاتها الوثيقة بالمملكة العربية السعودية، الحليف الاستراتيجي الآخر لواشنطن.

  العلاقات السعودية-الباكستانية أكثر من مجرد علاقاتٍ تاريخية. فقد وصف الأمير تركي بن الفيصل الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، العلاقات السعودية-الباكستانية بأنها الأقوى من أي علاقة أخرى

في عام 2023، بذل كوريلا جهدا كبيرا لإقناع المشرّعين الأميركيين بـ"متانة علاقته" بعاصم منير، وبقدرة هذا الأخير على ضمان أمن بلاده واستقرارها. وقد استضافه في تامبا، ونسّق له لقاءاته السياسية في واشنطن. ثم في الأسبوع الماضي، أكد كوريلا مرة أخرى أن الشراكة الأمنية الأميركية مع باكستان أكثر من ممتازة.

ويرى كوريلا في منير حجر زاوية في استقرار الشرق الأوسط، بفضل علاقات الجيش الباكستاني الوثيقة مع السعودية وقطر والإمارات وغيرها. ومنير بدوره، أمضى سنوات عدة في المملكة، وهو يتقن اللغة العربية ويتمتع بفهم عميق لتوازنات المنطقة ودينامياتها، ولكيفية انسجامها مع المنظومة الأمنية المشتركة بين باكستان والولايات المتحدة.

لطالما كانت العلاقات السعودية-الباكستانية أكثر من مجرد علاقاتٍ تاريخية. فقد وصف الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، العلاقات السعودية-الباكستانية بأنها الأقوى من أي علاقة أخرى وفي كل المجالات، ومن دون معاهدة رسمية. وقد عزز منير هذه العلاقات بفضل السنوات الثلاث، التي قضاها في المملكة العربية السعودية، وأضاف طبقة جديدة إلى تلك الديناميات التاريخية أصلا.

أهو أقوى قائد في تاريخ باكستان؟

ذلك سؤال طرحه وجاهت سعيد خان، أحد أبرز الصحافيين المتخصصين في الشأن العسكري الباكستاني، والذي غطى أخبار المؤسسة العسكرية لأكثر من عقدين، عن كثب وعمق. سؤال جريء دون شك، بالنظر إلى أن باكستان شهدت على مدى تاريخها قادة عسكريين ذوي نفوذ هائل، من بينهم رؤساء حكموا البلاد فعليا مثل ضياء الحق، وأيوب خان، وبرويز مشرف.

لكن ما يميز عاصم منير عن سابقيه أنه أول قائد للجيش يشغل رئاسة الفرعين الرئيسين في الاستخبارات العسكرية: الاستخبارات العسكرية (MI) والاستخبارات الباكستانية (ISI). كما أنه يتمتع بهيبة مستقلة، ولا يبدو أنه يتهيب المسؤولين الغربيين أو يسعى لإرضائهم، على عكس ما نُسب إلى بعض من سبقوه ممن قيل إنهم وقعوا تحت سحر المؤسسات التعليمية الغربية التي تخرجوا فيها.

ويُحسب لمنير أنه، خلال ثلاث سنوات فقط من توليه المنصب، وجّه ضربات مباشرة لكل من أفغانستان وإيران والهند، ردا على استفزازات متكررة. فقد حذر طهران من أي عبث على حدود بلوشستان، وتم إسقاط طائرات هندية بأوامره، وأمر بقصف أهداف داخل الهند، لكنه اتخذ أيضا موقفا غير مسبوق حين خاطب "طالبان" الأفغانية بصرامة، مطالبا إياها بوقف دعمها للجماعات المسلحة العابرة للحدود.

ورغم أن الوقت لا يزال مبكرا للحكم على إرثه العسكري، فإن من المؤكد أن عاصم منير بات اليوم محط أنظار العالم. وبينما تتجه الأنظار نحو ما ستؤول إليه الخطط الأميركية والإسرائيلية بشأن إيران، يبقى الجيش الباكستاني، تحت قيادة منير، عنصرا فاعلا في المعادلة الإقليمية، نظرا لعلاقاته الوثيقة مع الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والصين. وقد يكون، في نهاية المطاف، من يُرجّح كفة التهدئة أو يفتح الباب على مزيد من التصعيد.

font change