حدود سوريا ولبنان... مقترحات لتقويض ادعاء "حزب الله" بأنه "مقاومة"

استمرار غياب الترسيم الواضح للحدود

أ.ب
أ.ب
تتمركز قوات سورية في قرية حوش السيد علي، الواقعة على بُعد كيلومترين (1.24 ميل) من الحدود اللبنانية، سوريا في 17 مارس 2025

حدود سوريا ولبنان... مقترحات لتقويض ادعاء "حزب الله" بأنه "مقاومة"

من التبعات المستمرة لما يقرب من ثلاثة عقود من الحكم الفرنسي في بلاد الشام، استمرار غياب الترسيم الواضح للحدود بين سوريا ولبنان، حتى بعد مرور نحو ثمانين عاما على استقلال البلدين، إن غياب حدود محددة المعالم، خصوصا في المنطقة التي يلتقي فيها سهل البقاع اللبناني بالأراضي السورية، ليس مجرد مسألة جيوسياسية عابرة، لأنه يعقّد قدرة الدولتين على التعاون في حماية أراضيهما من الإرهابيين، والمهربين وسائر الخارجين على القانون.

والسبب أن وجود حدود غير واضحة المعالم على الأرض، تصبح موضع استفزاز، ويمكن أن تتسبب في اشتباكات مسلحة، كما جرى في الماضي بالفعل، وربما تتسبب بذلك مستقبلا. واليوم، مع انهيار نظام الأسد في سوريا، بات من الممكن، بل من الضروري، معالجة قضية الحدود اللبنانية السورية بصورة نهائية، ففي عام 1920، قامت فرنسا، بصفتها قوة احتلال بعد الحرب، بفصل "لبنان الكبير" عن سوريا، موسعة بذلك أراضي منطقة جبل لبنان العثمانية السابقة، في مسعى لخلق كيان ذي أغلبية مسيحية. ولرسم الحدود بين لبنان الكبير وسوريا، استندت السلطات الفرنسية إلى خريطة عثمانية تعود لعام 1911، كأساس لرسم خرائطها الخاصة.

وكانت الخريطة الفرنسية الصادرة عام 1920، وتحديثها اللاحق عام 1936، متدنية الجودة، ولم تُرفق بأي علامات حدودية ميدانية، فخط رفيع مرسوم على ورقة، قد يُترجم ميدانيا إلى عشرات الأمتار، ويُرجّح أن فرنسا، لم تكن في تلك الحقبة تتوقع مغادرتها النهائية للمنطقة، ولذلك فهي لم ترَ في ترسيم الحدود بين ممتلكاتها أولوية تُذكر، وربما لم تدرجه ضمن جدول اهتماماتها على الإطلاق.

ولم يؤدِ قيام دولتين مستقلتين بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحفيز واضح لمطلب ترسيم الحدود، لا في بيروت ولا في دمشق، فمنذ عام 1946 وحتى عام 2024، نظرت الحكومات السورية المتعاقبة إلى فصل فرنسا للبنان عن سوريا، بوصفه إجراء غير شرعي يستوجب الإلغاء، بالنسبة إلى دمشق، كان مجرد الاعتراف بالحدود مع لبنان، ناهيك عن ترسيمها، يتعارض مع قناعات وطنية راسخة. أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو حكاية مزارع شبعا، فقبل أن تخسر سوريا هضبة الجولان لصالح إسرائيل في يونيو/حزيران 1967، دارت مناقشات مع الجانب اللبناني، الذي سعى إلى نقل مزارع شبعا الواقعة في الجولان من السيادة السورية إلى اللبنانية، غير أن سوريا رفضت ذلك، وعلى الرغم من أن المطالبة اللبنانية استندت إلى مستندات ملكية يمتلكها مواطنون لبنانيون، فإن جوهر المسألة يعود إلى تقاعس فرنسا عن ترسيم الحدود بوضوح، بين الكيانات التي خضعت لولايتها في إطار انتداب عصبة الأمم.

جوهر المسألة يعود إلى تقاعس فرنسا عن ترسيم الحدود بوضوح بين الكيانات التي خضعت لولايتها في إطار انتداب عصبة الأمم

وقد أسهم هذا الإهمال في نشوء نزاعين لا يزالان قائمين بين لبنان وإسرائيل، وكلاهما متصل بمرتفعات الجولان: أولهما يتعلق بمسألة السيادة على مزارع شبعا، بما في ذلك تلال كفر شوبا، فيما يرتبط الثاني بموقع "الخط الأزرق" التابع للأمم المتحدة، الذي يقسم في وضعه الحالي قرية الغجر.

غير أن حدة هذين النزاعين يمكن التخفيف منها، أولا، حين تؤكد الحكومة السورية الجديدة للبنان أن الموقعين المعنيين هما أراضٍ سورية تحتلها إسرائيل؛ وثانيا، حين تعيد الأمم المتحدة النظر في الأدلة الخرائطية التي يُحتمل أنها جعلتها ترسم خط الانسحاب الإسرائيلي (الخط الأزرق)، في عام 2000، عبر قرية الغجر بدلا من شمالها، من شأن هذين الإجراءين أن يُقوّضا كليا ادعاء "حزب الله" بأنه "المقاومة اللبنانية" التي لا تزال تقاتل الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية، وهو الادعاء الذي يستند إليه في تبرير احتفاظه بسلاحه، أما بقية الحدود بين سوريا ولبنان، فهي تطرح إشكالات يمكن معالجتها من خلال تفاهمات ثنائية بين بيروت ودمشق، من دون حاجة إلى تدخل من جانب إسرائيل أو الأمم المتحدة.

أ.ف.ب
جندي لبناني على برج مراقبة في منطقة وادي خالد اللبنانية، وهي نقطة رئيسية لعبور المهاجرين غير الشرعيين من سوريا، شمال لبنان في 5 أكتوبر 2023

باستثناء ستة معابر حدودية رسمية، ومجرى نهر الكبير في شمال غرب لبنان، لا تكاد توجد على الأرض مؤشرات واضحة تُظهر بدقة أين ينتهي لبنان وتبدأ سوريا، ورغم هذا الغموض، قدّمت المملكة المتحدة، بدعم من الولايات المتحدة وكندا، وعلى مدى خمسة عشر عاما، دعما نوعيا لأفواج الحدود البرية الأربعة في لبنان، شمل بناء أبراج مراقبة حدودية متطورة في مناطق عكار والبقاع والعرقوب على امتداد الحدود غير المرسّمة، إلا أن الجهد الأمني اللبناني على الجبهة السورية، في ظل غياب جهد مماثل من الجانب السوري، بقي أشبه بمحاولة التصفيق بيد واحدة. واليوم، تتعرض القوات المسلحة اللبنانية لضغوط متزايدة لتحويل جزء من عناصرها نحو جنوب نهر الليطاني، بهدف نزع سلاح "حزب الله" وتأمين الجانب اللبناني من الخط الأزرق، تنفيذا لمتطلبات وقف إطلاق النار.

باستثناء ستة معابر حدودية رسمية، ومجرى نهر الكبير في شمال غرب لبنان، لا تكاد توجد على الأرض مؤشرات واضحة تُظهر بدقة أين ينتهي لبنان وتبدأ سوريا

مع ذلك، فإن غياب نظام الأسد يفتح الباب أمام إمكانية قيام تعاون سوري- لبناني فعّال في مجال أمن الحدود، فعلى المستوى العملي، من شأن ترسيم الحدود ميدانيا أن ييسّر مهام القوات العسكرية والأمنية في كلا البلدين، إذ يمكّنها من بسط سيطرتها على المناطق السكنية الواقعة ضمن نطاق ولايتها، ويتيح لها التنسيق في تنفيذ عمليات مشتركة لملاحقة الإرهابيين والمهربين وسائر الخارجين على القانون، ممن يستغلون وعورة التضاريس وغياب الرقابة للنفاذ عبر الفراغ الحدودي بين الدولتين. بل إن هذا النمط من التعاون، حين يستند إلى حدود متفق عليها ومحددة بدقة، قد يفضي إلى تشكيل وحدات أمنية مشتركة تتولى ضبط الحدود، وتُمنح صلاحية تنفيذ عمليات مطاردة تتجاوز حدود الولاية القضائية.

بيد أن وضع حدود واضحة ومتفق عليها بين الجانبين، لن يكون أمرا يسيرا، فسوريا لم تُبدِ استعدادا للتعاون إلا مؤخرا، بعد الإطاحة بنظام الأسد، عندما وقّعت، في شهر مارس/آذار من هذا العام، اتفاقا مع لبنان في المملكة العربية السعودية، لترسيم الحدود المشتركة وتنظيمها بصورة تعاونية، ومما يزيد في صعوبة الأمر التحديات الجسيمة التي تواجهها الحكومة السورية الجديدة، التي تسعى يوما بيوم إلى التعامل مع أزمات أمنية واقتصادية متراكمة خلّفها النظام السابق. وحتى إن تمكنت من تخصيص موارد للتعاون الحدودي مع لبنان، يبقى السؤال قائما: هل تمتلك سوريا الخبرة المطلوبة لمعالجة هذا الملف المعقّد، في ظل إرث طويل من الإهمال السياسي، وضعف دقة الخرائط، وواقع قرويين يقطنون في مناطق نائية، لا يلتفتون إلى حدود وطنية غير مرئية؟ المرجّح أن الجواب هو: لا.

مساعدة نزيهة

ولذلك سيتطلّب هذا التحدي، باختصار، مساعدة ووساطة نزيهة من طرف ثالث، وربما بالتنسيق مع شركاء دوليين. فالغاية المنشودة تتجاوز الجوانب الفنية والمعايير المثلى لترسيم الحدود السياسية، إنها تهدف إلى تهدئة واستقرار منطقة تمتد لأكثر من ثلاثمائة كيلومتر، وإلى تحييد الإرهابيين والمهربين، وعلى رأسهم تجار المخدرات وسائر المجرمين الذين يستغلون غموض الحدود، لممارسة أنشطة غير مشروعة وتفادي الملاحقة. ولا يمكن لهذه الجهود أن تُثمر من دون تعاون كامل بين سوريا ولبنان.

بوسع الولايات المتحدة، وربما بالتعاون مع المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية، أن تضطلع بدور بنّاء في هذا السياق، فمن خلال التنسيق مع بيروت ودمشق، يستطيع مكتب "الجغرافية والقضايا العالمية" في وزارة الخارجية الأميركية إنجاز دراسة مستعجلة للحدود المعنية، تسلّط الضوء على أبرز التحديات الواجب معالجتها تمهيدًا للترسيم. هل توجد نزاعات ثنائية مسجّلة أو مطالبات متضاربة؟ هل هناك مناطق مأهولة قد تتعرض لخطر التقسيم السياسي؟ وهل تُشكّل التضاريس عائقا أمام وضع حدود دقيقة؟ إن لهذا المكتب سجلا حافلا في دعم جهود الوساطة الأميركية عبر رسم الخرائط، وتقديم حلول مبتكرة لتحديد الحدود، سواء على اليابسة أو في البحر، كما يمكنه الاستفادة من خبرات متراكمة في المملكة المتحدة وفرنسا وسواهما.

رويترز
يحمل الناس أمتعتهم أثناء السير على الأنقاض، بعد غارة إسرائيلية، أثناء فرارهم من لبنان بسبب الأعمال العدائية المستمرة بين "حزب الله" وإسرائيل، عند معبر المصنع الحدودي مع سوريا، في لبنان، 4 أكتوبر

وبعد إنجاز التقرير، يمكن لواشنطن، بالتعاون مع شركاء دوليين، أن تتولى دورا قياديا في مجالين أساسيين: أولًا، تقديم الدعم الفني لسوريا من أجل تشكيل لجنة حدودية خبيرة تتعاون مع نظيرتها اللبنانية؛ وثانيا، توفير خدمات الوساطة لتجاوز العقبات الأكثر تعقيدا التي تحددها الدراسة، وقد يشمل هذا الدور الوسيط أيضا مساعدة البلدين على التوصّل إلى تفاهم بشأن خط الفصل البحري في البحر الأبيض المتوسط، بما يحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما، ويمكّنهما من استغلال الموارد الهيدروكربونية في قاع البحر.

للمرة الأولى، ثمة حكومة في سوريا تبدو متقبّلة بوضوح مسألة استقلال لبنان، وللمرة الأولى منذ عقود، يظهر في لبنان توجه جاد لبناء دولة تحتكر حيازة السلاح واستخدامه ضمن سلطتها الشرعية، هذه التحولات الإيجابية تتيح لواشنطن فرصة منخفضة الكلفة، لتعزيز الاستقرار في بلاد الشام، وإضعاف الجهات التي ساهمت في تقويضه، وبعضها متورط في سفك دماء أميركية، إنها فرصة لا ينبغي تفويتها.

font change