من التبعات المستمرة لما يقرب من ثلاثة عقود من الحكم الفرنسي في بلاد الشام، استمرار غياب الترسيم الواضح للحدود بين سوريا ولبنان، حتى بعد مرور نحو ثمانين عاما على استقلال البلدين، إن غياب حدود محددة المعالم، خصوصا في المنطقة التي يلتقي فيها سهل البقاع اللبناني بالأراضي السورية، ليس مجرد مسألة جيوسياسية عابرة، لأنه يعقّد قدرة الدولتين على التعاون في حماية أراضيهما من الإرهابيين، والمهربين وسائر الخارجين على القانون.
والسبب أن وجود حدود غير واضحة المعالم على الأرض، تصبح موضع استفزاز، ويمكن أن تتسبب في اشتباكات مسلحة، كما جرى في الماضي بالفعل، وربما تتسبب بذلك مستقبلا. واليوم، مع انهيار نظام الأسد في سوريا، بات من الممكن، بل من الضروري، معالجة قضية الحدود اللبنانية السورية بصورة نهائية، ففي عام 1920، قامت فرنسا، بصفتها قوة احتلال بعد الحرب، بفصل "لبنان الكبير" عن سوريا، موسعة بذلك أراضي منطقة جبل لبنان العثمانية السابقة، في مسعى لخلق كيان ذي أغلبية مسيحية. ولرسم الحدود بين لبنان الكبير وسوريا، استندت السلطات الفرنسية إلى خريطة عثمانية تعود لعام 1911، كأساس لرسم خرائطها الخاصة.
وكانت الخريطة الفرنسية الصادرة عام 1920، وتحديثها اللاحق عام 1936، متدنية الجودة، ولم تُرفق بأي علامات حدودية ميدانية، فخط رفيع مرسوم على ورقة، قد يُترجم ميدانيا إلى عشرات الأمتار، ويُرجّح أن فرنسا، لم تكن في تلك الحقبة تتوقع مغادرتها النهائية للمنطقة، ولذلك فهي لم ترَ في ترسيم الحدود بين ممتلكاتها أولوية تُذكر، وربما لم تدرجه ضمن جدول اهتماماتها على الإطلاق.
ولم يؤدِ قيام دولتين مستقلتين بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحفيز واضح لمطلب ترسيم الحدود، لا في بيروت ولا في دمشق، فمنذ عام 1946 وحتى عام 2024، نظرت الحكومات السورية المتعاقبة إلى فصل فرنسا للبنان عن سوريا، بوصفه إجراء غير شرعي يستوجب الإلغاء، بالنسبة إلى دمشق، كان مجرد الاعتراف بالحدود مع لبنان، ناهيك عن ترسيمها، يتعارض مع قناعات وطنية راسخة. أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو حكاية مزارع شبعا، فقبل أن تخسر سوريا هضبة الجولان لصالح إسرائيل في يونيو/حزيران 1967، دارت مناقشات مع الجانب اللبناني، الذي سعى إلى نقل مزارع شبعا الواقعة في الجولان من السيادة السورية إلى اللبنانية، غير أن سوريا رفضت ذلك، وعلى الرغم من أن المطالبة اللبنانية استندت إلى مستندات ملكية يمتلكها مواطنون لبنانيون، فإن جوهر المسألة يعود إلى تقاعس فرنسا عن ترسيم الحدود بوضوح، بين الكيانات التي خضعت لولايتها في إطار انتداب عصبة الأمم.