من التكايا إلى "ألعاب الجوع"... مصائد إسرائيلية لقتل الغزيين

جميع الاحتياجات مرتبطة بعضها ببعض

رويترز
رويترز
فلسطينيون يتجمعون لتلقي المساعدات، بما في ذلك الإمدادات الغذائية، في مركز توزيع في مدينة غزة، 26 يونيو

من التكايا إلى "ألعاب الجوع"... مصائد إسرائيلية لقتل الغزيين

منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتمدت الغالبية العظمى من السكان في الحصول على وجبات طعام مجانية على "تكايا" ومطابخ مجتمعية، كانت تعد وجبات يومية متنوعة، خاصة بعدما اضطر السكان إلى النزوح القسري من مناطق سكنهم، وفقدوا منازلهم، وبعضهم كان يفتقد السيولة النقدية، خاصة من كان يعمل بنظام المياومة.

وأُجبر أكثر من مليوني غزي على معاناة الجوع، والإصابة بأمراض مزمنة، نتيجة ممارسات إسرائيلية غير مسبوقة بحقهم على مدى قرابة العامين. أحمد المدهون، ناشط مجتمعي، وخبير في صناعة حملات المناصرة الرقمية، اضطر إلى النزوح مع عائلته، منذ بداية الحرب من شمال القطاع إلى جنوبه، في الأسبوع الثاني للحرب، ومع نزوحه وتجمع النازحين في مراكز إيواء في المستشفيات والمدارس ومناطق عدّة، استغل تجربته بالعمل معهم، خلال الحروب السابقة، حيث عمل متطوعا مجتمعيا في مراكز النزوح خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، وكذلك في العدوان الإسرائيلي خلال عام 2021.

يقول المدهون لـ"المجلة" إنه "تعلم خلال حروب سابقة، كيفية العمل مع النازحين، من خلال مساعدتهم في بناء حملات رقمية، بهدف سفرهم للعلاج بالخارج، وتوفير وجبات طعام لهم، والعمل معهم على تنفيذ أنشطة رياضية ونفسية"، لكنه يصف تجربته بالعمل مع النازحين في الحرب الحالية بالمختلفة عن التجارب السابقة، "فمنذ بداية نزوح الآلاف من السكان في النصف الثاني من أكتوبر عام 2023، وتكدسهم في عدة مناطق من بينها مدينة خان يونس، التي استوعبت العدد الأكبر منهم، وجدنا احتياجا كبيرا لتوفير الطعام، الناس نزحت بدون أي مواد، لا أخذوا غازا أو طناجر أو أكلا أو شربا، وفيه ناس طلعت من غير فلوس، وملجأهم كان إما خيمة أو فصلا مدرسيا غير مجهز لاستمرار الحياة، خاصة إعداد الطعام اليومي لأفراد العائلة. في تلك المرحلة، عمل الكثير من النشطاء المجتمعيين على تجهيز وجبات طعام يومية في مطابخ ومطاعم، بعد الحصول على تبرعات من خلال حملات رقمية، هدفت لتوفير الأموال اللازمة لعملهم، حيث كانت السوق المحلية لا تزال تمتلك مخزونا من المواد الغذائية الأساسية، التي اعتمدوا عليها في إعداد وجبات الطعام، كذلك استمر الأمر معهم بعدما اضطروا إلى النزوح كما سكان القطاع للمرة الثانية بعد مرور عدّة أشهر على الحرب، حيث نزح السكان من خان يونس إلى رفح أقصى الجنوب".

يشير المدهون، إلى أنهم "اعتمدوا في وجباتهم على التنوع في الطعام، حيث شملت الوجبات على الأرز والمعكرونة والعدس، وأحيانا اللحوم والخضراوات والبيض، وذلك بهدف أن تكون الوجبات متنوعة ومتناسبة مع احتياجات السكان من الناحية الصحية والجسدية، وشهرا بعد شهر من العمل المستمر، تخلله إغلاق للمعابر، ومنع لدخول المواد الغذائية الأساسية، ما اضطرهم أحيانا إلى تخفيض كميات الوجبات اليومية أو عدم القدرة على التنوع، حتى بدأ الكثير من مؤسسات الإغاثة الدولية، العمل على توفير المواد الأساسية فقط، من خلال التنسيق مع الجيش الإسرائيلي لدخولها".

بعد انهيار عملية التفاوض بين "حماس" وإسرائيل، أغلقت الأخيرة المعابر في بداية مارس الماضي، ثم تبعها بعد أقل من ثلاثة أسابيع استئناف الحرب

ومع استمرار عمليات النزوح والتنقل، وبعد إجبار السكان على النزوح للمرة الثالثة من مدينة رفح في بداية مايو/أيار 2024، عاد المدهون إلى خان يونس، ولكن هذه المرة قرر استئجار حمام زراعي، وعمل "تكية" لإعداد وجبات الطعام، بشراكة وتنسيق مع مؤسسات محلية ودولية، حيث كان يحصل من خلالها على المواد الأساسية، ويقوم هو وفريق من المتطوعين الشباب، بإعداد وجبات طعام يومية وتقديمها للنازحين، يضيف: "اعتمدنا بشكل كبير خلال تلك الفترة على شراء خضراوات من المزارعين، واستخدامها في إعداد الطعام. وفي تلك الفترة، كانت أسعار المواد الغذائية الأساسية قد بدأت في الارتفاع عن سعرها الطبيعي، كذلك غاز الطهي كان مفقودا من السوق بسبب إغلاق المعابر، وحتى الحطب والأخشاب ارتفعت أسعارها بسبب اعتماد الغزيين عليها في إشعال مواقدهم، إضافة إلى أزمة توفر السيولة النقدية، والتي بات الحصول عليها بمقابل نسبة، يقتطعها أشخاص يبيعون السيولة النقدية، مقابل الحصول على نسبة ما، بدأت من واحد في المئة ووصلت في يونيو/حزيران الحالي إلى 50 في المئة، وذلك نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي للبنوك وتوقفها عن العمل".

رويترز
فلسطينيون يتسلقون مركبة أثناء تجمعهم لتلقي إمدادات الإغاثة في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، 23 يونيو

كانت تجربة المدهون، ونشطاء مجتمعيين آخرين، قد ساهمت في تنامي خبراتهم في العمل اليومي، حتى وجد أنه من المهم أن يكون لديه مخزن خاص، يعتمد على مخزونه من المواد الأساسية في حال فقدها من الأسواق، ومع فتح إسرائيل للمعابر والسماح بتدفق شاحنات تحمل مساعدات، وأخرى تحمل بضائع للتجار خلال فترة وقف إطلاق النار أواخر يناير/كانون الثاني 2025، وبعد سماح الجيش للنازحين، بالعودة من الجنوب إلى الشمال، نقل عدد من النشطاء عملهم المجتمعي لخدمة السكان في المناطق الشمالية لغزة.

في بداية فبراير/شباط الماضي انتقل المدهون لتأسيس مطبخ مجتمعي، ومخزن لتخزين مواد أساسية لإعداد وجبات الطعام في المنطقة الغربية لمدينة غزة، حيث تركز العدد الأكبر من النازحين العائدين في مدارس، تحولت إلى مراكز إيواء، نتيجة فقدان منازلهم خلال الحرب، وتوسعت إنتاجاتهم اليومية من وجبات الطعام، حتى وصلت لإنتاج 7500 وجبة فردية يوميا، تكفي لإطعام قرابة 1500 عائلة من العائلات، التي فقدت منازلها وعملها، ولم تكن تمتلك أية مقومات للصمود. وبعد عدة أسابيع من عملهم، انهارت عمليات التفاوض بين حركة "حماس" وإسرائيل، وأغلقت الأخيرة المعابر في بداية مارس/آذار الماضي، ثم تبعها بعد أقل من ثلاثة أسابيع استئناف الحرب وشن الجيش الإسرائيلي هجماته العسكرية وتوغلاته البرية.

تزامنت سرقة وإنهاء عمل غالبية المطابخ المجتمعية والتكايا، من قبل مجموعات مسلحة- يُعتقد أنّ إسرائيل تقف خلفهم- مع إعلان الأخيرة موافقتها على عمل شركة أمن أميركية على توزيع المساعدات الإنسانية للغزيين

استغل المدهون ما هو متوفر في المخازن، واستمر في تقديم وجبات الطعام للنازحين، حاله كحال غيره من النشطاء الآخرين، في عملهم بمختلف مناطق ومدن قطاع غزة، وذلك حتى بداية مايو، حيث تعرض المخزن والمطبخ لهجمات من مسلحين محليين وللسرقة، طالت جميع المواد الغذائية المتبقية في المخزن، وحتى أدوات الطبخ الخاصة بعملهم تعرضت للسرقة. يقول المدهون: "كانت حملة منظمة، استهدفت غالبية مخازن المطابخ المجتمعية في منطقة غرب غزة، حيث التكدس الأعلى للنازحين، خلال يومين كانت معظم المخازن قد تعرضت للسرقة، ما أجبرنا على التوقف عن العمل وتقديم وجبات الطعام".

تزامنت سرقة وإنهاء عمل غالبية المطابخ المجتمعية والتكايا، من قبل مجموعات مسلحة- يُعتقد أنّ إسرائيل تقف خلفها- مع إعلان الأخيرة موافقتها على عمل شركة أمن أميركية على توزيع المساعدات الإنسانية للغزيين، بعد ضغوطات دولية وأميركية، نتيجة استمرار إغلاق المعابر، وانتشار المجاعة بين الغزيين، وانتشار حالات سوء التغذية، والتي راح ضحيتها 58 شخصا من بينهم 53 طفلا وطفلة، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة بغزة مؤخرا.

رويترز
يحمل فلسطينيون أكياسًا من الدقيق أثناء تجمعهم لتلقي إمدادات المساعدات في خان يونس، جنوب قطاع غزة، 26 يونيو

بدأت الشركة الأميركية في توزيع المساعدات في الأسبوع الأخير من مايو الماضي، كذلك سمحت إسرائيل بدخول شاحنات تحمل الطحين من عدة مناطق مختلفة، لكن الأمر لم يجر كما المفترض، حيث عمت الفوضى والسرقات، وأطلق الجيش النار على الجوعى خلال محاولتهم الحصول على الطعام، ما تسبب في قتل أكثر من 400 شخص، بعد نفاد الكميات البسيطة التي توفرها الشركة، أو خلال وصولهم لمناطق خطرة للحصول على الطحين من الشاحنات.

يقول الناشط المجتمعي المدهون: "إنّ إسرائيل عملت خلال فترة محدودة على تدمير المنظومة الإغاثية، واستبدالها بما يشبه (ألعاب الموت) الحقيقية، حيث تقدم كميات محدودة من المواد الغذائية سواء من الشركات الأميركية أو من خلال الشاحنات التي تحمل طرودا غذائية وطحينا تكفي لـ 10 أو 15 في المئة من أعداد الجائعين المنتظرين لوصولها، ما تسبب في قتل عدد كبير منهم خلال محاولة الحصول على نصيبهم بشكل ذاتي، بدلا من حصولهم على الطعام من (التكايا) بما يحفظ كرامتهم وأمنهم".

من جانبه، يشير رئيس "شبكة المنظمات الأهلية" في قطاع غزة أمجد الشوا، إلى أنّ عملية السرقة للشاحنات والطرود الغذائية، جاءت نتيجة لما تمارسه إسرائيل خلال حربها من استهداف متواصل لمنظومة القانون المحلي، والعمل على هندسة تجويع السكان بسبب إغلاق المعابر، ومنع تدفق المواد الغذائية، ومنع عمل المنظمات الدولية من العمل، وإجبارها للمواطنين على اتخاذ الخيار الأصعب "إما الموت جوعا، أو الاضطرار للحصول على شيء ليس من حقك، لكن المواطن صار يرى أنّ ما يدخل من طعام من حقه، حتى يبقى على قيد الحياة هو وأسرته، إذن هو لا يسرق بدافع السرقة، وإنما بدافع إجباره على اتخاذ الخيار الأصعب، والذي يعرضه لخطر القتل" حسب وصفه لـ"المجلة".

مارست إسرائيل هندسة الجوع، واستخدام المساعدات كسلاح لخلق فوضى، وتضييق الخناق على السكان بعد إجبار سكان القطاع على النزوح والتمركز، في مساحة لا تتجاوز 18 في المئة من مساحة القطاع الكلية، والبالغة 365 كيلومترا

خلال الأشهر الأخيرة السابقة، وصل عدد الوجبات التي تقدمها المطابخ المجتمعية والتكايا، إلى مليون وجبة طعام يوميا، ثم انخفضت لأقل من 50 ألف وجبة، نتيجة إغلاق المعابر، وتفريغ المخازن الخاصة بالمنظمات والمؤسسات الإنسانية، والتي كانت قد عملت على تخزين بعض المواد الغذائية، بالإضافة إلى تعرض عدد من المخازن للسرقة، قبل الوصول إلى مراحل غير مسبوقة من عمليات التجويع، التي فرضتها إسرائيل على مدار أشهر الحرب.

ويشير الشوا إلى ما قامت به إسرائيل من عمليات هندسة الجوع، واستخدام المساعدات كسلاح لخلق فوضى، وتضييق الخناق على السكان، بعد إجبار أكثر من مليوني إنسان من سكان القطاع على النزوح والتمركز، في مساحة لا تتجاوز 18 في المئة من مساحة القطاع الكلية، والبالغة 365 كيلومترا مربعا، بعد إجبارهم على النزوح القسري مؤخرا، وتصنيف معظم مناطق القطاع بمناطق عمليات عسكرية، إلى جانب الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع الغذائية، مع افتقاد المواد الغذائية الأساسية، وكذلك مياه الشرب والمحروقات اللازمة لتوفير الطعام والشراب، كل ذلك، أدى إلى انتشار حالة الفوضى المنظمة، والتي تسببت في مقتل العشرات مؤخرا، خلال محاولة الحصول على الطعام بشكل فردي.

ويرى رئيس "شبكة المنظمات الأهلية"، أنّ المخرج الوحيد لتجاوز الفوضى المنتشرة مؤخرا، يتم بفتح المعابر، وسماح إسرائيل بتدفق المساعدات والعمل وفق منظومة العمل الإنساني من خلال الأمم المتحدة، خاصة "الأونروا" التي تعمل في هذا المجال منذ 75 عاما، ولديها قاعدة بيانات و400 مركز توزيع للمساعدات، وليس مجرد عدد محدود من المراكز في مناطق عسكرية خطرة، مضيفا: "نحن بحاجة لتدفق المواد الغذائية ومواد التنظيف والمحروقات، جميع الاحتياجات مرتبطة بعضها ببعض، والمجتمع بحاجة لكافة المواد الأساسية، لتجاوز أزمة الجوع، وانتشار الأمراض المزمنة مثل سوء التغذية والكبد الوبائي".

font change