لبنان بين تقاطعات النار والتطبيع

يبقي "حزب الله" الدولة مكشوفة أمام الضغوط الأميركية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون يستقبل المبعوث الأميركي توماس باراك في قصر بعبدا، لبنان في 19 يونيو

لبنان بين تقاطعات النار والتطبيع

لبنان كما سائر المنطقة وخصوصا ساحات النزاع المفتوحة يعيش تداعيات الحرب الإيرانية–الإسرائيلية بين محاولة إسرائيل وأميركا تثبيت مفاعيل سياسية لنتائج الحرب ومحاولة طهرن في المقابل إفشال هذه المفاعيل من خلال التأكيد على انتصارها في المواجهة، ولا سيما من حيث صمود النظام وإلحاق الأذى بإسرائيل على الرغم من الضربات القاسية التي تعرضت لها إيران سواء باستهداف الهيكل القيادي أو البنى التحتية العسكرية والنووية.

وهذا سجال مفتوح بين إيران وإسرائيل بمشاركة أميركية مباشرة ولا يبدو أنه سيقفل قريبا، خصوصا في ظل اللغط الذي يحيط بحجم الدمار الذي لحق بالمنشآت النووية بعد الضربة الأميركية. مع العلم أن بناء إيران سردية انتصارها على صمود نظامها ضعيف الحجة نسبيا على اعتبار أن أيا من تل أبيب أو واشنطن لم يضعا إسقاط النظام الإيراني هدفا مباشرا للحرب. لكن أيا يكن من أمر فإن هذا السجال المتوقع هو جزء لا يتجزأ من حروب المنطقة حيث تكثر تأويلات النصر والهزيمة مدفوعة بعدم تحقيق أي طرف نصرا كاملا ضد خصمه أو إلحاق أي طرف هزيمة كاملة بخصمه.

لبنان ليس غريبا عن هذا السجال وقد شهده ولا يزال منذ وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" في 22 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، بحيث يصر "الحزب" على انتصاره بالرغم من كل الضربات التي تعرض لها ولا يزال، لكن حسابات الربح والخسارة تدخل هنا في منطق خاص جدا لا يخضع لأي معايير عسكرية أو سياسية واضحة بقدر ما يخضع لقدرة الأطراف، وبالأخص "حزب الله"، على رفع راية النصر، فيغدو الانتصار قيمة مجردة الغاية منها تغطية التمسك بالسياسات المتبعة، أي عدم إجراء أي مراجعة موضوعية تدفع باتجاه تبني سياسات جديدة، وهو ما يعمق بالضرورة الحالة المأزقية التي يعانيها "الحزب" ولبنان معا.

انكشاف "حزب الله" بالمقارنة مع إيران، يعيد تسليط الضوء على استراتيجية إيران في التعامل معه خلال الحرب وبعدها

وهذه نقطة من نقاط التشابه بين الحرب الإسرائيلية-الإيرانية والحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، مع فارق أن إيران وإن لم تحظ خلال الحرب بدعم إقليمي ودولي كامل على غرار ما حظيت به إسرائيل من أميركا، فإن الحرب جعلت إيران تستفيد من حسابات إقليمية ودولية معقدة لا تستطيع التسليم بحرية الحركة لإسرائيل في المجال الإقليمي، بينما "حزب الله" لم يحظ بغطاء كهذا لا خلال الحرب ولا بعدها، بحيث لم تتشكل أي دينامية إقليمية أو دولية تعارض استهدافه المتكرر من قبل إسرائيل.

وهذا انكشاف خطير لـ"حزب الله" بالمقارنة مع إيران، ويعيد تسليط الضوء على استراتيجية إيران في التعامل معه خلال الحرب وبعدها، بحيث لم تبد طهران استعدادا فوق الحد لتجنيبه "الكأس المرة" في عز تعرضه للقصف خلال الحرب كما أنها لم تقم بجهد استثنائي لإيقاف الهجمات الإسرائيلية ضده بعد وقف إطلاق النار.

رويترز
تصاعد الدخان من جبل الريحان، بعد قصف اسرائيلي على جنوب لبنان، 22 مارس 2025

وهنا تتقدم المعادلة المعقدة بين "حزب الله" وإيران خلال الحرب وبعدها على اعتبار أنه وبمقدار ما يفترض أن يتحرك الطرفان من ضمن استراتيجية واحدة فإن نتائج الحرب ضدهما والضغوط التي يتعرضان لها تخلق ظروفا موضوعية متصلة بكل منها بحيث لا يعود في الإمكان التعامل معهما كما لو أنهما فريق واحد تماما، أي كما لو أن أيا منهما لا يتصرف بمعزل عن الآخر متى ما أجبرته الظروف على النظر بمصلحته أولا، وهذا ينطبق على إيران، الطرف الأكبر في المعادلة، أكثر مما ينطبق على "حزب الله" وبما لا يقاس.

"الحزب" الذي يجد صعوبة في تبرير تمسكه بسلاحه لمواجهة إسرائيل بعد أن انهارت نظرية "توازن الرعب" التي تمسك بها لعقود لن تفوته الفرصة لإيجاد وظائف جديدة لسلاحه وهي هذه المرة مواجهة "التهديد السوري"

عليه فإذا قيل إن "حزب الله" ينتظر بدء المفاوضات الأميركية الإيرانية لعلها تفتح له باب إعادة التموضع في ظل المشهد الإقليمي المتغير والجديد، فهو لا يمكن أن ينتظرها باتجاه واحد، أي باتجاه أن تستطيع طهران إعادة تعويم نفسها كمشروع إقليمي يشمل بالدرجة الأولى إعادة إنتاج "حزب الله"، كقوة عسكرية كما كانت عليه الحال قبل الحرب. بل إن "الحزب" مضطر بحكم الظروف الموضوعية التي يفرضها الشرق الأوسط المتغير بعد الحرب، إلى وضع احتمال أن لا تستطيع إيران أن تنقذه في معرض إنقاذ نفسها، أي إذا خيرت إيران بين إنقاذ نفسها من دون "حزب الله"، وبين الغرق في مأزق داخلي وخارجي محكم، فهي على الأرجح ستختار الطريق الأول، أي إنقاذ نفسها دون أذرعها.

وهذا لا يعني أنها ستتخلى عن هذه الأذرع، لكنها سترضى بتحول وظائفها وأدوارها وأهمها العسكرية، على اعتبار أن فشل استراتيجية "الدفاع المتقدم" التي تبنتها إيران واستثمرت فيها لعقود يفرض على نظام "برغماتي" مثل النظام الإيراني أن لا يعيد الكرة مرة وكأنه يريد تحدي المستحيلات الإقليمية التي فرضتها الحرب الأخيرة، وخصوصا بعد سقوط النظام السوري الذي حول سوريا إلى "أرض الميعاد" الإيرانية في المنطقة.

لكن في المقابل ثمة سؤال عن قدرة "حزب الله" على تبني مسار خاص بمعزل عن إيران، أي أن يعاند توجها إيرانيا بتحويله قوة محلية بلا صواريخ ثقيلة ولا مسيرات نوعية، فيغدو مثل سائر الأحزاب اللبنانية التي لم تتخل تماما عن بنيتها الميليشياوية بأسلحة خفيفة ومتوسطة. وهو ما ينطبق على ما يبدو مع التفسير اللبناني لمقولة حصر السلاح بيد الدولة، وما يحظى أيضا بغض طرف أميركي، ما يحفز على التفكير في وظائف مستقبلية محتملة لهذا السلاح المتوسط والخفيف والذي ستكون ترسانة "حزب الله" منه هي الأكبر على الإطلاق!

فـ"الحزب" الذي يجد صعوبة أكثر فأكثر في تبرير تمسكه بسلاحه لمواجهة إسرائيل بعد أن انهارت نظرية "توازن الرعب" التي تمسك بها لعقود حتى رآها تنهار فجأة، وبعد أن قتل العشرات من كوادره واستهدفت مواقعه واحدا تلو الآخر بعد وقف إطلاق النار من دون أن يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل، بعد كل ذلك لا تفوته الفرصة لإيجاد وظائف جديدة لسلاحه وهي هذه المرة مواجهة "التهديد السوري". وقد بدأت بالفعل ماكينة "الحزب" السياسية والإعلامية تروج لهذه الوظيفة الجديدة القديمة، بزعم أن جحافل من المقاتلين يحتشدون على الحدود الشرقية مع سوريا.

مع العلم أن المناوشات الأخيرة على جانبي الحدود خلال الشتاء الماضي والتي شارك فيها "الحزب" مباشرة، كانت قد أظهرت بالنظر إلى سرعة احتوائها أن الحدود بين البلدين أصبحت جزءا من الوضع السوري الجديد المدعوم إقليميا ودوليا إلى أبعد حدود، وبالتالي فإن أي عبث بالأوضاع هناك هو بمثابة المساس بخطوط إقليمية ودولية يصعب التصديق أن النظام الجديد في سوريا مستعد للمساس بها، ولأجل ماذا؟   

أحاديث الصالونات ووسائل التواصل في لبنان، تطرح تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل كأنه أمر ملح ومستعجل ربطا بما يروج عن تطبيع سوري-إسرائيلي قريب

حتى إن نظرية الضغط المزدوج التي يروج لها "الحزب" على قاعدة أنه يتعرض لضغط إسرائيلي جنوبا وسوري شرقا، تفترض تقاطعا بين دمشق وتل أبيب لا يمكن الاستدلال بدليل واحد عليه، إلا إذا أريد القول إن "المباحثات التمهيدية" التي تجريها إدارة الرئيس دونالد ترمب لإبرام اتفاق أمني محتمل بين إسرائيل وسوريا، هي الدليل على تقاطع أجندتي الجانبين إزاء "حزب الله"، وهذه حجة يعوزها المنطق بالنظر إلى أن مسار "العلاقة" بين سوريا وإسرائيل منذ سقوط نظام الأسد لا يسمح بافتراض مثل هذا التقاطع. كما أنه لا يمكن التصور أن يكون الاشتباك مع "حزب الله" أولوية سورية راهنة في ظل الأولويات الداخلية الملحة.

وقبل هذا وذاك فإن شبكة التقاطعات الدولية والإقليمية حول سوريا الجديدة تجعل من المحال التفكير بحصول سيناريو كهذا، لكن الأهم أن شيوع سيناريو كهذا في لبنان يدل على أن البلد محكوم بعقل يعيش بتصورات الماضي ويعجز عن إدراك موقع سوريا في الخريطة الإقليمية الجديدة، بحيث إنه ما عاد يمكن النظر إلى الوضع اللبناني إلا كتتمة أو جزء من الوضع السوري.  

محمود الزيات- أ.ف.ب
يصطف الناس خلف الأسلاك الشائكة التي أقامها الجيش اللبناني استعدادا لدخول قرية العديسة في جنوب لبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي منها، لبنان في 18 فبراير

ولذلك ليس مستغربا أن يكون السفير الأميركي لدى تركيا، والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى سوريا توم برّاك، هو من يتولى الملف اللبناني في الإدارة الأميركية راهنا، وهذا دليل على ترابط ملفي البلدين في الأجندة الأميركية. وإذا كان العنوان الأبرز لمهمته حاليا هو معالجة الدولة لملف سلاح "حزب الله"- ضمن مهلة زمنية محددة لا تتجاوز نوفمبر المقبل بحسب ما نشرت "رويترز" الثلاثاء- فإن أحاديث الصالونات ووسائل التواصل في لبنان، تطرح تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل كأنه أمر ملح ومستعجل ربطا بما يروج عن تطبيع سوري-إسرائيلي قريب. لكن من الواضح أن لا هذا ولا ذاك يكتسبان صفة العجلة والضرورة، بيد أن الأهم في ذلك كله هو القابلية المتزايدة للسجال اللبناني للغرق في عناوين ملتبسة بل ووهمية للالتفاف على عنوان رئيس هو ملف سلاح "حزب الله"، والذي من دون معالجة جدية و"رسمية" له سيظل لبنان غارقا في دوامة أزماته، وفي مقدمتها راهنا استمرار إسرائيل لخرق أجوائه وقصف أراضيه دون رادع. والإصرار على هذه المعالجة لا ينطلق من خلفية الانقسام اللبناني التقليدي، مع سلاح "الحزب" أو ضده، بل أخذا في الاعتبار المتغيرات الإقليمية التي أظهرت حقيقة موازين القوى في المنطقة، وبالتالي فإن التفكير في ردّها لا يمكن أن يأخذ إلا شكل مشاريع انتحارية. مع اس

وهنا بيت القصيد، فطالما أن "حزب الله" يركز على أن مسألة التصدي للهجمات الإسرائيلية ومعالجة آثار الحرب الأخيرة هي مسؤولية الدولة، من دون أن يملك استعدادا جديا للبت في مسألة سلاحه الثقيل، فهو بذلك يبقي الدولة اللبنانية مكشوفة أمام الضغوط الأميركية وعاجزة، موضوعيا، عن تحقيق ما يطالبها به، لأنه بتمسكه بسلاحه يجعل لبنان خارج الحسابات الإقليمية والدولية التي باتت ترى في حرية الحركة الإقليمية لإسرائيل خطرا استراتيجيا عليها. بالتالي فما دامت الدولة اللبنانية عاجزة حتى الآن عن أن تكون جزءا من هذه الحسابات فهذا يعني أنها ستظل عرضة للضغوط، إلا إذا كان "الحزب" ينظر إلى استمرار هذه الضغوط كأداة غير مباشرة لتآكل السلطة الجديدة، حتى لو أدى ذلك كله إلى جولة جديدة من الهجمات الإسرائيلية المكثفة ضد لبنان. فإذا كانت إيران تشترط البدء بمفاوضات نووية جديدة بضمان عدم قصفها من قبل أميركا مرة ثانية، فإن الدولة اللبنانية تخضع عند كل غارة أميركية لاختبار الضمانة الأميركية... المتآكلة!

font change

مقالات ذات صلة