إيطاليا الحائرة بين رئيسة الحكومة اليمينية وزعيمة المعارضة

تناقضات التركيبة السياسية تسهل مهمة ميلوني

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلتقي رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في 17 أبريل 2025 في واشنطن العاصمة

إيطاليا الحائرة بين رئيسة الحكومة اليمينية وزعيمة المعارضة

تتميز إيطاليا بواقع سياسي فريد من نوعه على الصعيد الأوروبي. واقع متنوع وتركيبة تعددية تشبه جغرافيا إيطاليا وجمالها الطبيعي وثقافتها الغنية. وهي تعيش اليوم صراع ضدين عاشته منذ أكثر من مئة سنة، حين أسس بينيتو موسوليني الحركة الفاشية وسيطر على السلطة عام 1922 ومارس الحزب الشيوعي المقاومة المسلحة بقيادة المفكر أنطونيو غرامشي حتى سقوط موسوليني الذي تم إعدامه عام 1945 فيما استمر الحزب الشيوعي حتى 1989 حين استبق أمينه العام الشاب أكيللي أوكتو سقوط الاتحاد السوفياتي بسنتين معلنا انتهاء التجربة الشيوعية. واليوم يستمر الصراع بين سيدتين تترأس الأولى حزب "إخوة إيطاليا" وريث الحركة الفاشية الذي تتزعمه منذ عشر سنوات رئيسة الحكومة الحالية جورجيا ميلوني (48 سنة) والثانية اللي شلاين (38 سنة) التي تقود منذ أكثر من سنتين الحزب الديمقراطي المتفرع من الحزب الشيوعي، وهي متعددة الجنسيات الإيطالية والسويسرية والأميركية.

وقد سادت هذه الحالة بعد فترة التسعينات التي قضت خلالها حملة قضاة "الأيادي النظيفة" ضد الفساد والرشوة على معظم الأحزاب التي كانت تتصدر المسرح السياسي كالحزب الديمقراطي المسيحي الذي كان الأقوى والمسيطر على الحكم منذ سقوط الفاشية لغاية 1992، والحزب الاشتراكي الذي كان يتزعمه رئيس الحكومة الأسبق بتينو كراكسي الذي اتهم بفضائح فساد رفضها باستمرار ولجأ إلى تونس وتوفي هناك، والحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الجمهوري والحزب الليبرالي، جميعهم انهاروا بسبب تورط قياديين ومسؤولين منهم في الفساد، فيما نجا الحزب الراديكالي الذي لم تطاله الفضائح، واشتهر بخوض معارك اجتماعية لصالح المرأة مثل الطلاق والإجهاض وأيضا حرية تدخين الحشيشة. ولكن هذا لم يمنع نشوء أحزاب جديدة تؤكد غناء وتنوع الحياة السياسية الإيطالية، إذ لم يقتصر الحكم يوما على الحزب صاحب الأكثرية النيابية وإنما دائما على ائتلاف يشارك فيه عدد من الأحزاب. وإلى جانب السيدتين اللتين تقودان لأول مرة الحزبين الرئيسين هناك أحزاب يمينية متحالفة مع ميلوني وتشاركها في الحكومة مثل حزب "إيطاليا إلى الأمام" الذي أسسه رجل الأعمال سلفيو بيرلسكوني الذي توفي منذ سنتين، والذي ترأسه منذ عام 1992 فور انهيار الحزبين الديمقراطي المسيحي والاشتراكي، وكانا حزبي السلطة، خوفا على أعماله ومشاريعه وهو الذي كان يملك ثلاث محطات تلفزيونية وفريق ميلان أشهر الأندية الإيطالية في كرة القدم. واليوم هبطت شعبية هذا الحزب تحت العشرة في المئة إلى مستوى 8 في المئة ويرأسه نائب رئيسة الحكومة ووزير الخارجية الحالي أنطونيو تاياني، الباهت سياسيا والذي يحاول المحافظة على توجهات التيار الأوروبية، واتخاذ مواقف وسطية. وهناك الحليف الآخر "حزب الرابطة" العنصري الذي يتزعمه ماتيو سالفيني الذي يشغل أيضا منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الأشغال والبنى التحتية، وهو حزب يشتهر بتعصبه لإيطاليي الشمال "الأكثر حضارة" برأيه وأصحاب رؤوس أموال ومشاريع، ولكنه يحاول مؤخرا التخفيف من كرهه للجنوبيين الطليان والأجانب، وبالأخص المهاجرين الذين يشكلون ظاهرة مقلقة لإيطاليا إذ إن توافدهم بالمئات هو شبه أسبوعي بحرا بين تونس وجنوب إيطاليا.

المعارضة التي يتزعمها الحزب الديمقراطي تضم حركة "الخمس نجوم" التي أسسها أحد الفنانين المعروفين عام 2009 كردة فعل على "تقاعس الأحزاب البيروقراطية"

وقد أعلنت ميلوني إجراءات حازمة لردع هذه الظاهرة التي يصعب معالجتها، وربطت بشكل شعبوي مسألة الحصول على الجنسية بها رافضة اقتراح قانون لتقصير مدة الحصول عليها إلى خمس سنوات كما هو متبع في معظم الدول الأوروربية. ويجاهر زعيم الرابطة بولائه الأطلسي والأميركي معلنا موقفا مزايدا على رئيسة الحكومة في تأييده سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولكنه مع ذلك لا يتخطى هو أيضا نسبة 8 في المئة في نسبة التأييد لحزبه الذي لا يحظى بشعبية في جنوب إيطاليا وجزرها.

أ ف ب
اللي شلاين، زعيمة الحزب الديمقراطي اليساري الإيطالي، تلقي كلمة خلال اجتماع انتخابي حول الانتخابات الأوروبية، في الأول من يونيو 2024 في ميلانو.

قد لا تتكرر المفاجأة التي مكنت ميلوني زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" من تحقيق القفزة التي حققتها في الانتخابات الأخيرة أو الحفاظ عليها، بعد أن حملتها إلى رئاسة الحكومة في 22 أكتوبر 2022، من موقع هامشي بنسبة 4 في المئة إلى الموقع الأول بـ24 في المئة. وهي اليوم بحسب آخر استطلاعات الرأي تراوح في المكان نفسه مقابل 23 في المئة تتموضع فيها زعيمة الحزب الديمقراطي. أما المعارضة التي يتزعمها الحزب الديمقراطي فهي تضم حركة "الخمس نجوم" التي أسسها أحد الفنانين المعروفين عام 2009 كردة فعل على "تقاعس الأحزاب البيروقراطية" وتحديدا الحزب الشيوعي السابق الذي خسر قسما لا بأس به من شعبيته جراء نشوء "الخمس نجوم". ولكن هذا الفنان الفكاهي لم يدخل البرلمان، وقرر بعد فترة ترك رئاسة الحزب لأكاديمي جيء به كرئيس  للحكومة في مرحلة انتقالية كانت الأحزاب فيها في حالة عجز وضياع، وأثبت هو نجاحه. وقد خاض جوزيبي كونتي معركة عنيفة ضد رئيسة الحكومة واتهمها بـ"الصمت والتواطؤ" لعدم إدانتها جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ويحاسبها بشكل دقيق وتفصيلي على سياستها الاقتصادية الفاشلة تجاه الطبقات الشعبية وتحدي البطالة. غير أن مواقفه في السياسة الدولية تشوبها الضبابية والميوعة عندما يعلن دعمه لأوكرانيا ولكنه "يتفهم" في الوقت نفسه موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم تتخذ الحكومة الإيطالية موقفا من الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، عدا موقف عام ضد الحرب فيما لزمت رئيسة الحكومة الصمت وراح وزير الخارجية يجد تبريرات وأعذار لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والحفاظ على أمنها". وهناك أيضا في المعارضة حزب "الخضر" الذي يعطيه الاستطلاع نسبة 6 في المية من أصوات الناخبين، كما أن هناك أحزابا وتيارات يسارية متواضعة الحجم تعارض وإنما على طريقتها من دون التنسيق مع زعيمة الديمقراطيين شلاين.

مراهنة ميلوني على الرئيس الأميركي لا تبدو في محلها، إذ إن سياسة رفع التعريفات الجمركية التي ينتهجها ترمب تطال إيطاليا وتحرج رئيسة الحكومة التي كانت من أول المهنئين لترمب بانتخابه

لا شك أن الوضع السياسي والاقتصادي ليس مريحا لإيطاليا، وبطبيعة الحال لرئيسة الحكومة ميلوني التي تحاول التوفيق بين موقعها السياسي والمحافظة على شعبيتها، محاولة في الوقت عينه سحب أوراق القوة من يد المعارضة من خلال السعي لحل المشاكل الكثيرة التي تعترض ظروف العمل وزيادة معدل البطالة فيما يسعى حلفاؤها إلى كسب أصوات على حسابها، خاصة وأن حزبها لا يزال يضم أشخاصا من مخلفات الحركة الفاشية مثل رئيس مجلس الشيوخ الحالي، والعامل الآخر هو أن الانتخابات النيابية أصبحت على الأبواب. أما على الصعيد الأوروبي والدولي، فإن مراهنة ميلوني على الرئيس الأميركي لا تبدو في محلها، إذ إن سياسة رفع الرسوم والتعريفات الجمركية التي ينتهجها ترمب تطال إيطاليا وتحرج رئيسة الحكومة التي كانت أول الواصلين إلى واشنطن لتهنئة ترمب بانتخابه. وعلى المستوى الأوروبي فإن ميلوني تويد أوكرانيا ضد الاجتياح الروسي، وهي زارت أكثر من مرة كييف للتضامن مع رئيسها زيلنسكي. ولكنها تحاول في الوقت نفسه مسايرة واشنطن برفض الدعم العسكري أو إرسال سلاح إلى أوكرانيا، وهذا موقف يحرجها داخليا إذ إن هناك أكثرية إيطالية تقف إلى جانب أوكرانيا التي هي بالنتيجة دولة أوروبية، ويخاف البعض من أن تتوسع الحرب وتمتد إلى إيطاليا، كما أن هنالك في المقابل شريحة واسعة وخاصة شبابية ترفض الحرب كموقف مبدئي. كما أن ميلوني غير حاضرة أوروبياً منذ فترة، وما قامت به موخرا هو مسارعتها للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس كي توازن القمة الألمانية-الفرنسية التي جمعت المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في برلين للتنسيق في دعم أوكرانيا.

أ ف ب
ميلوني تجتمع مع زعماء أوروبيين ودوليين خلال قمة مجموعة السبع (G7) في كندا في 17 يونيو 2025

الخطوة الوحيدة التي تعتبرها الحكومة ووزير خارجيتها الذي كان سابقا ممثل إيطاليا في الاتحاد الأوروبي إنجازا دبلوماسيا هي أنها تمكنت من استضافة المفاوضات الأميركية-الإيرانية في روما التي انطلقت منذ نحو شهرين، علما أن الاستضافة كانت فقط جغرافية إذ إن المفاوضين كانوا يجتمعون في مقر السفارة العمانية على الأرض الإيطالية، ولم تشارك إيطاليا فيها، ولا دور لها إلا السهر على حفظ أمن الوفدين الأميركي والإيراني. وقد تقرر نقل هذه المفاوضات إلى مكان آخر ثم وقعت الحرب. وغير ذلك لا دور أو حضور عربيا لإيطاليا اليوم في الشرق الأوسط سوى مشاركتها في القوات الدولية لحفظ السلام "يونيفل" في جنوب لبنان والتي تسلمت قبل أيام قيادتها.

الدستور الإيطالي يلحظ إمكانية إجراء استفتاء حول مسألة ما بإمكان أي طرف أو مواطن عادي أن يطرحه، شرط تجميع عدد معين من التواقيع كي يتاح طرحه على التصويت

غير أن هذا لا يعني أن رئيسة الحكومة وزعيمة حزب "إخوة إيطاليا" في وضع ميؤوس منه، وإنما على العكس فقد جاءت ظاهرة الاستفتاء حول قضية معينة والمعتمدة في إيطاليا لتعطيها نفحة أوكسجين. إذ إن الدستور الإيطالي يلحظ إمكانية إجراء استفتاء حول مسألة ما بإمكان أي طرف أو مواطن عادي أن يطرحه، شرط تجميع عدد معين من التواقيع كي يتاح طرحه على التصويت، وبإمكان هذا الاستفتاء أن يكون دستوريا أو سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو عمليا. وقد حصل أن كانت النتيجة تغير قضايا مهمة مثل التعديل الذي أدخل قبل سنوات على قانون الانتخاب أو مثلا منع الصيد الذي هللت له جماعة الحفاظ على البيئة، أو محاولة فاشلة لمنع حق المرأة في الإجهاض، وهذه معركة هللت لها منظمات وهيئات الدفاع عن حقوق المرأة. أما اليوم فقد كان مطروحا للاستفتاء أربعة قضايا في مقدمتها مسألة تقصير مدة الحصول على الجنسية الإيطالية ومسائل لها علاقة بسنين الخدمة والتقاعد من العمل، وكذلك الشروط الصحية التي يجب أن تتوفر خلال ممارسة العمل وغيرها من الأمور الحيوية. وبالمناسبة طريقة صياغة المواضيع المطروحة للاستفتاء أمر مهم إذ إجمالا تكون اللغة صعبة ومعقدة وتدفع الإيطالي في كثير من الأحيان إلى الاختيار الخاطئ أو إلى مقاطعة الاستفتاء. وهذا ما حصل عمليا إذ لم يحصل الاستفتاء حول الجنسية على الحد الأدنى المطلوب من الأصوات فيما قاطع الناخبون التصويت لمواضيع الاستفتاءات الأخرى، وذلك لعدم تمكنهم من استيعاب ما هو المطلوب. وهكذا لم تحصل معظم المواضيع المطروحة على الاستفتاء على الحد الأدنى المطلوب من المقترعين. والمفارقة التي خدمت ميلوني هي أن الاستفتاءات طرحتها النقابات العمالية وجمعت التواقيع المطلوبة لإجرائها، وأقوى النقابات هي التي كانت تتبع للحزب الشيوعي واليوم لا تزال الأقوى وفي الصف اليساري المعارض لحكومة يمينية، أما النقابات الأخرى فواحدة كانت محسوبة على الحزب الاشتراكي الذي لم يعد موجودا، وأخرى كانت مقربة من الحزب الديمقراطي المسيحي الذي اختفى هو أيضا من المسرح السياسي… أي بمعنى آخر ليس هناك نقابة واحدة تدعم سياسة الحكومة وكان الاعتقاد أن هذه الاستفتاءات ستقصم ظهر رئيسة الحكومة وبالتالي الحزب الذي تقوده، وهذا لم يحصل وشكل ربما المفاجأة المعكوسة.

font change