ترمب والحرب والخديعة

إلى أي حدّ تُعتبر الخديعة الدبلوماسية المخادعة شائعة بين الدول؟

إيوان وايت
إيوان وايت

ترمب والحرب والخديعة

في الثامن عشر من يونيو/حزيران، وفيما كانت ساريتان جديدتان تُنصبان في البيت الأبيض، لم يكن الرئيس دونالد ترمب يرفع علم الدولة، بل راية الخداع الدبلوماسي. استغل ترمب اللحظة للإدلاء بتصريحات مبهمة بشأن سياسته تجاه إيران، عقب الضربات الإسرائيلية التي استهدفتها. وأثناء حديثه بجانب إحدى الساريتين، وقد اصطف خلفه عمّال بناء يرتدون خوذات واقية، انخرط في تواصل متشعب مع الصحافيين.

قال بنبرة غامضة وهو يتأمل المشهد: "الأسبوع المقبل سيكون كبيرا للغاية، بل ربما أقل من أسبوع، وربما أقل"، مشيرا إلى أن المحادثات الدبلوماسية مع إيران بشأن برنامجها النووي لا تزال ممكنة.

وفي اليوم التالي، تلت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض بيانا صادرا عن ترمب قال فيه إنه "سيتخذ قراره بشأن المشاركة في الحرب من عدمها خلال الأسبوعين المقبلين".

كان ذلك تضليلا متعمدا، إذ إن القرار كان قد صدر بالفعل، موجها القاذفات الأميركية من طراز "بي-2" للإقلاع بعد يومين من قواعدها في ولاية ميزوري، في مهمة استغرقت 37 ساعة ذهابا وإيابا لإسقاط عدة قنابل بلغ وزنها نحو 30 ألف رطل على المواقع النووية الإيرانية.

جاءت هذه المراوغة الأميركية في أعقاب الخداع الإسرائيلي، حين هاجمت إسرائيل البرنامج النووي الإيراني في وقت كانت فيه طهران منخرطة في محادثات جارية مع الولايات المتحدة، كان من المقرر أن تشمل اجتماعا بعد يومين من الهجوم.

التضليل بغية خداع العدو ليس بالأمر الجديد. وثمة أمثلة لا تحصى على مر التاريخ لمثل هذه السلوكيات

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي حدّ تُعتبر هذه السلوكيات الدبلوماسية المخادعة شائعة بين الدول؟ من المؤكد أنها نادرة، ويبدو أن هذا المثال يقدّم دليلا إضافيا على حركة آخذة في التنامي منذ نهاية الحرب الباردة، تنحرف شيئا فشيئا عن الأعراف الراسخة في العلاقات الدولية.

إن التضليل بغية خداع العدو ليس بالأمر الجديد. وثمة أمثلة لا تحصى على مر التاريخ لمثل هذه السلوكيات. إلا أن الفارق المهم هو أن الأمثلة التاريخية للخداع- مع بعض الاستثناءات التي سأتناولها لاحقا- غالبا ما تكون خلال صراع مستمر بين أطراف مختلفة، أو بين دول قومية على مدى القرون القليلة الماضية.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب

يعود المثال الأشهر على الخداع خلال الحروب إلى آلاف السنين، ويتمثل في حصان طروادة الذي أصبح رمزا متداولا للخداع في اللغة الإنكليزية. وبدا كأن الجيوش اليونانية التي كانت تخوض غمار حرب مع طروادة قد أخلت ساحة المعركة، تاركة وراءها حصانا خشبيا كبيرا، ليبدو كعرض سلام لأعدائها الطرواديين. وبالطبع، اختبأ جنود يونانيون داخل الحصان، خرجوا لاحقا وتمكنوا من هزيمة الطرواديين والاستيلاء على مدينتهم.

ومن الأمثلة البارزة الحديثة التي شقت طريقها إلى عالم الثقافة الشعبية عبر المسرح والسينما عملية "اللحم المفروم" في الحرب العالمية الثانية. وفيها حاولت أجهزة الاستخبارات البريطانية تضليل ألمانيا النازية بشأن الغزو المقرر لصقلية عام 1943، وذلك عن طريق إلقاء جثة متشرد بعد إلباسه الزي العسكري لضابط من البحرية الملكية قبالة سواحل إسبانيا، مع خطط مزيفة لإقناع الألمان بأن الهدف الحقيقي للغزو هو سردينيا وليس صقلية. وبعد عام، حاول الحلفاء خداع النازيين بطريقة مماثلة وإيهامهم بأن غزو فرنسا الذي طال انتظاره سيأتي من بادوكاليه، وليس من شواطئ نورماندي، كما حدث في السادس من يونيو/حزيران 1944.

لماذا تنخرط أي حكومة في محادثات دبلوماسية مع خصم ما إذا كان الهدف منها مجرد التمويه على الهجوم؟

ولكن ماذا عن الدبلوماسية المخادعة؟ يبدو أن طبيعة الدبلوماسية ذاتها ينبغي أن تخفف من خطر خداع الخصم لضمان المصداقية أثناء المفاوضات. ففي النهاية، لماذا تنخرط أي حكومة في محادثات دبلوماسية مع خصم ما إذا كان الهدف منها مجرد التمويه على الهجوم؟ ولعله من غير المستغرب إذن أن تبدو مثل هذه الأمثلة نادرة. إذ يشير النمط التاريخي إلى أن البلدان الأكثر استعدادا لممارسة الخداع الدبلوماسي تميل إلى أن تكون استبدادية بطبيعتها.

AFP
صورة التُقطت في يونيو 1940 لهتلر يزور مقبرة لانغمارك الألمانية لتكريم جنود الحرب العالمية الأولى، خلال زيارته للقوات النازية عند الحدود الفرنسية-البلجيكية

تأتي ألمانيا النازية في مقدمة الأنظمة التي لجأت لمثل تلك الممارسات، وهي التي انتهكت على الدوام الأعراف التي ترسخت على مر القرون السابقة، ونفذت جرائم قتل جماعي على نطاق واسع خلال "الهولوكوست". قبل اندلاع الحرب في عام 1939، لجأ النازيون لجهود دبلوماسية مخادعة. ويبرز مؤتمر ميونيخ عام 1938 كمثال حي على هذه الممارسات، وهو مثال تستمر الإشارة إليه على الدوام في القرن الحادي والعشرين.

وكما هو معروف، تمحور مؤتمر ميونيخ حول تشيكوسلوفاكيا وجزء من البلاد يُعرف باسم سوديت، حيث معظم السكان يتحدثون الألمانية. سعى النازيون بقيادة أدولف هتلر إلى ضم المنطقة كجزء من مشروع ألمانيا الكبرى. وفي محاولة لاحتواء ألمانيا النازية وتجنب اندلاع حرب أوروبية، التقى قادة فرنسا والمملكة المتحدة بهتلر في ميونيخ أواخر سبتمبر/أيلول عام 1938.

اشتهر دونالد ترمب في عالم العقارات بممارساته التجارية المثيرة للريبة. وعندما دخل البيت الأبيض في ولايته الأولى، كان محاطا بمحترفين قادرين على الحد من هذه العادات نوعا ما

متجاهلين حكومة تشيكوسلوفاكيا، توصل القادة إلى اتفاق لتسليم سوديت إلى ألمانيا. ووعد هتلر بأن ألمانيا لن تكون لديها أي طموحات إقليمية في أوروبا.

وكما يخبرنا التاريخ، لم تنجح سياسة الاسترضاء في ثني هتلر عن عدوانه النازي. فقبل أشهر من اجتماع ميونيخ، كان قد وافق على خطط لغزو تشيكوسلوفاكيا، إلى جانب الاستعدادات العسكرية الأوسع لصراع أوروبي أكبر. وفي مارس/آذار 1939، احتلت ألمانيا بقية تشيكوسلوفاكيا.

وفي أغسطس/آب 1939، كان بجعبة هتلر حيلة دبلوماسية أخرى عندما كان النازيون يستعدون لغزو بولندا. فقد وقعت حكومته معاهدة عدم اعتداء مع جوزيف ستالين والاتحاد السوفياتي، تضمنت اتفاقا سريا بين البلدين لتقسيم أوروبا الشرقية. بيد أن هتلر رأى في الاتفاقية مجرد إجراء مؤقت، إذ لطالما آمنت الأيديولوجية النازية بألمانيا الكبرى التي ستضم أراضي في الشرق، بما في ذلك أجزاء من الاتحاد السوفياتي. وفي النهاية، يبدو أن خدعة الاتفاقية انطلت على ستالين وحده، الذي استخف مرة بعد أخرى بالمعلومات الاستخباراتية قبيل الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي وغيرها من الأدلة على استعدادات النازيين لعملية بارباروسا التي بدأت في 22 يونيو 1941.

AFP
لوحة إعلانية تصور صواريخ باليستية إيرانية قيد الخدمة، مع نص باللغة الفارسية يقول "إسرائيل أضعف من شبكة العنكبوت" في وسط طهران في 15 أبريل 2024

وبالنظر إلى دروس الماضي، قد يفضي الإجراء الأميركي ضد إيران إلى تداعيات وخيمة. لماذا ستشارك أي حكومة، حتى لو كانت على عداء محدود مع الولايات المتحدة، في جهود دبلوماسية في ظل المثال الإيراني الذي دلَّ على استخدام المحادثات كغطاء لشن ضربات عسكرية؟ هل ستميل كوريا الشمالية مثلا، إلى المشاركة في أي جهود دبلوماسية مستقبلية مع حكومة الولايات المتحدة، بما فيها إدارة ترمب؟ لطالما بدت فكرة الوساطة النزيهة للولايات المتحدة موضع شك، وخاصة في ظل دعمها المطلق لإسرائيل، واليوم نجد أن أفعالها تحطم هذا المفهوم تماما.

اشتهر دونالد ترمب في عالم العقارات بممارساته التجارية المثيرة للريبة. وعندما دخل البيت الأبيض في ولايته الأولى، كان محاطا بمحترفين قادرين على الحد من هذه العادات نوعا ما. أما في ولايته الثانية، فتحظى دائرته المقربة بمناصبها بشكل شبه حصري بفضل الولاء المطلق لترمب فقط. وبات النهج الذي تتبعه إدارته، داخليا وخارجيا، يعكس بصورة متزايدة القيم الشخصية لترمب.

font change

مقالات ذات صلة