كتاب يروي عصر "الكاسيت" وكيف أسس لولادة "البودكاست"

الانتقال من إعلام السلطة إلى إعلام الشارع

كتاب يروي عصر "الكاسيت" وكيف أسس لولادة "البودكاست"

هل يمكن القول إن الظواهر الثقافية الأحدث لم تأخذ حقها البحثي مقارنة بالأقدم نسبيا؟ يؤيد ذلك استنتاج الباحث الأميركي آندرو سايمون في كتابه "إعلام الجماهير... ثقافة الكاسيت في مصر". يدلل في ذلك أن مصر على سبيل المثل لدى انتقالها من اشتراكية جمال عبد الناصر إلى اقتصاد السوق المفتوح مع محمد أنور السادات ثم حسني مبارك، لم تأخذ حقها البحثي الاجتماعي بشكل كاف، مقارنة بالمائة عام السابقة. لذلك يمكن القول إنها قتلت بحثا. فما الذي يتسبب في تأخر البحث المجتمعي المعاصر عربيا؟ يبدو السبب المؤسس في ذلك هو "حجب وسائل معرفية بعينها. صعوبة الحصول على تصريحات للبحث، وبشكل أكثر تأسيسا غياب الأرشيفات أو وجود أرشيفات ليست موضوعية"، أو ربما كل تلك الأسباب مجتمعة كما يطرحها كتاب سايمون.

يكتسب "إعلام الجماهير" أهميته من أسباب عدة، أولا حداثة موضوعه وتأثيره في أجيال ترى تبعات الأمر في حياتها الآنية، وهو ما لا يحدث كثيرا في البحث العربي. ثانيا لأنه ينتج أفكارا بعيدة عن الأرشيف المعتمد الذي تنبثق منه غالبية الأفكار العربية عن الماضي الثقافي، القريب والبعيد. ثالثا لأنه يفتح آفاقا أوسع للحديث عن الإعلام العربي عموما الذي كانت مصر في لحظة ماضية تقف على عتبته الأولى. يأخذ كل ذلك منحى أكثر تركيبا لدى الحديث عن نتائج أرشيف صوتي ليس مكتشفا بالكامل بعد، صوت الكاسيت الذي يقف في منطقة برزخية ما بين المكتوب والمرئي، والذي امتدت آثاره ليأخذ شكلا أحدث وأكثر انتشارا، يتوسع يوما بعد الآخر مثل حلقات الراديو المسجلة أو ما يسمى بالـ"البودكاست".

أندرو سايمون، مؤلف الكتاب، هو مؤرخ وباحث فى الإعلام والثقافة الشعبية في المنطقة العربية الحديثة فى "كلية دارتموث". يعتبر كتابه "إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت فى مصر الحديثة" الصادر عن جامعة ستانفورد قبل أن يترجمه بدر الرفاعي عن "دار الشروق" المصرية، كتابه الأول. وقد استغرقته أبحاثه أكثر من عشر سنوات من الإقامة في مصر. يعتبره مشروع توثيق لأرشيف شرائط الكاسيت. ينشغل سايمون بالصوت ككشاف ينير الماضي ويفهمنا خباياه أكثر من أي شيء آخر.

الشارع بدلا من الوثائق

إلى جانب الإغراق في تفاصيل محلية، يدلل خلالها الكاتب على استخدام المصريين الكاسيت لتسجيل حياتهم إلى الأهل والأصدقاء بعد السفر، وكذلك التمرد من خلال الكاسيت على الأصوات التي تقدمها الإذاعات الرسمية فقط، ثمة أسئلة طرحها الكتاب تأتي من خارجه لتوسع دائرة الاشتباك معها عربيا لا مصريا فحسب، أهمها متى بدأ التاريخ الشفاهي يعتمد عليه بحثيا بقدر المكتوب؟ ولماذا يتجاهله الباحثون أساسا؟ كيف نعتمد على ذلك إذا كانت ذاكرة السمعي المؤرشف انتقائية أكثر مما يبدو؟ وأخيرا كيف نحدد أهمية حدث دون غيره؟

يعتمد سايمون في كتابه على ما يسمى "أرشيف الظل" وهو مجموعة المواد البصرية والنصية والسمعية الموجودة خارج دار الوثائق القومية

يعتمد سايمون في كتابه على ما يسمى "أرشيف الظل" وهو مجموعة المواد البصرية والنصية والسمعية الموجودة خارج دار الوثائق القومية، بالإضافة إلى الأفلام والمذكرات والصحف الأجنبية والتقارير القنصلية والصور الشخصية والمقابلات الشفاهية، وغيرها. وربما قبل الاعتماد على نتائج بحثه الطويل، يمكننا التساؤل عن منهجه البحثي ذاته كقضية مركزية في تناول فكرته: ما هو الأرشيف؟ كسؤال تأسيسي قبل فهم الأرشيف البديل.

التاريخ في هذا الكتاب نفهمه من السيرة الذاتية للكاسيت، يحدث ذلك بشكل مرن كما حدث مع باحثين آخرين. على سبيل المثل، ألقى كارل أبسن الضوء على السكائر لفهم المجتمع الإيطالي في القرن العشرين، تماما كما لجأ كيري روس إلى الكاميرات لفهم النشاط الإنساني اليومي في اليابان، وحاولت ماري جايتان من خلال دراسة شراب "التكيلا" فهم المكسيك.

أظهر امتلاك الكاسيت لدى غالبية المواطنين في مصر بالتحديد، وخارجها عربيا، نموذج التحول المثالي إلى وجود جمهور مستهلك لوسيلة ترفيه باتت أساسية. ينقل الكتاب أنه مع تولي السادات رئاسة مصر، زادت عوائد النفط في الخليج. وهو ما أتاح المزيد من الوظائف في المنطقة العربية كلها. وصاحب ذلك البحث عن حياة أكثر رفاهية. زاد امتلاك السيارات الخاصة، ومعها زاد استخدام شرائط الكاسيت. باتت المجتمعات العربية عموما مستهلكة بشكل كبير. أصبح كل من يملك مسجلة قادرا على نسخ أي محتوى على شريط الكاسيت سواء من شريط إلى آخر أو من الأسطوانات أو الإذاعة، ظهرت مشكلة حقوق الملكية لأول مرة، لكن كذلك، أصبحت سلطة الحكومات على ما يسمعه المتلقي في الشارع تقل يوما بعد يوم، هكذا يشهد الأرشيف الصحافي آنذاك، تماما كما يشهد لظهور أصوات فنية غير معتمدة من الإذاعات. يستنتج الكاتب من ذلك أن الناس بدأوا يستمعون إلى ما اعتبرته السلطات الثقافية الرسمية أعمالا وصفتها بأنها "هابطة ومبتذلة"، من أحمد عدوية والشيخ إمام موسيقيا إلى الشيخ كشك وغيرهم. غيرت التكنولوجيا واقع المشهد المستقر.

ضغطة زر واحدة حولت المتلقي من مجرد مستهلك إلى منتج للثقافة ومؤثر حقيقي في إنتاجها. ساهم الكاسيت منذ تلك اللحظة في إعادة كتابة التاريخ، بعيدا من سلطة الحكومات

ضغطة زر واحدة حولت المتلقي من مجرد مستهلك إلى منتج للثقافة ومؤثر حقيقي في إنتاجها. ساهم الكاسيت منذ تلك اللحظة في إعادة كتابة التاريخ، بعيدا من سلطة الحكومات.  

نظرة جديدة إلى الإعلام

مع انتشار الكاسيت ظهرت أصوات فنية جديدة رفضتها الإذاعات الحكومية وانتشرت بين الناس رغم تحذيرات كبيرة من "ابتذالها وسخافتها وكلماتها الرخيصة". شغلت أزمة التلوث السمعي التي خلقتها أشرطة الكاسيت الجميع الى درجة أن البرلمان المصري -في واقعة شهيرة نقلتها الصحف- اجتمع في العام 1988 "لتطهير مصر من تلوث عالم الغناء".

يبرز كتاب "إعلام الجماهير" تفاصيل الكثير من التعليقات على أشرطة الكاسيت في الصحافة الشعبية التي لم تقف عند التعليق على مسألة الذوق العام، والموسيقى الشعبية وخطورتها. وقد أثبتت الطبقة والثقافة والسياسة أهميتها في هذه المناقشات التي عكست أساليب مختلفة للانفتاح وساهمت في المخاوف التي تعلقت به. صاحبت ذلك، انتقادات معاصرة للاستهلاك وصعود مواطنين ممكنين، وكل مراقبي الثقافة والمتحكمين فيها. يرى الكاتب أن وصف الصحافة لبعض الأشرطة بأنها مبتذلة كان تأكيدا لإدارة سلطة هؤلاء على الإنتاج الثقافي وتصنيفه.

تقف خلاصة أطروحة الكتاب أن الكاسيت واستخداماته الجديدة أعادت تعريف الإعلام، ونزعت السلطة تجاه الطبقات الشعبية، بحيث بات السوق هو الحاكم من خلال أصوات قادمة من نبض الشارع الحقيقي في كل مكان. لكن إلى أي مدى ظهرت مساوئ ذلك؟

ظهر النسخ والقرصنة بالطبع، لكن ظهر أيضا مسار مواز للأحاديث الفنية والثقافية، وهي أمور تزيد فضائلها على مساوئها بشكل كبير. كانت الرقابة موضع اهتمام المجالين العام والخاص: بعض الأفلام يجب حذف مشاهدها، ومسرحيات يجب تشذيبها من الابتذال المضحك. يدرك الباحث في تلك اللحظة أن الكاسيت أصبح خارج تلك السلطة، يطرح نفسه ويهرب من الجميع، الى درجة اتهام منتجي الكاسيت ومتداوليه بـ"طمس معالم الحضارة".

بشكل عام، إذا كانت الصحافة إعلام الخاصة الأكثر تعليما، والسينما إعلام الأكثر قدرة مالية قديما وحديثا، وإذا كانا كلاهما يفضل الحصول على قدر من التعلم قبل الغوص في هذين المجالين، فإن الكاسيت الصوتي بدا مثاليا للجميع، كان فعلا بمثابة "إعلام الجماهير" الذي يمكن استكشاف طبقات المجتمع المختلفة من خلاله وحده.

بالرغم من عدد المشكلات التي يتهمه بها المتخصصون من "تمييع المعرفة" و"تسطيحها" ساعد "البودكاست" في التعرف الى قضايا أوسع وأكثر تخصصا

ثمة سمة أصيلة لا يمكن تجاهلها لدى الحديث عن انتشار الكاسيت، عالم ما قبل "البودكسات الحديث" لا يمكن نكرانه: سقوط الرقابة للمرة الأولى وفشلها في حجب ما لا تريده السلطة الرسمية، جاء تباعا عالم واسع من التسجيلات الشخصية التي باتت عامة، وفتح ذلك مسارا لغناء وأصوات أثرت في السينما والتلفزيون والصحافة كما سنرى لاحقا. يؤكد ذلك استنتاج الباحث المتكرر على مدار الكتاب: الكاسيت أعاد الصوت الذي أراده المواطن العادي، معيدا تعريف الثفافة في المنطقة العربية كلها تقريبا. يقول الكاتب: كانت الأشرطة تتحدى الهيمنة التجارية للأيقونات التي تسمح بها الدولة.

إذا كان من الصعب اليوم تقييم تحولات فعلية حدثت بسبب الكاسيت، فيمكننا مد النظر أكثر للتعرف الى وسيط "البودكسات" الأوسع انتشارا عن مختلف الوسائط المعرفية الشبابية اليوم، ونفهم أكثر، بالرغم من عدد المشكلات التي يتهمه بها المتخصصون من "تمييع المعرفة" و"تسطيحها" وأشياء أخرى، إلى أي مدى ساعد "البودكاست" رغم كل شيء في التعرف الى قضايا ومناطق أوسع وأكثر تخصصا لسهولة تلقيه عن المقروء والمرئي.

اليوم يقف الإعلام العربي، في مختلف أشكاله ووسائطه، المكتوبة والمرئية والمسموعة، في منطقة لا يحسد عليها، يحارب في أكثر من سياق واتجاه، يتلقى ضربات مختلفة تحتاج إلى حلول لحظية، يهدده الذكاء الاصطناعي كميا، وتصرخ أمامه أبواق مختلفة على مواقع التواصل الإجتماعي، ويترقب أرقام مشاهدته/ قراءته التي تحدد مصير استمراريته. يمكن النظر اليوم إلى الكاسيت القديم/ الراديو اليوم و"البودكاست" كذلك، بطريقة أخرى تدرك مزاياه أكثر من عيوبه، وذلك من خلال دراسة الأسباب التي دفعت الناس للتعلق بالكاسيت، واستغلاله لصالح استمرارية صوت مميز للإعلام الذي يبدو أنه السلطة الوحيدة التي يمتلكها الشارع في مقابل كل السلطات الظاهرة والخفية التي لا يمكنه امتلاكها.

font change

مقالات ذات صلة