الوعد واللعنة... إسرائيل تلتهم نبوءتها بيديها

مع تآكل حلّ الدولتين تتكرّس سياسة الخنق لا الفصل

أ.ف.ب
أ.ف.ب
وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، ووزير العدل ياريف ليفين، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع إسرائيل كاتس، ووزير الطاقة والبنية التحتية إيلي كوهين خلال كلمة رئيس الأرجنتين في الكنيست في 11 يونيو

الوعد واللعنة... إسرائيل تلتهم نبوءتها بيديها

في الثالث والعشرين من يوليو/تموز 2025، أقرّ الكنيست الإسرائيلي إعلانا سياسيا يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة، مؤكدا ما يسميه "الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني" للشعب اليهودي في كل أرض إسرائيل. ورغم أن القرار غير ملزم قانونيا، فإن وقعه يتجاوز شكله، ويتحوّل إلى وثيقة هوية أيديولوجية تضع المشروع الصهيوني على مفترق جديد، تتقاطع فيه النبوءة الدينية مع المدفع، وتتشابك فيه كتب الأنبياء مع خرائط الجنرالات.

لم يكن الإعلان وثيقة سياسية تقليدية، فهي أول مرة يجري فيها تصويت برلماني على مسألة ضم الضفة، بل بدا كأنه بعث لنص توراتي خرج من جوف الأسفار ليستوطن قاعة البرلمان. فالضفة، أو "يهودا والسامرة" كما يسميها الإعلان، لم تعد مجرد أرضٍ في صلب صراع، بل مسرحٌ مقدّس، وأثر من آثار الوعد الإلهي. مدن مثل الخليل ونابلس لم تُذكر بوصفها جغرافيا، بل كأنها مناطق لاهوتية مقدسة، ومواضع أقدام للأنبياء. السياسة هنا لا تُصاغ بأدوات المصلحة، بل تُدبّر بنصوص دينية.

هذا الانبعاث الديني في قلب القرار السياسي ليس طارئا، بل تتويج لتحوّل عميق وطويل. التيار الديني الاستيطاني، الذي كان يوما في هامش المشروع الصهيوني العلماني، بات قلبه النابض. تحوّل بن غفير، المستوطن قرب الخليل، من وجه هامشي إلى وزير للأمن القومي، وصار سموتريتش يضع يده على وزارة المالية ووزيرا في وزارة الدفاع. كلاهما حوكما في قضايا إرهاب، فبن غفير من رموز حركة "كاخ" التي كانت مصنّفة إرهابية حتى في القانون الإسرائيلي. لكن الشرعية أعيدت إلى هذا التيار حين منحه نتنياهو مفاتيح الحكم، ليس فقط طمعا في أصوات الكنيست، بل لأنهم صاروا يعبرون عن مزاج القوة الصاعدة، لا الهامش المتطرّف.

القتل الجماعي بعشرات الآلاف، التدمير العمراني الشامل، سياسة التجويع، تفكيك "الأونروا"، تدمير المخيمات في غزة والضفة، كلها ليست آثارا جانبية، بل وسائل في خريطة الحسم السكاني

السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، مع ما واكبه من بارانويا وجودية لهول الصدمة، كان لحظة انكسار للضوابط، وانفجار للخطاب الديني دون أقنعة. خرجت عبارات وخطابات مثل "عماليق" من جوف التاريخ التوراتي لتُلقى في وجه سكان غزة. و"عماليق" هو ذاك العدو الأسطوري الذي ورد في سفر التثنية: "اذكر ما فعله بك عماليق... فتمسح ذكر عماليق من تحت السماء. لا تنسَ". (تثنية 25: 17–19). وفي سفر صموئيل: "فالآن اذهب واضرب عماليق وحَرِّموا كل ما لهم، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا". (صموئيل الأول 15: 3). اقتبس نتنياهو نفسه هذه العبارات في سياق تبرير الحرب، وكرّر أن "العدو مثل عماليق لا يُترك، بل يُمحى". بهذا التصوّر، لا يعود سكان القطاع خصوما سياسيين أو حتى أعداء مقاتلين، بل كائنات ينبغي محوها من الوجود. وحين يتحول الخطاب الديني إلى مشرّع للقتل، يذوب الخط الفاصل بين الحرب والإبادة.

رويترز
فلسطينيون يتظاهرون ضد مصادرة إسرائيل لأراضيهم في رابا، بالقرب من جنين، في الضفة الغربية المحتلة، 18 يوليو

كل هذا لا يحدث في فراغ. فمع تآكل حلّ الدولتين، وسقوطه من جدول الأعمال الإسرائيلي تماما، تتكرّس سياسة الخنق لا الفصل، والضم لا الانفصال. مفارقة كبرى، أن إسرائيل التي ذهبت إلى أوسلو هربا من خطر الدولة ثنائية القومية، تتجه اليوم بثقة نحو الفخّ ذاته الذي حاولت تفاديه: شعبان في دولة واحدة، لا مساواة بينهما، ولا أفق لتسوية. لم يكن رابين يحلم بالسلام بقدر ما كان يخشى زوال الأغلبية اليهودية. أما نتنياهو، فبدل أن يعترف بهذا القلق، يراهن على الحسم الديموغرافي عبر الحرب، لا الاتفاق.

ومن هنا تُفهم استراتيجية الحرب الأخيرة على غزة. فهي ليست معركة ضد "حماس" فحسب، بل مشروع لإعادة هندسة الواقع السكاني. القتل الجماعي بعشرات الآلاف، التدمير العمراني الشامل، سياسة التجويع، تفكيك "الأونروا"، تدمير المخيمات في غزة والضفة، كلها ليست آثارا جانبية، بل وسائل في خريطة الحسم السكاني. وفي هذا السياق، تتسلل خطة لم تولد في واشنطن بل في الذهن الاستيطاني الإسرائيلي، تبنّتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ولايته الأولى، وتُفعّل اليوم في ولايته الثانية، تهدف إلى تهجير 1.7 مليون غزيّ بزعم "الطوع"، بينما الواقع لا يحمل إلا القسر. إنها خطة تُطبّق على الأرض بلا إعلان، تُنفّذ بصمت تحت قنابل تمهّد الطريق، وتجويع يرغم الناس على الهرب، وركام يجعل البقاء مستحيلا. ورفح، المدينة الحدودية المنكوبة، ليست فقط آخر نقطة جغرافية في القطاع، بل أول سطر في رواية تهجير جديدة تُكتب بأدوات الحرب وتُسوّق كضرورة إنسانية. وهذه، وفق القانون الدولي، جريمة حرب مكتملة الأركان.

إسرائيل التي استندت منذ نشأتها إلى نبوءات التوراة لتأسيس نفسها، تجد نفسها اليوم تهدّد تلك النبوءة ذاتها

لكن هذا المسار، في عنفه ووضوحه، ليس بلا ثمن. فهو لا يربك الفلسطينيين وحدهم، بل يربك أيضا شركاء إسرائيل، وفي مقدمتهم ترمب ذاته، الذي يسعى لتوسيع دائرة الاتفاقات الإبراهيمية في ولايته الثانية والفوز بجائزة نوبل للسلام هذه المرة. كيف يمكن للدول العربية أن تدخل تسوية مع إسرائيل، فيما الأخيرة تُعلن أنها أغلقت باب حل الدولتين وتريد ضم الضفة وتدفع نحو طرد جماعي؟ الأمر الذي يحمل في طياته إعلان موت الدولة الفلسطينية، ويحوّل القضية إلى قضية لاجئين متروكين بلا أرض ولا أفق؟

أ.ف.ب
رجل يمشي أمام رسم جداري عن إعادة إعمار غزة، على جزء من الجدار العازل الإسرائيلي، في بيت لحم بالضفة الغربية المحتلة في 12 فبراير

وهنا يظهر التناقض الأكبر في قلب المشروع الصهيوني نفسه. فإسرائيل التي استندت منذ نشأتها إلى نبوءات التوراة لتأسيس نفسها، تجد نفسها اليوم تهدّد تلك النبوءة ذاتها. إذ إن ضم الضفة، وإنكار الحقوق الفلسطينية، يقودان إلى واقع دولة واحدة بين البحر والنهر، بأغلبية عربية في المدى المتوسط، أو نظام فصل عنصري (أبرتهايد) قد يصمد لعقد أو اثنين، لكنه سيسقط في النهاية، كما سقط نظام جنوب أفريقيا، حين يصبح عبئا أخلاقيا لا يُحتمل.

الكنيست، حين أقرّ قراره الرمزي المذكور، لم يعلن فقط عن نية ضمّ، بل كشف عن مأزق وجودي. عن مشروع بدأ بخطاب ديني حول "أرض الميعاد"، يتجه بخطى لاهثة نحو واقع لعنة: لا خلاص بلا عدل، ولا بقاء بلا مساواة، ولا مستقبل يُبنى على أنقاض شعب آخر. وما يبدو نبوءة تُلهب الخطاب اليوم إسرائيليا، قد يتحول غدا إلى دينونة بمفهوم تاريخي.

font change