"كهف الألواح" لمحمد سعيد احجيوج تعيد طرح السؤال حول ماهية الرواية

سرد يتحدى القارئ ولا يقدم له وجبة سهلة

"كهف الألواح" لمحمد سعيد احجيوج تعيد طرح السؤال حول ماهية الرواية

في زمن يحتفى فيه بالروايات المسطحة والخيارات الآمنة، تحضر رواية الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج "كهف الألواح" كمفاجأة جمالية وفكرية، لا لكونها مجرد نص جيد بل لأنها، ببساطة، رواية مستحيلة: نص يخفي بنيته كأنه يلعب الشطرنج مع القارئ، يقايضه الحقيقة بالوهم، ويسائل فيه السرد ذاته. ولعل ما يضاعف من وقع المفارقة أن هذا العمل، الصادر عن "دار نوفل" (فبراير 2024)، لم يجد له موطئ قدم في أي جائزة عربية كبرى، ولم يحظ بانتباه نقدي يوازي جرأته البنائية والفكرية. في واقع الأمر، هو عمل يضع القارئ، كما الناقد، في امتحان عسير: هل نقرأ لنتسلى، أم لنتزعزع؟ هل نشيد بعمل ما لأننا نعرف صاحبه وناشره، أم لأنه يستحق الإشادة؟ هل تمنح الجوائز للنصوص المختلفة الجريئة في طرحها وبنائها ولغتها، أم بناء على معيار "الخيار الآمن"، الذي يفرضه الفهم المسطح والقراءات السابقة؟

سرد يهدم نفسه

من اللحظة الأولى، تعلن "كهف الألواح" رفضها لأي مسار سردي تقليدي، فهي رواية لا تروي، بقدر ما تقوض فعل الرواية ذاته. تتوزع الرواية على أربع حركات تحمل أسماء موسيقية: "سوناتا الرحيل"، "ساعي البريد لا يعرف العنوان"، "رقصة الموت"، و"مفارقة الوجود"، وهي حركات لا تمثل تقسيما زمنيا أو حبكويا، بل نسيجا تفكيريا، يتكرر ويتداخل ويتشظى.

كل فصل هو نافذة على ذات محطمة، وكل صوت – آزاد، خلود، عدنان، إيزل – هو مرآة مكسورة لا تعيدنا إلى الأحداث، بل إلى استحالة القبض عليها. في هذا المعمار السردي المضطرب عمدا، لا يعاد تشكيل الواقع، بل يحطم في كل مرة يعاد فيها. كل صوت يسترجع مشاهد لم نعد نعرف إن كانت حدثت فعلا أم لا، كل جملة تراوغ القارئ، لا لتضلله، بل لتفضح وهم الحقيقة في الرواية والحياة معا. وهنا تبلغ الرواية قمة ذكائها البنيوي: السرد لا يشف عن شيء، بل يكشف قناع اللغة عن خوائه.

من اللحظة الأولى، تعلن "كهف الألواح" رفضها لأي مسار سردي تقليدي، فهي رواية لا تروي، بقدر ما تقوض فعل الرواية ذاته

لغة الرواية واحدة من أبرز مفاجآتها. ليست مجرد وسيلة سرد، بل أداة مقاومة. محمد سعيد احجيوج يكتب بجمل تحفر في جدار الذاكرة. ليست شاعرية سطحية أو استعراضية، بل كثافة تعبر عن عسر الوجود. في المشهد الافتتاحي، حيث تخرج آزاد في الفجر، حاملة طفلها المعاق على ظهرها، نكتشف منذ الفقرة الأولى أننا في مواجهة كاتب لا يسعى لإرضاء القارئ، بل لاختباره. اللغة تنزف، تتعثر، تصمت ثم تتفجر.

هذا التكثيف، رغم نبله الجمالي، ليس بلا ثمن. ثمة لحظات يبدو فيها النص مفتونا بذاته، ينظر إلى لغته كما ينظر نرسيس إلى صورته في الماء. الجملة، أحيانا، تعيد التوقف لتتأمل جمالها، مما يبطئ الإيقاع ويفقد بعض المقاطع زخمها الدرامي. ولكن هذا الانشغال الذاتي باللغة هو ذاته ما يبرر وجود النص: الرواية لا تسعى لإعادة تمثيل الحياة، بل لإعادة نحتها بالكلمات.

احجيوج يكتب كمن يعيد اختراع الفعل السردي: "الذاكرة وهم"، تقول خلود. "كل ما نسترجعه محض اختلاق". في هذا الاعتراف تختصر الرواية: ليست الذاكرة، بل اللغة، هي ما يعاد خلقه في كل لحظة.

أجساد تكتب الذاكرة

بعيدا من الميتاسرد، تجرؤ "كهف الألواح" على إعادة مركزية الجسد إلى موقعه الرمزي الأصلي، لا بوصفه غريزة أو زينة، بل كأرشيف للندوب والتوق. الجسد الأنثوي، تحديدا، هو هنا الحقل الذي تكتب عليه الذاكرة. آزاد، خلود، وإيزل، لسن شخصيات فحسب، بقدر ما هي جسد جماعي، مكتوب بجروح الأسر والقمع والعشق الملتبس.

العلاقة بين خلود وإيزل علاقة تتأرجح بين الرغبة والتماهي والاضطراب – تكتب لا على لسان الشخصيات فقط، بل على أجسادهن. إن المشهد الذي تحاول فيه خلود تقبيل إيزل ثم صفعها، لينتهي بسقوط إيزل المفترض من الشرفة، هو قمة تراجيدية للجسد بوصفه ساحة حرب بين الرغبة والماضي والاغتصاب والحنين. لكن الجسد هنا لا يقدم باعتباره خطابا تحرريا مباشرا، بل باعتباره استعارة مشروخة: الجسد يروي لأن الذاكرة تخون، وهو يحتفظ بما لا تستطيع اللغة أن تنقله.

هذا الانشغال الذاتي باللغة هو ذاته ما يبرر وجود النص: الرواية لا تسعى لإعادة تمثيل الحياة، بل لإعادة نحتها بالكلمات

الرواية لا تكتفي بتفكيك السرد، بل تدخل القارئ في لب معضلة فلسفية: هل توجد الذاكرة قبل أن نستدعيها؟ هل التذكر فعل استرجاع أم اختلاق؟ خلود، في اعترافاتها الطويلة للمفتش، لا تحاول كشف الحقيقة، بل فضح استحالتها. هي تعلم – مثل كاتبها – أن كل محاولة للبوح هي، في جوهرها، خيانة لما نحاول استحضاره. ليس ثمة حقيقة بل تأويلات. ليس هناك ماض، بل أشباحه.

في هذا الجانب، تقترب "كهف الألواح" من أطروحات بول أوستر في "كتاب الأوهام"، أو من متاهات بورخيس اللغوية في "تقرير برودهرت". لكن الرواية لا تكتفي بالمحاكاة، بل تستثمر هذه الفلسفة داخل سياق عربي مأزوم، حيث الحكي ذاته أصبح استراتيجيا بقاء.

الرواية تقدم خطابا ضد التوثيق، ضد التفسير، ضد الفهم. إنها عمل أدبي ضد أدبية الأدب. ومن هنا تأتي فرادتها.

الشخصيات أقنعة تتكلم

ليس في "كهف الألواح" شخصيات بالمعنى الكلاسيكي. عدنان، خلود، إيزل، حتى آزاد، لا يمكن اختزالهم إلى ملامح نفسية أو سردية. هم ظلال، أو بالأحرى أصوات تروج لتأويلات متضاربة عن حدث ما (أو لا حدث). هذه الأصوات ليست متعددة فقط، بل متناقضة. وكل صوت يكاد ينقض ما قبله.

نص كأنما وجد ليعيد طرح السؤال من جديد: ما هي الرواية، ولماذا نكتبها، وما الذي يمكن أن تحدثه حين تخرج عن كل القواعد؟

في هذا الجانب، تصبح الرواية مختبرا للمحكي، لا مرآة له. ليس المهم ما الذي حدث، إنما كيف نرويه، ولماذا لا يمكن أن نرويه بشكل موثوق به. وهذا ما يجعل الشخصيات تتبدد خلف اللغة. إيزل، مثلا، هي فكرة أكثر مما هي شخصية: الجمال الغامض، التهديد، الغواية، وربما الموت. تتكرر حضورا وغيابا، شبحا وذكرى، حتى لا نكاد نعرف ما إذا كانت حقيقية أم اختلاقا من خيال خلود.

"كهف الألواح" ليست رواية تقرأها فحسب، بل رواية تهاجمك، تربكك، وتجبرك على مساءلة اللغة والذاكرة والحقيقة. هي عمل جمالي وفكري لا يمكن إدراجه ضمن أي تصنيف مريح. إنها نص مفتوح كالمتاهة، مؤلم كالجرح، ومضيء كشرارة في ظلام المؤسسة.

في زمن تتسابق فيه الجوائز على تتويج الروايات السهلة، أو تلك التي ترضي الذائقة العامة أو تعيد إنتاج "القضايا" في حلة سردية، تأتي هذه الرواية كعمل فذ، يصرخ في وجه هذا المشهد بأن الرواية ليست فنا للترفيه ولا حتى وسيلة للخطاب، بل هي، في أنقى صورها، تمرين على الحرية، على الرفض، وعلى الحلم بما لا يقال.

وفي هذا المعنى، تعلن رواية محمد سعيد احجيوج نفسها لا كمجرد عمل ناجح، بل كعمل ضروري. نص كأنما وجد ليعيد طرح السؤال من جديد: ما هي الرواية، ولماذا نكتبها، وما الذي يمكن أن تحدثه حين تخرج عن كل القواعد؟

font change

مقالات ذات صلة