إيران الواقعية بعين إحسان نوروزي الحالمة

كتابه الجديد رحلة بالقطار في جغرافيا وطنه وتاريخه الحديث

Rouzbeh Fouladi/NurPhoto via Getty Images
Rouzbeh Fouladi/NurPhoto via Getty Images
محطة قطار طهران، 18 مارس 2018

إيران الواقعية بعين إحسان نوروزي الحالمة

أحلام الطفولة ليست دائما مجرد تخيلات ساذجة تتبدد مع تقدمنا في السن، بل يمكنها أحيانا أن تؤدي دور البوصلة لأولئك الذي يعرفون كيف يحفظونها ويغذونها، فترشد كل واحد منهم إلى دربه الخاص داخل متاهة العالم، وتحول دون ضياعه وفشله في إنجاز ذاته.

الإيراني إحسان نوروزي هو بالتأكيد واحد من هؤلاء، فبعد خطه كتاب "مذكرات رحلة أوروبية"، الذي روى فيه مغامرة تقفيه أثر حاج سياح (1836 – 1925) في أوروبا، وهو رحالة فارسي تجول في العالم على مدى عقدين، وضع كتابا بعنوان "قطار مفتوح"، صدرت ترجمته الفرنسية حديثا عن دار "زولما" بعنوان "هاوي قطارات"، يسرد فيه ترحاله بالقطار لمدة عام داخل وطنه. سردية آسرة لا تستمد قيمتها وفتنتها فقط من سفرها بنا في مختلف أنحاء إيران، ومن المعطيات الغزيرة التي تقدمها لنا، أثناء هذا السفر، حول ظروفه ومحطاته المثيرة وأحداثه المشوقة، بل من قراءتها المتعمقة أيضا لتاريخ الحديث لإيران والعالم عموما من خلال سردها قصة القطار وسككه الحديد في هذا البلد.

أحلام الطفولة

لكن ما علاقة ذلك بأحلام الطفولة ودورها كبوصلة؟ في مطلع الكتاب، نقرأ: "في تلك الفترة من طفولتي التي كان الأطفال يحلمون فيها بأن يصبحوا أطباء، مهندسين أو طيارين، كان حلمي أن أمتلك قطارا وأقوده بنفسي، أن أنام ليلا في إحدى عرباته، وأن أستقبل على متنه ركابا غريبي الأطوار في المحطات على طول سكته". حلم تملك نوروزي مذاك، ولم يفارقه قط، بل تغذى على يده بوسائل مختلفة، وحين وجد الكاتب نفسه في منتصف عمره "مهجورا من الصداقة والحب، بلا عمل أو مشاريع، (...) بدلا من تجديد عقد إيجار شقتي، رحلت مع حقيبتي ظهر، مصمما على اتباع السكك الحديد أينما تقودني".

هكذا تنطلق رحلة نوروزي المثيرة من محطة طهران في نهاية أغسطس/ آب 2016، بعدما حصل على تصريح رسمي يسمح له بالتنقل مجانا في القطارات وبمحاورة العاملين على متنها وفي المحطات. رحلة يجوب خلالها جميع أنحاء وطنه لمدة عام، ويجري، بالتزامن معها، رحلة أخرى، داخلية، بحثا عن ذاته. بالتالي، "قطار مفتوح" هي سردية وثائقية لا تروي قصة السكك الحديد الإيرانية فحسب، بل تتفحص أيضا التاريخ الذي حيك على طول هذه الدروب. وبإنجازها ذلك، تظهر لنا كيف أن صاحبها، الذي كان يبحث في اهتزاز القطارات، في جلبة المحطات، وفي صمت السكك المهجورة، عمن يشاركه شغفه الطفولي، شيد نفسه أثناء هذه الرحلة المسارية.

سردية وثائقية لا تروي قصة السكك الحديد الإيرانية فحسب، بل تتفحص أيضا التاريخ الذي حيك على طول هذه الدروب

من هذه السردية نعرف أولا أن إيران، في نهاية القرن التاسع عشر، كانت تحت سيطرة الروس والبريطانيين، وأن ضرورة حل مشكلة نقل البضائع والقوات العسكرية فيها دفعت كلا من هاتين القوتين العظمتين إلى بناء سكة حديد خاصة بها. هكذا يرى النور خط جلفا – تبريز الذي بناه الروس في الشمال، بينما عمد البريطانيون في الجنوب إلى تمديد سككهم الهندية إلى زهدان. بعد ذلك، نعرف أن اجتياح العثمانيين الشمال الإيراني أدى إلى إتلاف البنى التحتية لخط جلفا – تبريز على يدهم، وأنه مع انسحاب الروس والبريطانيين من إيران بعد الحرب العالمية الأولى، حول الشاه رضا بهلوي مشروع السكك الحديد إلى قضية وطنية، فعقد اتفاقا مع الألمان والأميركيين لبناء خط يربط الشمال بالجنوب، ثم حل الدانماركيون مكان الأميركيين في هذه الورشة، فأنجزوا الجزء الأكثر صعوبة منها في قلب جبال البرز.

معطيات ومرافق

لكشف مدى أهمية هذا المشروع في إعادة تشكيل إيران على المستوى الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي، يدلي نوروزي بمعطيات غزيرة، من بينها امتداد السكك الحديد على طول 1394 كيلومترا، ارتفاع عدد أنفاقها إلى 224، وعدد جسورها إلى 4000، وعدد محطاتها إلى 90. ومع ارتفاع عدد عمالها إلى 90 ألفا، باتت كمؤسسة رسمية أكبر مشغل للعمالة في إيران. ولأن هذا البلد كان يفتقر بشكل صارخ آنذاك لليد العاملة الكفوءة والمهندسين، ارسل شبان إيرانيون إلى روسيا وأوروبا للتدريب والدراسة.

Three Lions/Getty Images
جسر سكة حديد قيد الإنشاء ضمن مشروع سكة الحديد العابرة لإيران

في السياق نفسه، يتناول نوروزي أيضا المرافق الصحية والتربوية التي انتشرت حول محطات القطار، والمصانع التي بنيت بهدف إنتاج الأدوات والقطع اللازمة لصيانة بنى هذا القطاع التحتية وتحديث العمل فيه. أما في مسألة الإدارة، فيستحضر طرفا كثيرة، مستقاة من مقابلاته مع موظفي هذه المؤسسة، تبين، أحيانا بروح دعابة عالية، كم أن الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق نظرا إلى التخلف الذي كان سائدا.

قد يظن قارئ هذه السطور أن سردية نوروزي جافة ومملة، لكنها في الواقع آسرة لجملة أسباب، أبرزها ذلك التناوب فيها بين سفر في الجغرافيا والتاريخ، وسفر داخلي، وتصويرها خلال رحلات على متن قطارات شحن وركاب طبيعة إيران، بجبالها وصحاريها وشواطئها وبحيراتها، إضافة إلى تضمنها شهادات ثمينة لسائقي قاطرات وعمال إشارات مسنين نتعرف إليهم عن قرب من وصف الكاتب ملامح وجوههم المتجعدة، بريق عيونهم، أجسادهم المتعبة أو المعطوبة، ومن وصفهم، كل واحد بكلماته الخاصة، تجارب عملهم وأحداثا مؤلمة أو طريفة عايشوها.

ما يعزز من وقع هذا التنقل بين الحقب والمناظر الطبيعة والأفراد، والوصف المرافق له، هو لغة نوروزي الفاتنة بجمالياتها، وذلك المزج فيها بين طرف معبرة ومراجع تاريخية دقيقة

ما يعزز من وقع هذا التنقل بين الحقب والمناظر الطبيعة والأفراد، والوصف المرافق له، هو لغة نوروزي الفاتنة بجمالياتها، وذلك المزج فيها بين طرف معبرة ومراجع تاريخية دقيقة. لغة تسمح له بتتبع خطوط السكك الحديد الإيرانية مثلما نتتبع خيوط الذاكرة، بانتباه شديد ورقيق للتفاصيل، لما تبقى من آثار مادية وبشرية لهذه المغامرة. ومن هذا الجهد، تنبثق بورتريهات كثيرة مؤثرة تارة لناس بسطاء، وطورا لوجوه سياسية، مثل الشاه رضا بهلوي، أو لمهندسين أجانب ساهموا في بناء سكك إيران الحديد، مثل الروسي البولندي الأصل فلاديسلاف هوروديتسكي.

Wikimedia Commons
محطة قطار طهران، 11 مارس 2019

وراثة

لكن قيمة "قطار مفتوح" لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضا في كشفه أشياء كثيرة كنا نجهلها، أبرزها أن العمل في السكك الحديد الإيرانية كان ولا يزال مهنة تنتقل من الأب إلى الابن، وأن المؤسسة التي تدير هذه السكك تنظم منذ سنوات إقامات للكتاب على متن القطارات، وأن القطار هو على ما يبدو أحد أكثر الأماكن ملاءمة للكتابة لأسباب عديدة نترك للقارئ الفضولي مهمة اكتشافها بنفسه داخل الكتاب.

تكمن أيضا قيمة هذا الكتاب في توقف صاحبه فيه مليا عند الاستغلال الذي تعرض له وطنه على يد القوى الأجنبية وملوكه، الذين فشلوا في استثمار ثروات إيران، وفي مقدمها احتياطها النفطي الكبير، مما أدى إلى وصول الملالي إلى سدة الحكم، فـ"ملأوا بدورهم جيوبهم، وما زالوا مستمرين في ذلك، في موازاة ترهيبهم الشعب الإيراني ورده إلى حالة الفقر".

لكن على الرغم من النقد السياسي والثقافي الذي يمارسه نوروزي داخل نصه، والحماسة التي يبديها للعثور على روابط بين أحداث الماضي والمشاكل الراهنة، تبقى نبرته حميمية، وهذا ما يضفي على الجدارية الدقيقة التي يخطها لإيران- طبيعة وتاريخا وبشرا - قيمة إضافية، ويعزز متعة التأمل داخلها في كيفية تمكنه من الإمساك بخصوصيات ثقافة وطنه من طريق إعادة رسم سككه الحديد.

بالتالي، لم يبالغ أحد النقاد في قوله عن هذا الكتاب الفريد من نوعه: "أبعد من مجرد سردية ترحال، يجسد "قطار مفتوح" هوس إنسان بعالم على وشك التواري، فيكشف، بنثره الدقيق والمصبوغ بالطرافة، شغفه الجارف بتلك "الوحوش الفولاذية" (القطارات) وكل من له علاقة بها. نص لا تثقله أبدا سعة اطلاع صاحبه، بل يغذي كل اكتشاف فيه بحثا أوسع، بين فضول تاريخي ودوار وجودي".

يجسد "قطار مفتوح" هوس إنسان بعالم على وشك التواري، فيكشف، بنثره الدقيق والمصبوغ بالطرافة، شغفه الجارف بتلك "الوحوش الفولاذية"

لم يبالغ أيضا ناقد آخر في وصف هذا العمل بـ"الأوديسة – الملحمة التي يصبح القطار فيها رمزا للمثابرة والقطيعة، واستعارة للبلد نفسه، ويبدو السفر أهم من الوجهة. مغامرة تروى قصة إيران خلالها في صفير القاطرات وصمت المحطات المنسية، وينكشف وجهها بكامله بين ورش سككها والرحلات التي أتاحتها. ولعل إحدى معجزات هذا النص الخفية هي في غوصه بنا في خدر السفر على هذه السكك الحديد، وإيقاع أحلام اليقظة التي يثيرها".

REUTERS/Caren Firouz
ركاب ينتظرون قطار المترو في محطة البازار بطهران وسط تلوث هواء حاد، 8 ديسمبر 2010

يبقى أن نشير إلى أن نوروزي لا يكتفي في كتابه هذا بخط سردية ترحاله المشوقة داخل وطنه، بل يعمد أيضا إلى تزيينه بالصور والطوابع البريدية، مما يجعل قارئه يلتهمه مثل يوميات سفر تستحضر حتما إلى ذهنه عملا أدبيا آخر لكاتب مغامر مثله، هو "على الطريق" لجاك كيرواك، الذي يدين بترجمته إلى الفارسية لنوروزي نفسه. فمثل هذا العمل الذي كشف وجها مغايرا لأميركا يخط صاحبه فيه سفره بالسيارة على طرقاتها، ينجح "قطار مفتوح" في جعلنا نكتشف إيران بطريقة مختلفة، من نوافذ القطارات الغزيرة التي استقلها كاتبه، ونختبر نشوة الترحال الذي لا وجهة محددة له، ونرغب في شيء واحد فقط، بعد الفراغ من قراءته: ركوب القطار والانطلاق في السفر.

font change