أحلام الطفولة ليست دائما مجرد تخيلات ساذجة تتبدد مع تقدمنا في السن، بل يمكنها أحيانا أن تؤدي دور البوصلة لأولئك الذي يعرفون كيف يحفظونها ويغذونها، فترشد كل واحد منهم إلى دربه الخاص داخل متاهة العالم، وتحول دون ضياعه وفشله في إنجاز ذاته.
الإيراني إحسان نوروزي هو بالتأكيد واحد من هؤلاء، فبعد خطه كتاب "مذكرات رحلة أوروبية"، الذي روى فيه مغامرة تقفيه أثر حاج سياح (1836 – 1925) في أوروبا، وهو رحالة فارسي تجول في العالم على مدى عقدين، وضع كتابا بعنوان "قطار مفتوح"، صدرت ترجمته الفرنسية حديثا عن دار "زولما" بعنوان "هاوي قطارات"، يسرد فيه ترحاله بالقطار لمدة عام داخل وطنه. سردية آسرة لا تستمد قيمتها وفتنتها فقط من سفرها بنا في مختلف أنحاء إيران، ومن المعطيات الغزيرة التي تقدمها لنا، أثناء هذا السفر، حول ظروفه ومحطاته المثيرة وأحداثه المشوقة، بل من قراءتها المتعمقة أيضا لتاريخ الحديث لإيران والعالم عموما من خلال سردها قصة القطار وسككه الحديد في هذا البلد.
أحلام الطفولة
لكن ما علاقة ذلك بأحلام الطفولة ودورها كبوصلة؟ في مطلع الكتاب، نقرأ: "في تلك الفترة من طفولتي التي كان الأطفال يحلمون فيها بأن يصبحوا أطباء، مهندسين أو طيارين، كان حلمي أن أمتلك قطارا وأقوده بنفسي، أن أنام ليلا في إحدى عرباته، وأن أستقبل على متنه ركابا غريبي الأطوار في المحطات على طول سكته". حلم تملك نوروزي مذاك، ولم يفارقه قط، بل تغذى على يده بوسائل مختلفة، وحين وجد الكاتب نفسه في منتصف عمره "مهجورا من الصداقة والحب، بلا عمل أو مشاريع، (...) بدلا من تجديد عقد إيجار شقتي، رحلت مع حقيبتي ظهر، مصمما على اتباع السكك الحديد أينما تقودني".
هكذا تنطلق رحلة نوروزي المثيرة من محطة طهران في نهاية أغسطس/ آب 2016، بعدما حصل على تصريح رسمي يسمح له بالتنقل مجانا في القطارات وبمحاورة العاملين على متنها وفي المحطات. رحلة يجوب خلالها جميع أنحاء وطنه لمدة عام، ويجري، بالتزامن معها، رحلة أخرى، داخلية، بحثا عن ذاته. بالتالي، "قطار مفتوح" هي سردية وثائقية لا تروي قصة السكك الحديد الإيرانية فحسب، بل تتفحص أيضا التاريخ الذي حيك على طول هذه الدروب. وبإنجازها ذلك، تظهر لنا كيف أن صاحبها، الذي كان يبحث في اهتزاز القطارات، في جلبة المحطات، وفي صمت السكك المهجورة، عمن يشاركه شغفه الطفولي، شيد نفسه أثناء هذه الرحلة المسارية.