هل ستتمكن "ستارلينك" من تغيير قواعد الاتصالات في لبنان؟

اتهامات وصراع سياسي وقانوني وفساد وعقبات تعترض الترخيص للشركة

Shutterstock
Shutterstock
إيلون ماسك و"ستارلينك" رمز التكنولوجيا واستكشاف الفضاء وخدمات الإنترنت

هل ستتمكن "ستارلينك" من تغيير قواعد الاتصالات في لبنان؟

في وطن يعاني من انهيار البنية التحتية للاتصالات، وانقطاع المياه، وتقنين حاد لكهرباء الدولة لا يتجاوز ساعات قليلة يوميا، واعتماد اللبنانيين على مولدات الكهرباء في الأحياء، وتدني جودة الإنترنت الثابت وسرعات النطاق العريض، تلوح خدمة "ستارلينك" الفضائية للانترنت كبصيص أمل لإحداث نقلة نوعية. لكن الطريق نحو إطلاقها في لبنان محفوف بالتحديات والتساؤلات، حيث تتصادم الطموحات التكنولوجية مع الصراعات السياسية، العقبات القانونية، وغياب هيئة فعّالة منظمة للاتصالات.

منذ 2024، وفيما كانت الحرب مستعرة، وانقطع الإنترنت في جنوب لبنان ومناطق عدة، تسربت أجهزة "ستارلينك" إلى البلاد بشكل غير قانوني، مستغلة الفوضى والفراغ التنظيمي.

وجرت مباحثات ومفاوضات بين الشركة ووزارة الاتصالات، وكشفت وسائل إعلام لبنانية عن تجارب أجرتها "ستارلينك" بموافقة الأجهزة الأمنية، بعد قبول الشركة تزويد السلطات أداة للوصول إلى بيانات المستخدمين، على غرار مؤسسة "أوجيرو" الرسمية، التي تتولى ادارة الاتصالات في لبنان. لكن هذه الخطوة أثارت جدلا حول شرعيتها في غياب الهيئة المنظمة للاتصالات، التي تأسست بموجب القانون 431/2002 لكنها تعطلت منذ 2012 بسبب عدم تعيين مجلس إدارة جديد، وذلك في اطار الخلافات السياسية والطائفية للهيمنة على مرافق الدولة.

اتصالات "ستارلينك" بالمسؤولين اللبنانيين

في 29 مايو/أيار المنصرم، أصدرت رئاسة الجمهورية اللبنانية بيانا جاء فيه: "اطلع المدير العالمي لترخيص وتطوير "ستارلينك"، السيد سام تورنر (Sam Turner)، على مسار المشاورات التي تجريها الشركة مع وزارة الاتصالات اللبنانية بهدف ضم لبنان إلى شبكة الدول الـ136 التي تتوافر فيها هذه الخدمة. وقد عرض تورنر أبرز فوائد "ستارلينك" في مجال تعزيز خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، بما ينعكس إيجابا على عمل المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية والتربوية، بالإضافة إلى الإدارات والمؤسسات الرسمية". كما أصدرت رئاسة الحكومة بيانا عن استقبال رئيس مجلس الوزراء نواف سلام تورنر في حضور السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون. وفي اليوم التالي أعلن وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط أن "مباشرة عمليات الشركة في لبنان ستوفر للقطاع الخاص خدمات إنترنت إضافية موثوقا بها وفعالة".

ستنتقل البيانات من الطبق المثبت لدى المستخدم الى القمر الصناعي، وترسل الى محطة خارج الحدود ومنها الى شبكة الانترنت العالمية، دون المرور بأي بوابة تسيطر عليها الدولة اللبنانية، مما يثير تساؤلات حول السيادة الرقمية

لاحقا، في تاريخ 26 يونيو/حزيران الماضي، أعلن أن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس التنفيذي لمجموعة شركات "تيسلا" و"سبايس إيكس" ومنصة "إيكس"، إيلون ماسك، الذي أعرب عن مدى اهتمامه بلبنان وبقطاع الاتصالات والإنترنت فيه. كما أبدى رغبته في أن تكون شركاته حاضرة في لبنان، وهو ما رحب به الرئيس عون، مؤكدا "تقديم التسهيلات الممكنة، في إطار القوانين والأنظمة اللبنانية المرعية". وفي ختام الاتصال، تمنى الرئيس عون على ماسك زيارة بيروت، وردّ ماسك شاكرا له على الدعوة، وواعدا بـ"تلبيتها في أول فرصة مناسبة".

اتهامات بالتضليل... ورأي الأجهزة الأمنية

اللافت في الأمر، وما أثار ريبة المتابعين في القطاع ، ان الرئيس الأسبق لهيئة "أوجيرو" المهندس عبد المنعم يوسف، سبق له في تاريخ 31 مايو/أيار، ومن موقع معرفته وتعامله وعلاقته مع إدارة شركة "ستارلينك"، توجيه رسالة إلى وزير الاتصالات شارل الحاج، ينبه فيها إلى أنه خلافا لما يتم تداوله إعلاميا ورسميا من قبل وزراء ومسؤولين ورسميين، فإن السيد سام تورير (Sam Turer) الذي اجتمع مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الاتصالات، ليس أبدا المدير العالمي لتراخيص خدمات شركة "ستارلينك" وتطويرها في العالم، بل هو مجرد موظف فيها.

Ogero
أحد مباني "أجيرو" في بيروت

كذلك أثارت وسائل الإعلام شكوكا في شأن صدقية الاتصال الهاتفي بين الرئيس عون وماسك، إذ لم يؤكده ماسك في حسابه على منصة "إكس"، ولم تؤكده قنوات "سبايس إكس" الرسمية.

وشكك خبراء في المعلومات التي تم تداولها أن الأجهزة الأمنية اللبنانية (مخابرات الجيش، وفرع المعلومات، والأمن العام)، وافقت على منح "ستارلينك" الترخيص لأن الشركة ستمنح الأجهزة القدرة على الاطلاع على حركة الإنترنت الخاصة بمشتركيها في لبنان. وتساءلوا حول إمكان حصول الأجهزة على نسخة من داتا الاتصالات التي يتمّ تخزينها وفقا للقوانين الأميركية الصادرة في عام 2018 (Cloud ACT) والتي تفرض على الشركات الأميركية تخزين الداتا في سرفيرات في الولايات المتحدة يمكن الولوج إليها بقرار قضائي.

اعتراضات على "ستارلينك" 

في حال الترخيص لخدمة "ستارلينك"، ستنتقل البيانات من الطبق المثبت لدى المستخدم الى القمر الصناعي، وترسل الى محطة خارج الحدود ومنها الى شبكة الانترنت العالمية، دون المرور بأي بوابة تسيطر عليها الدولة اللبنانية، مما يثير تساؤلات حول السيادة الرقمية.

يحذر متابعون للشؤون الأميركية الداخلية، من تعاون أي مسؤول لبناني مع إيلون ماسك خشية ردود فعل سلبية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولفتوا إلى أن إدارة ترمب تبحث عن بدائل لشركة "سبايس إكس" في مشروع القبة الذهبية

ومن المعلوم أن فرنسا مثلا، ألغت ترخيص "ستارلينك" في 2022 حفاظا على المصلحة الوطنية، وكذلك تتشدد دولة الإمارات العربية المتحدة في الحفاظ على ملكية مباشرة لبوابة الاتصالات الدولية وإخضاع حركة البيانات للرقابة، وهذان يعتبران نموذجين يحتذى بهما.

لبنان ما بين ترمب وماسك

يشار الى أن موضوع "ستارلينك" ليس جديدا ولا مستجدا في لبنان، فقد طرح منذ سنوات عديدة في جلسات لمجلس الوزراء ومجلس النواب، حيث أثيرت محاذير أمنية واقتصادية، وتحفظات لنواب، وتم في حينه تكليف وزارة الاتصالات إعداد الدراسات اللازمة لتنظيم الإطار التجاري لعمل شركة "ستارلينك"، وتأجيل طلب الشركة الى حين استكمال الملف.

أ.ف.ب.
قمر صناعي تابع لشركة "SES" خلال مشاركتها في المؤتمر العالمي للهواتف المتحركة "MWC"، في برشلونة 4 مارس 2024

وحاليا يحذر متابعون للشؤون الأميركية الداخلية، من تعاون أي مسؤول لبناني مع إيلون ماسك خشية ردود فعل سلبية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولفتوا إلى أن إدارة ترمب تبحث عن بدائل لشركة "سبايس إكس" في مشروع القبة الذهبية.

مطالبة بإقالة وزير الاتصالات

أثار تحرك "ستارلينك" نحو السوق اللبنانية موجة من الانتقادات والاعتراضات والاحتجاجات والسجالات القانونية. فقد نشر الناشط السياسي المحامي واصف الحركة بيانا وجهه إلى رئيسي الجمهورية الحكومة، وإلى النيابة العامة المالية، فصّل فيه ما وصفه بـ"فضائح" وزير الاتصالات شارل الحاج، وطالب بإقالته من منصبه، متهما الوزير بالتواطؤ في الترخيص أو منح امتياز غير قانوني، ومشيرا إلى شبهات حول استفادة شركة "Connect" التابعة لشبكة شركات الوزير من توزيع أجهزة "ستارلينك" من دون مناقصات شفافة.

كما أشار إلى "غياب شركتي الوزير عن رسالة الاعتراض الجماعي ضد دخول "ستارلينك" إلى لبنان، والتي وقعتها معظم شركات الإنترنت المعروفة، حيث لم توقع شركتا "Mada/Waves" و "Connect على الرغم كونهما من الجهات المتضررة نظريا من دخول منافس مباشر. ويثير هذا الغياب شبهات حول وجود ترتيب ضمني أو نية للاستفادة من المشروع"، كما جاء في بيان المحامي الحركة.

شركات الإنترنت اللبنانية، التي فوجئت بالتفاهمات عبر الإعلام، حذرت من أن "ستارلينك" ستحرم مزودي الخدمة على الأقل من 25 في المئة من زبائنها، وتكبدها خسائر تتجاوز مليون دولار شهريا، وتحرم الاقتصاد اللبناني من عائدات تحوّل مباشرة الى الخارج

كذلك، تقدم المحامون الحركة، وعلي عباس، والدكتور جاد طعمه بتاريخ 30 يونيو/حزيران بإخبار الى النيابة العامة المالية ضد وزير الاتصالات وآخرين بتهمة الاختلاس وإهدار المال العام وإساءة استعمال السلطة. 

ونشرت وسائل الإعلام أن النواب ياسين ياسين وإبراهيم منيمنة وبلال حشيمي وقبلان قبلان وجهاد الصمد، يتحضرون لتقديم دعوى إبطال رخصة "ستارلينك" أمام مجلس شورى الدولة بحجة وجود مخالفات دستورية وقانونية جسيمة.

ماذا يقول القانون عن حصرية توزيع الانترنت؟

من جهتها، شركات الإنترنت اللبنانية، التي فوجئت بالتفاهمات عبر الإعلام، حذرت من أن "ستارلينك" ستحرم مزودي الخدمة على الأقل من 25 في المئة من زبائنها، وتكبدها خسائر تتجاوز مليون دولار شهريا، وتحرم الاقتصاد اللبناني من عائدات تحوّل مباشرة الى الخارج. وطالبت بتنظيم دخول الشركة الى السوق اللبنانية بشروط عادلة تتماشى مع الإطار القانوني للشركات.

أ.ف.ب.

كل هذا الصراع السياسي والقانوني، أدى إلى تأجيل صدور مرسوم بالترخيص للشركة في أواخر يونيو/حزيران، كما كان شائعا.

يستند وزير الاتصالات اللبناني إلى المادة 45 من قانون الاتصالات الرقم 431 الصادر عام 2002، التي تمنح شركة اتصالات لبنان (Liban Telecom) ترخيصا لمدة 20 سنة لتوفير خدمات الهاتف الأساسية، ومنها الإنترنت، ويعتبر أن المدة انتهت على الرغم من عدم تأسيس الشركة. واستنادا إلى البند الثالث في المادة نفسها، الذي يقضي بـ"منح الهيئة المنظمة للاتصالات ترخيصا لأي طلب في حال تخلف الشركة عن توفير خدمات الاتصالات"، فإن "ستارلينك" تحتاج للعمل في لبنان، فقط إلى إذن يصدر بمرسوم عن مجلس الوزراء. لكن المعترضين يشيرون إلى أنه لا يمكن تجاوز الدستور الذي ينص على أن منح أي كان أي امتياز في لبنان يتطلب استصدار قانون في مجلس النواب.

عطل مفاجئ يوقف خدمات "ستارلينك"عالميا

وزاد السجال اللبناني حدة، العطل المفاجئ الذي أوقف خدمات "ستارلينك" قبل أيام، فقد شهدت الخدمة، يوم الخميس 24 يوليو/تموز، أحد أكبر الأعطال على مستوى العالم، عندما تسبب في انقطاع خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية عن عشرات الآلاف من المستخدمين في الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا وآسيا وأوستراليا. ونقلت الصحيفة الأوكرانية "سترانا" أن الخدمة شهدت تعطيلا على طول خط الجبهة لدى القوات المسلحة الأوكرانية

"ستارلينك" ليست مجرد خدمة إنترنت، بل رمز للتحول الرقمي. في لبنان، يمكن أن تكون حلا طارئا لأزمة الاتصالات، لكن نجاحها رهن بتنظيم قانوني محكم واستثمار في البنية التحتية المحلية، مثل مشاريع الألياف الضوئية

ولم يتضح ما إذا كان انقطاع الخدمة قد أثر على خدمات "سبايس إكس" الأخرى القائمة على الأقمار الصناعية والتي تعتمد على شبكة أقمار "ستارلينك"، مثل "ستارشيلد"، وهي وحدة أعمال الأقمار الصناعية العسكرية التابعة للشركة، ولديها عقود بمليارات الدولارات مع وزارة الدفاع الأميركية ووكالات الاستخبارات الأميركية.

هذا العطل الواسع النطاق، دفع الخبراء إلى التكهن بما إذا كانت الخدمة قد تعرضت لخلل تقني، أو تحديث برمجي فاشل، أو حتى هجوم إلكتروني.

أ.ب.
صاروخ "فالكون 9" التابع لشركة "سبيس إكس" يحمل 26 قمراً صناعيا من نوع "ستارلينك" بعد انطلاقه من قاعدة "فاندنبرغ" للقوة الفضائية في كاليفورنيا، وهو يحلّق فوق لوس أنجلوس، 16 يونيو 2025.

واستغرقت عملية استعادة الخدمة نحو ساعتين ونصف الساعة، وكتب مايكل نيكولز، نائب رئيس هندسة "ستارلينك"، في منشور على "إكس"، أن الانقطاع نتج من فشل في أنظمة برمجية داخلية تتحكم في الشبكة الأساس، مضيفا أن الشركة تعمل على تحديد السبب الجذري لضمان عدم تكرار الأزمة.

من جانبه، اعتذر إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي للشركة عن العطل قائلا: نعتذر عن الانقطاع، ستعمل "سبايس إكس" على معالجة السبب الأساس لضمان عدم تكراره.

هل ستنتصر "ستارلينك"؟

"ستارلينك" ليست مجرد خدمة إنترنت، بل رمز للتحول الرقمي. في لبنان، يمكن أن تكون حلا طارئا لأزمة الاتصالات، لكن نجاحها رهن بتنظيم قانوني محكم واستثمار في البنية التحتية المحلية، مثل مشاريع الألياف الضوئية.

وهناك تحديات مثل التكلفة المرتفعة، غياب الدعم الفني المحلي، وعدم وجود عنوان IP لبناني قد تعيق انتشارها. لكن في حال نجاحها، قد تعزز الاستثمار الأجنبي وتدعم الشركات العالمية، مما يدر عائدات للدولة.

فهل ستتمكن "ستارلينك" من تغيير قواعد اللعبة في لبنان، أم ستبقى حلا نخبويا في بلد تُغرقه الأزمات؟ الإجابة تعتمد على قدرة الشركة على تجاوز الصراعات السياسية والقانونية.

font change

مقالات ذات صلة