إشكاليات ومحددات الوعد بالدولة الفلسطينية

حل الدولة الفلسطينية من وجهة النظر الإسرائيلية، لا يشمل كامل الضفة وقطاع غزة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
غزيون يحملون الطحين على أكتافهم قرب معبر زيكيم في شمال غزة في 27 يوليو 2025

إشكاليات ومحددات الوعد بالدولة الفلسطينية

أتى انعقاد المؤتمر الدولي لإنفاذ حل الدولتين، وبالأحرى لإنفاذ حلّ الدولة الفلسطينية، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك (28ـ29/7/2025)، بدعوة من المملكة العربية السعودية وفرنسا، بالضد من نهج حكومة بنيامين نتنياهو، المتمثل بشطب الشعب الفلسطيني من الخريطة السياسية، وإلغاء اتفاقات أوسلو (1993)، وتاليا تقويض كيان السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة (1967).

وتنبع أهمية هذا المؤتمر، إضافة إلى ما تقدم، أولا، من كونه يأتي نتيجة جهد عربي ودولي (أوروبي بشكل خاص)، ليس للاعتراف بدولة فلسطين فقط، وإنما لتمكين الفلسطينيين من هذا الحق أيضا. ثانيا، من تأكيد فرنسا بمكانتها الأوروبية والدولية كعضو في مجلس الأمن الدولي، اعترافها بدولة فلسطين في سبتمبر/أيلول القادم. ثالثا، إعادة تأكيد المملكة العربية السعودية ربطها أي مسعى للتطبيع مع إسرائيل بشرط إقامة دولة فلسطينية مستقلة. رابعا، يأتي المؤتمر ثمرة لاعتراف 145 دولة بدولة فلسطين، كعضو مراقب في الأمم المتحدة.

نكبة الفلسطينيين ووعد الدولة

القصد من ذلك أن نكبة الفلسطينيين الجديدة ربما تكون بمثابة القابلة لولادة دولتهم، وترسيخ حقهم في إقامة كيان سياسي مستقل لهم، في الأراضي المحتلة (1967)، على عكس ما توخّى نتنياهو، الذي جعل في مركز أولوياته شطب أي بعد فلسطيني في التسوية، منذ تبوأ منصب رئيس حكومة إسرائيل أول مرة (1996-1999)، والذي ظل يعمل على وأد اتفاقات أوسلو (1993)، وتهميش السلطة الفلسطينية، بكل الوسائل، السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية، خلال رئاسته لحكومات إسرائيل منذ عام 2009، وعبر حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي يشنها ضد قطاع غزة (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023)، بحجة عملية "طوفان الأقصى" ومحاربة "حماس".

إسرائيل التي ادعت أنها بمثابة واحة للديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، تصر على تعريف نفسها، بنقيض ذلك، باعتبارها دولة قومية لليهود حصرا، وكدولة دينية

على ذلك، فإن ما يميّز هذا المؤتمر انعقاده في ذروة جبروت إسرائيل، وتعنّتها، وإصرارها على إنكار حقوق الفلسطينيين، وتهميش وجودهم، ورغم حرب الإبادة التي تشنّها ضدهم، مدعومة في ذلك من الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، فإن هذا التوجه الدولي، المتعاطف مع الفلسطينيين بمعاناتهم ومأساتهم وتضحياتهم، يؤكد فكرة أن لكل ظاهرة نقيضها، وأن قوة الحق لا يمكن طمسها، وأن القوة الناعمة للمجتمعات يمكن أن تفرض ذاتها، ما يمكن ملاحظته في جانبين: الأول، انكشاف إسرائيل على حقيقتها، أمام العالم، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وكدولة تمارس الإبادة الجماعية، وهو انكشاف لم يعد يقتصر على الرأي العام العالمي، بخاصة في الدول الغربية، وإنما بات يشمل الحكومات في هذه الدول، أيضا.

أ.ف.ب
وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود يتحدث خلال مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين لإسرائيل والفلسطينيين، في مقر الأمم المتحدة، في 28 يوليو

فإسرائيل التي روّجت لنفسها باعتبارها دولة ضحايا الهولوكوست، ادعت احتكار مكانة الضحية، بل وحق البراءة، أو الاستثناء من المساءلة، من كل الممارسات القمعية والعدوانية والعنصرية والإبادية، التي تنتهجها ضد الفلسطينيين، تؤكد تشبّهها بجلادها، وتمثّلها لسياساته إزاء اليهود، في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.

أيضا، فإن إسرائيل هذه التي ادعت أنها بمثابة واحة للديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، تصر على تعريف نفسها، بنقيض ذلك، باعتبارها دولة قومية لليهود حصرا، وكدولة دينية على حساب كونها دولة ليبرالية وديمقراطية للمواطنين فيها.  

أما الجانب الثاني فيتمثل بانزياح الرأي العام في الغرب، على صعيدي المجتمعات والحكومات، وضمن ذلك في الأوساط اليهودية في تلك الدول، وحتى في الولايات المتحدة، نحو التعاطف مع الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير في دولة مستقلة، بدفع من المأساة التي يعيشها منذ قرابة عامين، كشعب أعزل، في مواجهة آلة عسكرية جبارة وقاسية، ما أعاد الغرب إلى ذاكرته عن صعود النازية، بكل ما مثلته من انحطاط أخلاقي، وعنصرية، والميل نحو الإبادة بسبب الهوية، وهو ما تفعله إسرائيل أمام العالم بالفلسطينيين، بحرمانهم من الماء والكهرباء والغذاء والدواء ومن المأوى والمحروقات، وصولا لإزاحتهم من موطنهم.

إقامة دولة فلسطينية تتطلب البت في مصير المستوطنات التي تقطع أوصال الضفة الغربية، وهو أمر من الصعب قبول إسرائيل به

محددات الحالة الفلسطينية

ثمة ملاحظات تفيد بأن هذا الجهد العربي والإقليمي والدولي، الذي تقف في مركزه المملكة العربية السعودية وفرنسا، كما قدمنا، ما زال يفتقد لبعده الذاتي الفلسطيني، إلى الدرجة المناسبة، إذ ثمة مليونا فلسطيني في قطاع غزة يتعرضون لحرب إبادة، بينما بات الفلسطينيون  في الضفة الغربية تحت هيمنة إسرائيل، سياسيا وأمنيا واقتصاديا وإداريا، ومن خلال الاعتمادية في البني التحتية، أكثر من أي وقت مضى، مع سعي إسرائيل تقطيع أوصال الضفة، بالمستعمرات، والنقاط الاستيطانية، والحواجز العسكرية، والجدار الفاصل، وعبر محو بعض مخيمات اللاجئين، ومن خلال إقامة تشكيلات ميليشياوية للمستوطنين، مع تشديد الهيمنة الإسرائيلية في القدس ومحيطها.

وبالنسبة لفلسطينيي 48، من مواطني إسرائيل، فقد باتوا عرضة للتهميش مع محاولة إخراجهم من المواطنة، أو التضييق على حقهم في الرأي والتعبير. إلى جانب كل ذلك فإن اللاجئين الفلسطينيين باتوا خارج المعادلات السياسية، بحكم إزاحة حق العودة من جدول الأعمال، لصالح التركيز على هدف الدولة الفلسطينية، وبسبب تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة، وأيضا بحكم الأوضاع الصعبة في مواطن اللاجئين الفلسطينيين، بخاصة في سوريا ولبنان، التي أدت بمجملها إلى اختفاء أو تهميش مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، فيهما، مع مغادرة أكثر من نصفهم في لجوء ثان إلى دول العالم.

رويترز
دخول دبابة إسرائيلية إلى إسرائيل من غزة، 28 يوليو

الملاحظة الثانية، التي يفترض الانتباه إليها، تفيد بأن تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم في الضفة والقطاع، ما زال يحتاج إلى تضافر عديد من المقومات، أولها، الضغط، إلى الدرجة المناسبة، على حكومة نتنياهو-سموتريتش-بن غفير، وهي الحكومة التي باتت تعتبر أكثر حكومات إسرائيل تطرفا، منذ إقامتها (1948)، وهذا يتطلب دخول الولايات المتحدة على الخط في هذا الاتجاه، وهو أمر ما زال من الصعب التكهن به، في هذه الظروف، رغم كل التحولات الجارية في المجتمع الأميركي، وفي أوساط الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وفي أوساط الجالية اليهودية فيه، في اتجاه إيجاد مقاربات سياسية لصالح الفلسطينيين.

الملاحظة الثالثة، تفترض إدراك أن الحديث عن حل الدولتين، بمعنى تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم، لا يعني أن ذلك يتطابق تماما مع الرؤية الفلسطينية لهذا الحل، أي قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين، إذ إن ذلك يتضمن تعقيدات ومداخلات ومحددات، ضمنها واقع دمار غزة، التي باتت بمثابة مكان غير صالح للعيش، أي إن ذلك يفترض أن يتضمن وقف حرب الإبادة في غزة، وتوجيه الجهود نحو إعمارها، وتقديم المساعدات لمليوني فلسطيني، باتوا يفتقدون لمقومات العيش الأساسية وللموارد التي تؤمن حياتهم واستقرارهم. كذلك فإن إقامة دولة فلسطينية تتطلب البت في مصير المستوطنات التي تقطع أوصال الضفة الغربية، وهو أمر من الصعب قبول إسرائيل به، أو إيجاد نوع من حلول وسط له، بخاصة في منطقة القدس، أي إن ذلك يتطلب إيجاد حلول مبتكرة، من الصعب تحديد ماهيتها في هذه الظروف، وفي ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، سيما إذا بقيت الإدارة الأميركية على حالها في دعم إسرائيل وتغطية سياساتها الاحتلالية والعنصرية والإبادية.

وبالأساس فإن حل الدولة الفلسطينية، من وجهة النظر الإسرائيلية، لا يشمل كامل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وإنما بعض الأراضي، أي مع إبقاء المستوطنات، أي مع حيز أقل من الأرض للفلسطينيين، ومع حيز أقل من سيادتهم على أرضهم، بحيث تبقى السيادة على الأرض والمياه والموارد والمعابر بيد إسرائيل، ما يجعل الدولة الفلسطينية في هذا الموضع بمثابة أكبر من حكم ذاتي، وأقل من دولة، سيما أن هذه الدولة ستبقى مرتبطة بالبني التحتية، الكهرباء والمياه والطاقة ووسائل الاتصال والمواصلات والمعابر مع إسرائيل.

من المثير تتبع مسار إمكانية الدولة الفلسطينية، من كونها فكرة إلى كونها واقعا، وضمن ذلك ملاحظة كيفية التصرف الإسرائيلي، وتاليا الأميركي مع هذا الوضع

تطور فكرة الدولة الفلسطينية دوليا

ما يفترض التذكير به هنا، أيضا، أن مسار فكرة الدولة الفلسطينية، في الفكر السياسي الفلسطيني، بات له نصف قرن، أي منذ إقرارها في الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974)، علما أن هذه الفكرة نشأت، أو تأسست، قبل ذلك بكثير، وفقا لقرار الأمم المتحدة (رقم 181، لعام 1947) بتقسيم فلسطين إلى دولتين (إسرائيل وفلسطين)، وهو ما تناسته أو تجاوزته الحركة الوطنية الفلسطينية لدى انطلاقها في منتصف الستينات (للاستزادة راجع مقالتي في "المجلة": "أطوار وتحولات مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة"- 15/7/2025).

بيد أن تلك الفكرة التي باتت بمثابة الهدف الأساسي للقيادة الفلسطينية منذ أواسط السبعينات، باتت تجد تمثلاتها بشكل تدريجي في المقررات الدولية، ففي عام 1974 اعترفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمنظمة التحرير كالممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بمرتبة مراقب، وهو ما سمح للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بإلقاء كلمة باسم فلسطين من منبر الأمم المتحدة في نيويورك.

وفي عام 1988، تم الاعتراف بـ"إعلان الاستقلال الفلسطيني" الصادر عن منظمة التحرير الفلسطينية، ما أدى إلى استبدال اسم "منظمة التحرير" بـ"فلسطين" في منظومة الأمم المتحدة، التي حصلت بعدها، في عام 2012، على صفة دولة بعضوية مراقب، وبات لديها الآن اعترافات من قبل 145 دولة، وهو ما يؤمل زيادته، بخاصة من الدول الأوروبية، مع إضفاء صفة العضوية الكاملة في دورة الجمعية العمومية في سبتمبر القادم.

رويترز
احتجاج أمام مقر الأمم المتحدة تحت عنوان "أوقفوا تجويع غزة الآن" في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، 1 يوليو

أما بخصوص الموقف الأميركي، فما زال من المبكر الحكم على توجهات إدارة البيت الأبيض الحالية، لكن ثمة ما يفيد بإمكان إبدائها نوعا من مرونة، أولا، بسبب موجة التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، على صعيد المجتمعات والحكومات. ثانيا، بسبب ربط المملكة العربية السعودية، ودول عربية، أي مسعى للتطبيع، وهذا ما يشكل هدفا لإدارة ترمب، مع تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم. ثالثا، أن الدولة الفلسطينية إذا نشأت اليوم ستكون مرتبطة بمحددات عديدة، أي ستكون، على الأرجح، مجرد دولة ضعيفة ومقيدة. رابعا، يفيد أن نتذكر بأن الإدارة الأميركية قامت بالتصويت بالموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397 (12/3/2002)، الذي ينص على حق الفلسطينيين بإقامة دولة لهم، في سابقة فريدة من نوعها، وذلك في عهد الرئيس بوش الابن، آنذاك، أي إن ثمة في السياسة الأميركية، وفي ظل رئيس جمهوري، ما يفيد بإمكان زحزحة الموقف الأميركي في اتجاه تأييد، أو عدم ممانعة، إقرار تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم، وإضفاء طابع العضوية الكاملة على دولة فلسطين في المنظمة الدولية.

بالنظر إلى كل ذلك من المثير تتبع مسار إمكانية الدولة الفلسطينية، من كونها فكرة إلى كونها واقعا، وضمن ذلك ملاحظة كيفية التصرف الإسرائيلي، وتاليا الأميركي، مع هذا الوضع، مع آثار كل ذلك على وضعية الشرق الأوسط، ومكانة إسرائيل فيه، في ظل الحالة المأساوية للفلسطينيين، وفي هذا البحث المضني والمرير عن سلام مفقود، يؤمل إيجاده بدولة فلسطينية، قابلة للحياة.

وهكذا بانتظار الاجتماع القادم، وبانتظار تثمير جهود العربية السعودية وفرنسا، في سبتمبر في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.

font change

مقالات ذات صلة