بين الأسرى والحرب... إسرائيل في مأزق الغاية والوسيلة

الأسرى الذين كانوا شعار المعركة صاروا رهائن في لعبة سياسية

أ ف ب
أ ف ب
يجلس المتظاهرون على الطريق، خلال احتجاج خارج مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للمطالبة بالإفراج الفوري عن الرهائن المختطفين خلال هجوم 7 أكتوبر 2023 من قبل حماس، ونهاية الحرب، في القدس، 7 أغسطس 2025

بين الأسرى والحرب... إسرائيل في مأزق الغاية والوسيلة

منذ يوليو/تموز 2025، وُضعت إسرائيل أمام مشهد لم تعد قادرة على التلاعب به: مقطعان مصوّران لأسيرين إسرائيليين محتجزين في غزة، ظهرا بهزال شديد وسوء تغذية، فجّرا جدلًا داخليا واسعا، ليس فقط حول مصير المحتجزين، بل حول كلفة الحرب وأهدافها المتآكلة. الفيديوهان كشفا ما تحاول الحكومة إخفاءه: أن من يُفترض أن تُشن الحرب باسمهم، قد يُقتلون بها، وأن الشارع لم يعد يثق بأن ما يُقال في الميكروفونات يُترجم في الميدان.

الأسيران، كما ظهرا في تسجيلات "كتائب القسام"، لا يمثلان فقط حالة إنسانية، بل ورقة دامغة على فشل سياسي وعسكري متراكم. أحدهما بالكاد يتحدث، والآخر بالكاد يتحرك، والصورة وحدها تكفي لتقويض الخطاب الرسمي الذي يدّعي أن الحرب تجري لأجل تحريرهم، فيما تتعثر صفقات التبادل بسبب رفض نتنياهو إنهاء الحرب.

أمام هذه الصورة، لجأت إسرائيل كعادتها إلى أدواتها الدعائية، فقارنت حال الأسيرين بصور تاريخية من معسكرات النازية، محاولة إحياء ذاكرة الضحية اليهودية. لكن المقارنة سقطت أخلاقيا وسياسيا، أمام مشاهد موثّقة من غزة: أطفال يموتون من التجويع، مدنيون يُقتلون أثناء انتظارهم في طوابير للحصول على كيس طحين، وأحياء بأكملها تُحاصر حتى التفسخ. الرأي العام الدولي لم يشترِ هذه المقارنة، بل رأى فيها ابتزازا خطابيا يتهرّب من الحقيقة على الأرض.

في ظل هذا الإخفاق الدعائي، بدا واضحا أن صورة الأسيرين، جاءت في توقيت بالغ الإحراج لحكومة تحاول إبقاء قبضتها على الرأي العام المحلي، وسط احتجاجات تتنامى، وجدل لا يتوقف حول جدوى استمرار الحرب.

التحوّل الأكثر أهمية لم يكن في غرف الاجتماعات، بل في الشارع. فقد شهدت إسرائيل خلال الأيام الأخيرة ولا تزال، واحدة من أوسع موجات الاحتجاج منذ بداية الحرب

في الوقت ذاته، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن نيتها تنفيذ خطة "الاحتلال التدريجي لغزة" أي احتلال ربع القطاع المتبقي لتستكمل احتلاله، والتي تتضمن تطويق غزة، والتوغّل نحو وسط القطاع، بما يشمل دير البلح والمخيمات، بعد تهجير نحو مليون من السكان إلى الجنوب ما يحتاج أسابيع ليبدأ. لكن هذه الخطة لم تُقابل بالإجماع، بل أثارت اعتراضات صريحة داخل الجيش، حيث حذر قادته من أنها مقامرة قد تودي بحياة الأسرى كما قتل 42 منهم، من قبل، منذ اندلاع الحرب، وتُغرق الجيش في مستنقع عمليات بلا أفق.

تقديرات الجيش تشير إلى أن القتال في مناطق الوسط– المكتظة سكانيا والمعقدة ميدانيا– لا يضمن نتائج حاسمة، بل يفاقم المخاطر على حياة المحتجزين والجنود، في ظل غياب معلومات دقيقة عن أماكنهم، وتراجع جدوى العمليات العسكرية.

أ ف ب
فلسطينيون يتسلمون حساء العدس في نقطة توزيع الأغذية في مدينة غزة في 2 أغسطس 2025

وفي اجتماعات مغلقة، أعرب ضباط كبار عن خشيتهم من أن الجيش يُستخدم كأداة سياسية لتمديد عمر الحكومة، لا كوسيلة فعالة لتحقيق أهداف محددة. وبرزت تساؤلات عن السبب الحقيقي لاستمرار الحرب، بعد أن أعلن المسؤولون العسكريون مرارًا عن استنفاد الأهداف العسكرية القابلة للتحقيق.

لكن التحوّل الأكثر أهمية لم يكن في غرف الاجتماعات، بل في الشارع. فقد شهدت إسرائيل خلال الأيام الأخيرة ولا تزال، واحدة من أوسع موجات الاحتجاج منذ بداية الحرب. الآلاف تظاهروا في تل أبيب وحيفا والقدس، مطالبين بإعادة الأسرى فورا، ورافضين استمرار العمليات العسكرية التي يعتبرونها خطرا مباشرا على حياة ذويهم. الاحتجاجات والمواجهات مع الشرطة خرجت من دائرة الحزن إلى مربع الاتهام: "الحكومة تُضحي بالأسرى لأجل بقائها".

لافتات واضحة رُفعت: "الحرب تقتلهم لا تُنقذهم"، و"نريد أبناءنا لا شعاراتكم"، و"كفى كذبًا... الأسرى ليسوا ذخيرة سياسية". هذه الأصوات لا تأتي من هوامش المجتمع، بل من عائلات الجنود، ومن جنود سابقين، ومن قادة احتياط، جميعهم يطالبون بوقف الحرب، والدخول الفوري في صفقة تبادل، حتى وإن كان الثمن وقف إطلاق النار أو حتى إنهاء الحرب، ويجادلون الحكومة بأن نموذج لبنان و"حزب الله" حاضر، حيث اتفاق وقف إطلاق النار، لم يمنع إسرائيل من قتل أكثر من 500 عنصر، وشن مئات الغارات على جنوبي لبنان.

أظهرت استطلاعات رأي أن أكثر من 60 في المئة من الإسرائيليين يفضلون إنهاء الحرب مقابل استعادة المحتجزين

يبدو أن الصوت الشعبي بات يفرض إيقاعه على النقاش العام، إذ أظهرت استطلاعات رأي أن أكثر من 60 في المئة من الإسرائيليين يفضلون إنهاء الحرب مقابل استعادة المحتجزين. وهي معادلة تقلب منطق الحكومة رأسًا على عقب، وتعيد تعريف الأولويات بين الرغبة في القضاء على "حماس"، والرغبة في استعادة من تبقى على قيد الحياة.

الاحتجاجات اليومية، والوقفات أمام مقر وزارة الدفاع، ورسائل العائلات إلى المسؤولين، لم تعد مجرّد ضغوط عاطفية، بل باتت تمثل تيارا اجتماعيا يرفض استمرار القتال لأجل غايات لا تمسّه مباشرة، بل تهدد أبناءه في الأسر.

المفارقة أن عائلات الأسرى باتت تلتقي وتتواصل مع الموفد الأميركي الخاص ويتكوف على نحو متكرر، فيما تلتقي نادرا مع نتنياهو أو وزرائه. في المقابل، لا يبدو أن الحكومة بصدد التراجع. بل على العكس، تُواصل تقديم الحرب باعتبارها الطريق الوحيد لاستعادة الردع، وتفكيك سلطة "حماس". لكن الواقع يشي بغير ذلك: عمليات عسكرية تتكرر، اجتياحات ثم انسحابات، ولا نتيجة حاسمة، بل مزيد من الإنهاك الميداني والتكلفة السياسية.

وفي ظل هذا المأزق، تتسع الهوة بين المؤسسة السياسية والعسكرية. فالسياسيون يتحدثون عن نصر مؤجل، بينما العسكريون يحذرون من ورطة بلا مخرج. أما الأسرى، فيقفون بين المعادلتين: يراهم الشارع أولا، وتراهم الحكومة في آخر الحساب.

من جهة أخرى، تفيد مصادر دبلوماسية أن محاولات الوساطة– من قطر ومصر والولايات المتحدة– ما زالت تصطدم برفض إسرائيلي، لأي صفقة تتضمن إنهاء الحرب. الأمر الذي يشير إلى أن الحكومة تفضل إبقاء الورقة معلقة، حتى إن كان الثمن المزيد من التآكل الداخلي.

لقد باتت إسرائيل أمام لحظة اختبار مركبة: هل تنصت لصوت الشارع وتبحث عن تسوية تحفظ حياة المحتجزين وتوقف الاستنزاف؟ أم تُكمل السير نحو هاوية سياسية وأمنية، لا يُعرف من سيخرج منها واقفًا؟

الحرب آلة لا تفرّق بين ضحية ومشروع، بين أسير وعدو، بين من يُراد إنقاذه ومن يُراد نسيانه

لكن الحرب، كما التاريخ، لا تنتظر أحدًا، فإسرائيل تقف اليوم لا عند مفترق، بل فوق حافة جرف يتآكل تحت أقدامها. الأسرى الذين كانوا شعار المعركة، صاروا رهائن في لعبة سياسية تفتقر إلى البوصلة. والجيش الذي دخل غزة باندفاعة القوة، يسير اليوم ببطء الضياع، بلا خريطة خروج، ولا هدف يُقنع جنوده أنهم يدافعون عن شيء سوى عمر الحكومة.

أ ف ب
تُظهر هذه اللقطة من فيديو نشره الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية في الأول من أغسطس/آب 2025، الرهينة الإسرائيلي إيفياتار ديفيد، وهو يبدو ضعيفًا ويعاني من سوء التغذية

الشارع، وقد تجاوز حاجز الخوف منذ البداية، لم يعد يسأل عن النصر، بل عن المعنى. لم يعد يطلب رفع العلم، بل استعادة ما بقي من ضمير. وبينما يصرخ المحتجون: "أعيدوهم أحياء"، تواصل السياسة دفن أصواتهم تحت ركام الحسابات الضيقة.

في النهايات الكبرى، كما قيل يومًا، لا ينهار المشروع حين يسقط آخر جندي، بل حين يكفّ الشعب عن التصديق. واليوم، حين يرى الإسرائيليون أبناءهم في الأسر، ويشاهد العالم أطفال غزة يُقصفون وهم ينتظرون الطحين، تتلاشى كل الروايات، ويظهر وجه الحرب كما هو: آلة لا تفرّق بين ضحية ومشروع، بين أسير وعدو، بين من يُراد إنقاذه ومن يُراد نسيانه.

font change