ما وراء تصاعد انتقادات مصر لإسرائيل؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود من الجيش المصري في الجانب المصري من معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة، شرق محافظة شمال سيناء، في 20 أكتوبر 2023

ما وراء تصاعد انتقادات مصر لإسرائيل؟

وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحرب في غزة مؤخرا بأنها "إبادة جماعية ممنهجة"، ما أثار دهشة البعض. وخلال مؤتمر صحافي عقده مع نظيره الفيتنامي في القاهرة يوم 5 أغسطس/آب، أكد أنه لم يعد للحرب من غاية سوى قتل أهل غزة ومحو القضية الفلسطينية بالكامل.

ووجدت تصريحاته صدى في تصعيد لهجة وزارة الخارجية المصرية، ففي 9 أغسطس، استخدم وزير الخارجية بدر عبد العاطي التعبير ذاته، متعهدا بأن مصر ستعمل بكل السبل على منع تهجير سكان غزة.

وتعكس هذه الخطابات الحادة تحولا واضحا عن النبرة المعتدلة التي دأبت مصر على اعتمادها، بوصفها وسيطا رئيسا في مفاوضات وقف إطلاق النار غير المباشرة وتبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل، وهي التي حرصت دائما على انتقاء كلماتها بعناية والمحافظة على درجة من الحياد وتجنب استعداء أي طرف في النزاع. ورغم أن المسؤولين المصريين أعربوا مرارا عن معارضتهم للحرب وللأعمال الإسرائيلية في غزة، فإنها المرة الأولى التي تستخدم القاهرة فيها لغة بهذا القدر من الحزم لوصف الدمار وخسائر الأرواح هناك.

ومع ذلك، قد لا يبدو هذا التحول مفاجئا تماما بالنسبة لمتابعي تطور الموقف المصري عن كثب. ولكن توقيته يكتسب أهمية خاصة، فهو يأتي في أعقاب تطورات وضعت مصر في موقف معقد، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقات المصرية-الإسرائيلية.

الإحباط

جاءت موجة الغضب الأخيرة في مصر عقب انهيار جهود الوساطة المصرية-القطرية المشتركة للتوصل إلى اتفاق مرحلي بين "حماس" وإسرائيل، كان يمكن أن يضمن الإفراج التدريجي عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل في غزة، بما فيها "حماس"، مقابل وقف لإطلاق النار قد يمهد الطريق لإنهاء الحرب بالكامل.

إلى جانب التهديد الذي تشكله التطورات على الأمن القومي المصري، فإنها تتزامن مع تدهور حاد في الأوضاع الإنسانية في غزة. فلا تزال كمية المساعدات غير كافية على الإطلاق

لقد ضغطت القاهرة والدوحة من أجل هذا الترتيب منذ مارس/آذار، حين أنهت إسرائيل فجأة وقف إطلاق النار الأول، مضحية بفترة هدوء هشة لم تدم سوى أقل من شهرين من قصف غزة، وذلك في سبيل مناورات سياسية داخلية ومصالح الائتلاف الحاكم. وخلال الأشهر الخمسة التي تلت استئناف المحادثات، وعلى الرغم من الانخراط المصري-القطري المستمر، يبدو أن القاهرة استنتجت أن إسرائيل لا تبدي اهتماما يذكر بمصير نحو عشرين من رهائنها الأحياء في غزة، أو حتى ببقايا ما يقارب ثلاثين آخرين.

وبات المفاوضون المصريون على قناعة، كما يبدو، بأن استمرار النزاع يخدم المصالح السياسية للائتلاف الحاكم في إسرائيل، حتى وإن كان ذلك على حساب تعريض الرهائن للخطر. لذلك، لم يكن مفاجئا في القاهرة إعلان الولايات المتحدة مؤخرا فشل محادثات التقارب بين "حماس" وإسرائيل. وتعتقد القاهرة أن بعض قادة اليمين المتطرف في إسرائيل يرون في الحرب فرصة نادرة، قد لا تتكرر، لتوسيع أراضي الدولة وإخماد تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولتهم نهائيا.

وفي هذه الأثناء، يتولى البيت الأبيض رئيس متعاطف مع هذه الطموحات، سبق له أن أعرب عن أسفه لكون إسرائيل مجرد "بقعة صغيرة" على خريطة الشرق الأوسط مقارنة بالأراضي الشاسعة المحيطة بها. ورغم أن المبرر الأخلاقي للحرب في غزة قد تلاشى تقريبا تحت وطأة الدماء المراقة هناك، يعتقد وزراء الحكومة الإسرائيلية اليمينيون أن هذا المبرر لم ينته تماما بعد. وهم يسعون لاستغلال دعم الرئيس الأميركي دونالد ترمب وبقايا هذا المبرر لمواصلة التوسع الإقليمي، وهي استراتيجية تجلت مؤخرا في قرار المجلس الأمني الإسرائيلي باحتلال غزة بالكامل.

أ.ب
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في القاهرة، 25 أكتوبر 2023

ومع تصاعد الإجراءات التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، فإن السيطرة الكاملة على غزة ستقضي فعليا على حلم إقامة دولة فلسطينية. وتأتي هذه الاستراتيجية في وقت تستعد فيه عدة دول للاعتراف بدولة فلسطينية الشهر المقبل، ما يوضح سبب تصميم الاحتلال الإسرائيلي المخطط له باعتباره خطوة استباقية لتقويض تلك الإعلانات المتوقعة.

وبالنسبة للقاهرة، فإن كل ذلك يتجاوز مجرد إزعاج دبلوماسي، إذ يمس مباشرة مصالح الأمن القومي المصري، وهو ما يشكل جذر الغضب المتصاعد.

تصاعد الضغوط

إلى جانب التهديد الذي تشكله هذه التطورات على الأمن القومي المصري، والذي سنتناوله بالتفصيل لاحقا، فإنها تتزامن مع تدهور حاد في الأوضاع الإنسانية في غزة. فلا تزال كمية المساعدات التي تدخل الأراضي المدمرة بالحرب غير كافية على الإطلاق، بينما أثبتت آلية التوزيع التي ترعاها الولايات المتحدة، والمعروفة باسم مؤسسة غزة الإنسانية، فشلا ذريعا. إذ تحولت مراكزها، في بعض الحالات، إلى مصائد مميتة للباحثين اليائسين عن المساعدات. وتجد غزة نفسها الآن على حافة المجاعة، إن لم تكن قد تجاوزت هذا الحد بالفعل.

يستند إصرار مصر على دفع المساعدات إلى هدف استراتيجي: الإبقاء على قطاع غزة صالحا للحياة، في تحدٍ للنية الإسرائيلية الواضحة بجعله غير قابل للعيش

وفي ظل هذه الأوضاع، تحوّل الاهتمام إلى دور مصر في تزويد غزة بالمساعدات، خاصة وسط حملة تضليل واسعة النطاق نظمتها "حماس"، وجماعة الإخوان المسلمين الأم، وبشكل مفاجئ ومثير للسخرية، إسرائيل. تهدف هذه الحملة إلى صرف الأنظار عن مسؤولية إسرائيل عن الكارثة الإنسانية في غزة وإلقاء اللوم على مصر. وبلغت هذه الحملة الدعائية ذروتها السيريالية في وقت سابق من هذا الشهر، حين نظم العشرات من الإسلاميين احتجاجا أمام السفارة المصرية في تل أبيب، متهمين القاهرة بفرض "حصار" على غزة.

لم تؤد هذه التحركات إلى زيادة الضغط على مصر فحسب، بل وضعتها أيضا في موقف دفاعي. ففي الأسابيع الأخيرة، تحرك الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارا لدحض هذه المزاعم، بما في ذلك خطاب متلفز في 28 يوليو/تموز خصصه بالكامل لتوضيح جهود مصر في إيصال المساعدات. وبالنسبة للقاهرة، لا ترتبط المسألة بالمظهر الخارجي فقط، بل تمس صميم الأمن القومي. فمصر تبقي معبر رفح مفتوحا من جانبها، وهو الرابط البري المباشر الوحيد مع غزة، في جميع الأوقات. غير أن الجانب الغزاوي من المعبر يخضع، منذ مايو/أيار 2023، للاحتلال الإسرائيلي، في خطوة تهدف إلى قطع صلة مصر بالقطاع وتقليص نفوذها الاستراتيجي في ملف غزة.

أ.ف.ب
جنود من الجيش المصري يقودون آلية مدرعة قرب الجانب المصري من معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة، في 23 مارس 2024

وغالبا ما تنتظر قوافل المساعدات أياما، بل أسابيع، في سيناء المصرية قبل السماح لها بالدخول. وفي كثير من الأحيان، تُجبر الشاحنات على العودة محملة بالكامل بعد عبورها معبر رفح، لتسير عشرات الكيلومترات إلى إسرائيل عبر معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، حيث ترفض السلطات الإسرائيلية حمولتها. وخلال زيارة لرفح في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عاينت "المجلة" عن كثب التأخيرات الشديدة والعقبات اللوجستية التي تواجهها قوافل المساعدات في شمال سيناء قبل السماح لها بالدخول إلى غزة.

ويستند إصرار مصر على دفع المساعدات إلى هدف استراتيجي: الإبقاء على قطاع غزة صالحا للحياة، في تحدٍ للنية الإسرائيلية الواضحة بجعله غير قابل للعيش. وتخشى القاهرة أنه إذا أصبحت الظروف لا تُطاق، فقد يندفع مئات الآلاف من سكان غزة عبر الحدود إلى مصر، سواء هربا من الجوع أو القصف الإسرائيلي. ومثل هذا النزوح الجماعي لن يسبب فقط حالة طوارئ إنسانية داخل مصر، بل سيمهد أيضا الطريق لتهجير غزة وفقدانها الدائم لصالح إسرائيل.

شدد السيسي، في تصريحه يوم 5 أغسطس/آب، على أن مصر لن تُستخدم كمنصة لتهجير سكان غزة. وبعد أيام، رفض علنا خطة إسرائيل لاحتلال القطاع

برميل البارود

أدى قرار المجلس الأمني الإسرائيلي في وقت سابق من هذا الشهر بتمديد سيطرته إلى ما بعد نسبة الـ75 في المئة الحالية من غزة، ليصل في النهاية إلى الاحتلال الكامل، وإلى زيادة التوتر في العلاقات مع مصر زيادة تحمل خطر تحول التوتر إلى نقطة اشتعال متفجرة. وتشمل الخطة التهجير القسري لما يقرب من مليون ساكن في مدينة غزة الشمالية إلى الجزء الجنوبي من القطاع، على بعد كيلومترات قليلة من الحدود المصرية، ما يفاقم الوضع الإنساني المتردي بالفعل.

ومع تقدم القوات الإسرائيلية جنوبا في مطاردة مقاتلي "حماس" المتبقين، ستتدهور الأوضاع في جنوب غزة حتما، خاصة في ظل القيود المفروضة حاليا على الغذاء والإمدادات الأساسية. وقد تؤدي هذه الظروف إلى هجرة جماعية للفلسطينيين نحو شبه جزيرة سيناء المصرية، وهو سيناريو كابوسي لصانعي القرار في القاهرة، الذين حذروا من هذا الاحتمال منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أ.ف.ب
فلسطينيون يبحثون عما يمكن إنقاذه من أنقاض مبانٍ دُمرت في قصف إسرائيلي على حي الدرج بمدينة غزة، 16 يوليو 2025

وبالنسبة لمصر، لن يمثل ذلك مجرد أزمة إنسانية، بل سيكون بمثابة انتهاك مباشر لمعاهدة السلام الموقعة عام 1979، وهي الأولى بين إسرائيل ودولة عربية. وقد أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى ذلك في مارس 2023، محذرا من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء. وأبرزت جدية الموقف المصري تصريحات محافظ شمال سيناء، الذي شغل سابقا منصبي قائد الجيش الميداني الثاني ورئيس المخابرات العسكرية، حين أكد أن مصر سترد بقوة مفرطة على أي اقتحام لأراضيها، وهي تصريحات من المستبعد أن تكون قد صدرت باستخفاف.

لقد شدد السيسي، في تصريحه يوم 5 أغسطس/آب، على أن مصر لن تُستخدم كمنصة لتهجير سكان غزة. وبعد أيام، رفض علنا خطة إسرائيل لاحتلال القطاع. ويضع هذا الموقف الحازم علامات استفهام حول قدرة إسرائيل على المضي قدما دون مواجهة تحديات جدية لطموحاتها في غزة، كما يضع البلدين على مسار تصادم محتمل، ما لم يتراجع أحد الطرفين. وأي الجانبين سيتنازل في النهاية سيحدد ما إذا كانت إسرائيل ستبقى ضمن حدودها الحالية، على الأقل في الوقت الراهن، أم إن حدودها ستشهد تغييرا دائما يعيد تشكيل المشهد الإقليمي بأكمله.

font change