لهذا تتمنى مصر لو أن الحرب على ايران لم تندلع قط

 رويترز
رويترز
وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي يستقبل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في القاهرة، مصر، 2 يونيو

لهذا تتمنى مصر لو أن الحرب على ايران لم تندلع قط

رفضت مصر الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد إيران رفضا قاطعا لا لبس فيه، وحذّر كلٌّ من الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية بدر عبد العاطي، في اتصالات دبلوماسية أجرياها، من اتساع نطاق الصراع الذي يمكن أن يخرج عن السيطرة ويتطور إلى كارثة إقليمية. وحثّ كلا المسؤولين على الوقف الفوري للعنف ودعيا إلى حل النزاعات بالوسائل السلمية وعبر المفاوضات.

ورفض القاهرة للتصعيد ليس مجرد خطاب بلاغي، بل يعكس الرؤية الاستراتيجية المصرية، التي تتشابك فيها الهموم الداخلية مع المعطيات الإقليمية على نحو عميق.

عدو قديم

لقد أمضت مصر وإيران العامين الماضيين في تمهيد الطريق بهدوءٍ لانفراجٍ دبلوماسي، وتجسد هذا الجهد في السياق الأوسع للمصالحة الإقليمية، حيث تتحول الأطراف التي كانت متخاصمة في السابق، بحذر،ٍ إلى أنداد دبلوماسيين. وقد اكتسب هذا التحول زخمًا بعد اتفاق السعودية وإيران عام 2023 على تطبيع العلاقات، بوساطةٍ صينية- وهي خطوة شجّعت مصر على استكشاف مسارٍ مماثل.

على مدى نصف القرن الماضي، لم يكن تردد مصر في التعامل مع إيران ناتجا عن عداءٍ مباشرٍ بقدر ما كان مدفوعا برغبةٍ في الحفاظ على علاقات جيدة مع حلفاء مصر الخليجيين. ولا يعني ذلك أنه لم يكن بين البلدين خلافات سياسية وأيديولوجية وجيوسياسية، وهي خلافات ما زالت قائمة، لا سيما منذ اندلاع الثورة الإيرانية في إيران عام 1979. وتعزز الخلاف بسبب معارضة إيران معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في العام ذاته، ولطالما كان دعمها جهاتٍ فاعلة غير حكومية، مثل "حزب الله" والحوثيين و"حماس"، تراها مصر عوامل مزعزعة للاستقرار الإقليمي، ناهيك عن شعور القاهرة بالاستياء العميق لدور إيران في تدمير سوريا والعراق.

حين شرعت المملكة العربية السعودية وإيران في مسار تقارب برعاية صينية عام 2023، كان من المتوقع أن تحذو مصر حذوهما، وهو ما حصل فعلاً

ومعروف أن مصر نمّت تدريجيا القدرة على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية كلما تطلبت المصلحة الوطنية ذلك. فهي تحافظ على شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا، وتتعاون مع الولايات المتحدة، وتبقي على علاقات قوية مع الدول الأوروبية. وقد اقتربت من تركيا على الرغم من بقائها متحالفةً مع اليونان وقبرص، وذلك كله دليل على براعتها في تحقيق التوازن في منطقةٍ تتزايد فيها التصدعات.

ومع ذلك، حرصت مصر طويلا على عدم توظيف قدرتها المعهودة في التعامل المتوازن مع الخصوم السياسيين فيما يخص إيران، خشية إرباك حلفائها في الخليج. وفي عام 2014، أعلن المرشح حينذاك السيسي أن أي تعامل مع طهران يجب أن يمر عبر الخليج- في إشارةٍ إلى مراعاته للحساسيات الإقليمية.

التوازن

حين شرعت المملكة العربية السعودية وإيران في مسار تقارب برعاية صينية عام 2023، كان من المتوقع أن تحذو مصر حذوهما، وهو ما حصل فعلاً. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، خلال زيارته الثانية للقاهرة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن العقبة الأخيرة أمام تحسين العلاقات بين البلدين قد أُزيلت، من دون أن يحدّد ماهية تلك العقبة.

 رويترز
حرائق في مستودع نفطي قرب طهران بعد هجوم اسرائيلي في 15 يونيو

وبعد أيام قليلة، أعلنت السلطات البلدية في طهران عن نيتها تغيير اسم أحد شوارع شمال العاصمة، الذي كان يحمل اسم قاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، موقّع اتفاقية السلام مع إسرائيل، في خطوة رمزية لمعالجة أحد أبرز أسباب التوتر بين البلدين.

ويبدو أن الرغبة في فتح صفحة جديدة متبادلة، فلكل من القاهرة وطهران دوافعها الخاصة للشروع في مرحلة جديدة. من ناحيتها، تواجه مصر، على وجه الخصوص، مشهدا إقليميا يتبدّل بسرعة غير مسبوقة. فعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض تحمل معها تحولا في قواعد اللعبة الإقليمية، إذ يتبنى الرئيس الأميركي مقاربة قائمة على المعاملة بالمثل الخالصة في علاقاته مع دول المنطقة. وفي ظل هذا الإطار المستجد، تجد مصر نفسها بلا أوراق ضغط تُذكر، فأزماتها الاقتصادية تحدّ من قدرتها على تقديم ما يغري واشنطن من فرص تجارية أو استثمارية أو شراكات مالية.

الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران ستخلّف تحوّلات زلزالية، ليس في هذين البلدين وحدهما، بل في عموم الإقليم، بما في ذلك الدول غير المنخرطة مباشرة في النزاع، وعلى رأسها مصر

وقد زاد من تهميش الدور المصري رفض القاهرة استقبال لاجئين من قطاع غزة، ما جعلها عقبة أمام رؤية ترمب الهادفة إلى تحويل القطاع الساحلي إلى ما سماه "الريفييرا الشرق أوسطية". كما امتنعت مصر عن دفع تكاليف الضربات الأميركية ضد الحوثيين، رغم أنها كانت من أكثر الدول تضررا من هجماتهم على حركة الملاحة في البحر الأحمر. كل ذلك ساهم في تراجع موقع مصر في حسابات الإدارة الأميركية الجديدة.

ضمن هذا السياق، بدأت القاهرة تنظر إلى إعادة وصل ما انقطع مع طهران بوصفها فرصة استراتيجية لاستعادة حضورها السياسي في الإقليم.

وقبل اندلاع الحرب الراهنة، كانت مصر تبذل جهدا ملموسا لبناء رصيد سياسي مع إيران، فاستضافت لقاءات جمعت بين الوزير عراقجي ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في محاولة لتخفيف التوتر بشأن الملف النووي الإيراني. كما عرضت لعب دور الوسيط في الخلاف القائم حول البرنامج النووي، من دون أن تتجاوز، بحذر محسوب، الدور التقليدي الذي تضطلع به سلطنة عُمان في هذا المجال.

بيد أن قرار إسرائيل حلّ النزاع النووي مع إيران بالقوة العسكرية وجه ضربة مباشرة لطموحات مصر، وباتت محاولتها العودة إلى المسرح الإقليمي من بوابة الوساطة السياسية، على ما يبدو، مجمدة إلى أجل غير مسمى.

المأزق

لا ريب في أن الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران ستخلّف تحوّلات زلزالية، ليس في هذين البلدين وحدهما، بل في عموم الإقليم، بما في ذلك الدول غير المنخرطة مباشرة في النزاع، وعلى رأسها مصر.

وستُحدّد نتائج هذه الحرب مستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسي، وربما مستقبل النظام الإيراني نفسه. أما بالنسبة إلى مصر، فستتضافر الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذا الصراع مع الخسائر السياسية، ولا سيما في حال اتسع نطاق المواجهة ليشمل أذرع إيران الإقليمية، وعلى رأسها جماعة الحوثي.

فمنذ اندلاع الحرب في غزة قبل عام ونصف العام، تكبّدت مصر خسائر بمليارات الدولارات من عائدات قناة السويس، وهو ما دفع اقتصادها إلى شفير الانهيار. وقد أدّت الضربات الصاروخية الإيرانية الأخيرة ضد إسرائيل إلى إغلاق الحقول الغازية في شرق المتوسط، ما دفع تل أبيب إلى تعليق إمدادات الغاز إلى مصر، في خطوة أرغمت القاهرة، المتعطشة للطاقة، على العودة إلى خطط تقنين الكهرباء التي أثارت استياء شعبيا واسعا.

إذا خرجت إيران منتصرة من هذه الحرب، فلن يكون ذلك أقلّ خطورة. فدولةٌ إيرانية شديدة البأس ستكون عصيّة على الكبح. ومثل هذا الانتصار سيُنعش وكلاءها التقليديين في المنطقة

لقد اعتادت مصر في الواقع، إلى حد ما، على التكيّف مع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن اتساع رقعة العنف الإقليمي، فوضعت خططا للاستيعاب، وإن تطلّب بعضها مزيداً من الغرق في مستنقع الديون. غير أن الحال هذه المرة سيتغير، وقد يكون من الصعب على القاهرة التكيّف مع الآثار المتواصلة والطويلة الأمد لهذه الحرب، أيا كانت طبيعتها.

ولأن مصر ليست البلد الوحيد الذي يعاني من هذا القلق، فإن مآلات هذا الصراع يجب أن تثير انشغال كل دول المنطقة، في ظل تشكّل نظام إقليمي جديد.

فانتصار إسرائيل سيحمل تداعيات بعيدة المدى. ذلك أن دولة إسرائيلية خارقة القوة قد تمضي في تنفيذ خطتها لإعادة رسم خريطة المنطقة، بدءا بترحيل سكان غزة، ودفعهم نحو الأراضي المصرية، مرورا بإنهاء الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة. ولن يفتح ذلك أبواب الجحيم على الإقليم فحسب، بل قد يمهّد أيضا لاحتمال مواجهة محتملة بين مصر وإسرائيل.

فإن اختارت القاهرة التزام الصمت أمام تصفية القضية الفلسطينية، فستظلّ في مرمى حسابات تل أبيب، التي لن تتوانى عن افتعال صدام مستقبلي معها، باعتبارها العقبة الأخيرة أمام تحقيق هيمنتها الإقليمية.

Reuters
سيدة فلسطينية وطفلة تحملان أكياسا من الحطب في جوار أنقاض منازل مدمرة في مدينة غزة

أما إذا خرجت إيران منتصرة من هذه الحرب، فلن يكون ذلك أقلّ خطورة. فدولةٌ إيرانية شديدة البأس ستكون عصيّة على الكبح. مثل هذا الانتصار سيُنعش وكلاءها التقليديين في المنطقة، ويفتح الباب أمام ولادة أذرع جديدة تسير على نهجها، في طريق الهيمنة الإقليمية، وإخضاع الدول المجاورة وإغراقها في مزيد من التصدّع.

لهذا كله، يتمنّى كثير من الاستراتيجيين في القاهرة لو أن هذه الحرب لم تندلع أصلا، على الرغم من كلفة الاحتكاك السياسي السابق بين الطرفين. ذلك أن منطق الأمور يشير إلى أن ما بعد هذه الحرب سيكون أسوأ للجميع مما كان قبلها، ربما باستثناء المنتصر، إن وُجد منتصر.

font change

مقالات ذات صلة