تحطيم التماثيل في الجزائر... أكثر من مجرد "فعل ملموس"

وسيلة جماعية للتعبير عن رفض المعالم التي ارتبطت بفترة الاستعمار الفرنسي

أ ف ب
أ ف ب
نافورة عين الفوارة في سطيف، بعد تخريبها في 18 ديسمبر 2017. ووفقًا للشرطة، قام رجلٌ مُختل بتخريب النافورة التي صنعها النحات الفرنسي فرانسيس دو سان فيدال عام 1899

تحطيم التماثيل في الجزائر... أكثر من مجرد "فعل ملموس"

قبل بضعة أيام، عندما كان المارة يتوافدون عليها لارتشاف مياهها المتدفقة من أربع عيون جارية، مُوزعة على الجهات الأربع، اعتلى شاب في مُقتبل العُمر، تمثال عين الفوارة الشهير في مدينة سطيف (ولاية جزائرية تقع شمال شرق البلاد) في جنح الظلام، وشوه وجه "المرأة العارية" الصامدة منذ قرن ورُبع القرن في المكان، ورغم أن دوافع الإقدام على هذا الفعل، لم تتضح بعد، لكن باطنه يخفي دلالات كثيرة تفسر خلفيات الأزمة العميقة تجاه التماثيل والمنحوتات.

وقضت محكمة سطيف في الجزائر، بسجن شاب لمدة عشر سنوات بتهمة محاولة تحطيم تمثال "المرأة العارية" أو "امرأة عين الفوارة"، وسط مدينة سطيف، بعدما تبين وجود محاولة سابقة للمتهم لتحطيمه في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حيث أدين حينها بالسجن لمدة خمس سنوات، ووجهت المحكمة إلى المتهم تهمة تخريب معلم ثقافي وملك عام، إضافة إلى تهمة الاعتداء على القوة العمومية.

وكانت السلطات الجزائرية قد انتهت في يونيو/حزيران 2023 من عملية ترميم التمثال في أعقاب تعرضه لعملية تخريب في نهاية عام 2018، وتعتبر هذه هي المرة الرابعة التي يتعرض فيها هذا المعلم، لمحاولة تخريب لأسباب متشددة ولمبررات تخص شكل "تمثال المرأة العارية".

قبل النبش في الخلفيات التي تغذي العداء تجاه التماثيل، والنصب التذكارية والمعالم الأثرية في البلاد، ينبغي التأكيد على أن حادثة التحطيم ليست الأولى من نوعها، فقد شهدت البلاد حوادث مماثلة في الماضي، بعضُها ما زالت حاضرة بقوة في ذاكرة الجزائريين، ومن الأمثلة على ذلك: أبو مطرقة الذي شوه التمثال ذاته عام 2018 بمبرر أنه "انتقم للمجتمع المحافظ دينيا" لأنه عبارة عن تمثال لامرأة عارية تمامًا، تستعرض جسمها لا سيما الجزء العلوي منه، وتطفو على صخرة عالية بيضاء يتدفق منها الماء من أربع جهات.

السيناريو ذاته تكرر مع تمثال الملكة "لويلا" المعروفة بـ"بنت السلطان" (ابنة السلطان) الذي تم وضعه حديثا في محافظة معسكر (أهم المدن في الغرب الجزائري ومن أقدمها في معرفة العمران البشري)، إذ أقدم شاب آخر على تحطيم التمثال المصنوع من البرونز البني المحمر اللامع المتلألئ لسبب واحد، وهو أن "لويلا" كانت ترتدي قميص نوم، وترضع طفلها وبالقرب من مسجد في الحي.

وقبل ثلاث سنوات انتشر خبر كالنار في الهشيم، مفاده الاعتداء على جدارية المرأة "النايلية" (نسبة إلى قبيلة كانت تستوطن جبال أولاد نايل، وتوجد بشكل رئيس في مدينة بوسعادة بالمسيلة والجلفة والأغواط ومسعد وبسكرة)، أنجزها فنان شاب موهوب وسط محافظة الجلفة (مدينة جزائرية تقع في وسط البلاد، تقع على بعد حوالي 300 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة) وقد شُوه وجهها الذي كانت تزينه وشوم تعبيرية وحُلي فضية، إذ لم يعد من الممكن إطلاقا التعرف على ملامحها.

حوادث الاعتداء على المعالم الأثرية، ليست مُجرد فعل مادي بل هُناك أسباب أعمق وأكثر أهمية من مُجرد الفعل الملموس، فقد يكون وسيلة جماعية للتعبير عن رفض المعالم التي ارتبطت بفترة الاستعمار الفرنسي

المُؤكد اليوم أن حوادث الاعتداء على المعالم الأثرية، ليست مجرد فعل مادي بل هناك أسباب أعمق وأكثر أهمية من مجرد الفعل الملموس، فقد يكون وسيلة جماعية للتعبير عن رفض المعالم التي ارتبطت بفترة الاستعمار الفرنسي، وهو الحال بالنسبة لتمثال "المرأة العارية" الذي ينطوي على رسائل مستفزة، وفق آثاريين وعلماء وباحثين جزائريين، فعندما قرر الحاكم العسكري الفرنسي الكولونيل باكوت (Pacot) نصب هذا التمثال تحديدا في هذا المكان، الذي يعتبر نبعا عذبا يرتوي منه أهل المدينة، والأهم من هذا كله كان المطهرة التي يتوضأ منها المصلون المتجهون إلى الجامع العتيق، والذي يعتبر من أهم العمائر الدينية النادرة في المدينة. ويقول في هذا المضمار حرز الله محمد لخضر أستاذ وباحث أكاديمي بـ"جامعة محمد خيضر" بالجزائر: "إن التمثال له رمزية ثقافية وحضارية، ويشكل أحد الموروثات الاستعمارية على غرار المنشآت والسكك الحديدية والجسور والكنائس، التي تركها المستعمر الفرنسي وحافظت عليها الجزائر"، والأمر الذي يجب إدراكه هو أن "هذه التماثيل هي عادة مستساغة لدى الحضارة الغربية، التي لا تجد غضاضة في وضع تماثيل عارية في الشوارع العامة، دون أن يحدث ذلك ضجيجا أو جدلا اجتماعيا".

ويكبيديا
تمثال الكاردينال لافيغري

ومن الصعب أيضا فصل هذا الفعل عن الأعراف الاجتماعية والدين حسب لخضر، وبشكل أكثر تفصيلا يقول: "إن ذلك يعكس تيارا يُنادي بإزالة هذا المعلم من وسط المدينة، لأنه يخدش الحياء العام، ويتعارض مع قيم وهوية الدين الإسلامي من جهة، ومع أصول العرف الاجتماعي من جهة ثانية".

هل نحن أمام ظاهرة يجب اجتثاثها؟

لا يعتبر تمثال "المرأة العارية" في سطيف الوحيد الذي يثير الجدل، فالجزائر تشتهر بانتشار تماثيل كثيرة نذكر على سبيل المثال: تمثال "مريم العذراء" أو "سيدة السلام" الموجود في أعلى هضبة حامة بوزيان، ويعد هذا الأخير رمزًا للتعايش السلمي بين الأديان في المدينة، وتمثال "لالة مريم" سيدة سانتا كروز، الملقبة أيضا بـ"حارسة المدينة"، قديسة المرحلين. وغيرها من التسميات أُطلقت على أجمل معلم أثري وديني في الجزائر، إذ تشتهر كاتدرائية "نوتردام دو سانتا كروز" بموقعها الاستراتيجي المطل على خليج مدينة وهران الساحر، و"السيدة الأفريقية" الكنيسة الشامخة المبنية على سفوح جبل صخري، يطل على البحر الأبيض المتوسط، وهي ترمز إلى التعايش الديني، وحرية ممارسة الشعائر الدينية في البلاد، وتمثال "الرجل الأخطبوط" الذي يصور رجلا عاريا يتصارع مع أفعى، ويمسك برأسها في مدينة سكِيكدة، المُسماة قديما "روسيكادا"، وتقع في شرق الشريط الساحلي الجزائري على امتداد 140 كلم تقريبا.

ولأن الكثير من التماثيل، لم تعد تعكس قيمها في نظر الكثيرين، فما الخيار الأنسب للتعامل معها؟ وهل نحن أمام ضرورة اجتثاثها؟ أو هل ثمة طريقة لمعالجة مُخلفات الماضي دون محوها؟

هناك شبه إجماع بين المثقفين على ضرورة الحفاظ على هذه التماثيل كقيمة رمزية وفنية

هناك شبه إجماع بين المثقفين على ضرورة الحفاظ على هذه التماثيل كقيمة رمزية وفنية، والتاريخ حسبما أوردته أليكس فون تانزيلمان (المؤلفة البريطانية) في كتابها "تماثيل متساقطة" لا يمحى حينما تتم إزالة النصب والتماثيل، كما أن الدعوة إلى نزعها بخلفية دينية، هي تغذية مباشرة لفكر متطرف، وهو الموقف الذي تبناه الدكتور علي عليوة أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في "جامعة سوق أهراس"، ففي رأيه لم تعد حوادث الاعتداء المتكررة حادثة معزولة، أو فعلًا فرديا شاذا يمكن اختزاله في "اختلال عقلي"، بل أضحت– في رمزيتها– تعبيرا عن أزمة ثقافية وأخلاقية بنيوية، تهدّد السلم الاجتماعي والذاكرة الجماعية لبلادنا، وهي تنزع الشرعية عن الفن والجمال والاختلاف، وتشرعن للعنف الرمزي والمادي ضد المرأة حتى في تمثيلها الفني.

غيتي
كنيسة سانتا كروز، وهران، الجزائر

وأمام وجود تيار واسع في المجتمع الجزائري، يرفض رفضا قاطعا تلك المعالم التراثية والفنية، طرحت النخب المثقفة حلولا وسطية كوضع تلك الموروثات الاستعمارية في المتاحف، لاسيما إذا ارتبطت بغطرسة المستعمر وكبريائه، وهناك تجارب مماثلة تمت في الماضي، يذكر من بينها الدكتور لخضر إقدام السلطات المحلية فيما مضى، على سحب تمثال ضخم للكاردينال شارل مارسيال ألمان لافيغري، كان يتوسط مدينة بسكرة (تقع في الجهة الشمالية الشرقية من الجزائر وتبعد عن عاصمة البلاد بـ400 كلم) والتي ارتكب فيها المستعمر الفرنسي أبشع المجازر على غرار "ملحمة الزعاطشة" ومجزرة الأحد الأسود في 29 يوليو/تموز 1956 وراح ضحيتها أكثر من 350 شخصا. فبعد الاستقلال مباشرة قامت السلطات المحلية بسحب تمثال لافيغري (أحد الوجوه التاريخية المسيحية التي قادت الحركة التبشيرية في الجزائر) ونقلته إلى وجهة أخرى. والجدير ذكره أنه في المتحف العمومي الجزائري للفنون الجميلة، الذي ينتصب على مرتفع غابي مطل على البحر بين حديقة التجارب "الحامة" و"رياض الفتح"، توجد عشرات التماثيل التي تجسد شخصيات ذكورية عارية.

font change