الروائي البرازيلي إنريكي شنايدر لـ "المجلة": الواقع يلهمني أكثر من الخيال

يعمل على استكمال ثلاثية الديكتاتورية

الروائي البرازيلي إنريكي شنايدر لـ "المجلة": الواقع يلهمني أكثر من الخيال

ولد الكاتب والمحامي إنريكي شنايدر في مدينة نوفو هامبورغو، بجنوب البرازيل، عام 1963. حاملا في شخصيته مزيجا فريدا من الحزم القانوني وحساسية المبدع. منذ أكثر من ثلاثة عقود، مارس المحاماة مدافعا عن قضايا العمال. هذه الخبرة الطويلة في مواجهة الظلم، نقلها إلى عالم الأدب، حيث تحولت قضايا الواقع إلى حكايات نابضة، وشخصياته إلى شهود على زمن القمع في البرازيل.

نشر قصصه القصيرة أثناء دراسته الجامعية، ليفتح بابا لمسيرة أدبية حافلة. في عام 1989 فاز بـجائزة موريسيو روزنبلات للرواية عن رواية "صرخة الصامتين"، ثم حصدت روايته "اتجاه معاكس" في 2008 لقب كتاب العام، بالإضافة إلى ترشحها لجائزة "جابوتي" المرموقة. وفي 2017 فاز بجائزة "بارانا" للأدب عن روايته " 1970 عام البطولة"، وهي الرواية الأولى ضمن ثلاثية الديكتاتورية البرازيلية. التي يصدر جزؤها الثالث العام المقبل، توثق الفترة بين عامي 1970 و1972، وهي أشد سنوات القمع في ظل الحكم العسكري بالبرازيل. ترجمت أعماله الى اللغتين العربية والإيطالية وغيرهما.

لا تقتصر مسيرة شنايدر على الأدب والسياسة، فهو أيضا صاحب مواقف إنسانية صريحة، أبرزها دعمه الثابت للقضية الفلسطينية، ورفضه الصمت أمام ما يراه ظلما أو انتهاكا للكرامة الإنسانية. بالنسبة اليه، الكلمة ليست ترفا، بل أداة مقاومة، والأدب مساحة لحفظ الذاكرة ومواجهة النسيان. هنا حوار "المجلة" معه.

تظهر أعمالك الأدبية اهتماما واضحا بالهوية والذاكرة وقيم العدالة. هل أثرت دراستك للقانون وخبرتك كمحام في إنتاجك الأدبي؟

أعمل محاميا لبعض نقابات العمال لأكثر من ثلاثة عقود. ولنقل إن هذا العمل ليس من النوع المألوف في مهنة المحاماة، بل هو عمل متخصص للغاية. وهذا يعني أنني، طوال مسيرتي المهنية، كنت دائما أدافع عن العمال ورؤيتهم للعالم. لذا، لم يكن الأمر مجرد مهنة أو وظيفة، بل وظيفة منحازة لقضية، ومرتبطة بالتزام أخلاقي. ونعم، في طبيعة الحال، فإن هذه النظرة الى العالم أثرت ولا تزال تؤثر في إنتاجي الأدبي. وهذا لا يعني بالضرورة أن التأثير مباشر أو مقصود، بل يأتي بشكل طبيعي، فحياتي كمحامٍ، بطريقة ما، تعيش أيضا داخل أدبي.

ثلاثية الديكتاتورية

روايتك "1970 عام البطولة"، التي ترجمت إلى اللغة العربية، هي الأولى في ثلاثية الديكتاتورية البرازيلية التي تعمل عليها. هل يمكنك أن تخبرنا أكثر عن هذا المشروع؟

يشير عنوان الرواية إلى عام 1970، وهو أحد أكثر الأعوام قسوة من حيث القمع، لكنه أيضا العام الذي فازت فيه البرازيل بكأس العالم لكرة القدم في المكسيك، وتربط الرواية بين هذين الحدثين. وتتناول موضوع التعذيب، وهي ممارسة كانت واسعة الانتشار خلال فترة القمع السياسي في ظل الديكتاتورية العسكرية- المدنية البرازيلية منذ عام 1964 حتى 1985.

يجب أن نتحدث عن حقبة الديكتاتورية في البرازيل أكثر، لا لطي صفحتها فحسب، بل لتجنب التكرار

أما الرواية الثانية في الثلاثية فتحمل عنوان "عزلة الغد" التي تحكي قصة شاب يبلغ من العمر 21 عاما يجبر على السفر الى خارج البرازيل بعد أن تلقى تهديدات بسبب مشاركته في حركة المقاومة الطالبية. في ذلك الوقت، كان معارضو الحكومة في البرازيل غالبا ما يتعرضون للمطاردة والاعتقال وحتى القتل، كما كانوا يجبرون على المنفى. أما الرواية الثالثة، التي تتناول موضوع الرقابة، فلا تزال قيد الكتابة. والروايات الثلاث مستقلة عن بعضها، يمكن قراءة أي منها دون الأخرى، لكنها تتشارك عناصر مشتركة. جميعها تدور بين عامي 1970 و1972 (أشد فترات القمع)، وجميع أبطالها من الناس العاديين، وجميع أحداثها مستندة إلى وقائع حقيقية. وقد قررت كتابة هذه الثلاثية لأننا نتحدث عن تلك الفترة أقل مما ينبغي. فالشباب، على سبيل المثل، لا يكادون يعرفون عنها شيئا. وأؤمن بأننا يجب أن نتحدث عن حقبة الديكتاتورية في البرازيل أكثر، لا لطي صفحتها فحسب، بل لتجنب التكرار.

GettyImages
كأس العالم لكرة القدم 1970 في المكسيك

تتمحور هذه الرواية حول شاب يعتقل ظلما بعد محاولة اغتيال السفير الأميركي في البرازيل، ورحلة أمه في البحث عنه. تضمنت الرواية مشاهد التعذيب وتصفها لاستخلاص اعتراف من شخص بريء. كيف تمكنت من كتابة هذه المشاهد المكثفة؟

اعتمدت في كتابة الثلاثية على وقائع حقيقية، كما ذكرت سابقا، ودوري ككاتب كان أن ألبسها شيئا من الخيال. فعلى سبيل المثل، في رواية 1970، كان هناك بالفعل تعذيب في تلك الفترة، بل كانت هناك "دروس تعذيب" في السجون، وسجون سرية، وخطة لاختطاف القنصل الأميركي في ولايتي فشلت، وكل هذا حدث بالفعل، وكل هذا موجود في الرواية. دوري كان فقط أن أجمعه وأكتبه. أما الأم في الرواية، فإلى جانب رمزيتها الأبدية، فإنها تظهر حقيقة أن آثار الديكتاتورية والقمع طالت الناس العاديين، غير المنخرطين في السياسة، وحتى أولئك الذين كانوا غافلين عما يحدث في البلاد.

تفتتح الرواية بعبارة لوزير العدل البرازيلي ألفريدو بوزيد "لا يوجد تعذيب في البرازيل". كأنك تصفعه بسردك.

نعم، أنا وناشري رأينا أنها أفضل جملة على الإطلاق لبدء الرواية. أولا، لأنها لم تكن صحيحة. ثانيا، لأن الوزير كان يعلم أنها كذبة. وثالثا، لأنها تعكس تماما النفاق الرسمي في تلك الحقبة.

1970 عام البطولة

الواقع والخيال

من المثير للاهتمام أن هناك رواية بعنوان 1970 للروائي المصري صنع الله إبراهيم، وهي أيضا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسة والتاريخ. كيف كان شعورك حين اكتشفت هذا الترابط؟

أعرف أنها رواية سياسية، رغم أنني لم أستطيع قراءتها لأنها باللغة العربية، فإنني أحتفظ بنسخة موقعة من صنع الله إبراهيم. ومع معرفتي القليلة بتاريخه ككاتب وناشط سياسي، فقد تشرفت بلقائه في مهرجان القاهرة الأدبي، وأخبرته كم كان ذلك شرفا وموقفا مؤثرا بالنسبة إلي.

لا يجوز للكاتب أن يهدر نظرته إلى الوقائع والأشياء. فالحياة هي المادة الخام اليومية للكتابة

أتذكر هنا مقولة للكاتبة الأميركية ويلا كاثر "لا يوجد سوى قصتين أو ثلاث قصص إنسانية، تظل تتكرر بقوة كأنها لم تحدث من قبل".

ما الذي يلهمك أكثر في الكتابة: الواقع أم الخيال؟

كوني محاميا في حياتي اليومية، لا أملك كل الوقت للكتابة. الكتابة عمل شاق يتطلب الكثير من الجهد والانضباط. وعندما أعود إلى المنزل، علي أن أنزع ملابس المحامي وأرتدي ملابس الكاتب. وحتى إن لم أكتب يوميا، أحاول دائما أن أكون في "مزاج الكاتب" أفكر في ما أكتب أو ما يجب أن أكتبه، أقرأ، وأبحث. لذا، فالواقع يلهمني أكثر من الخيال. وكما أقول دائما، لا يجوز للكاتب أن يهدر نظرته إلى الوقائع والأشياء. فالحياة هي المادة الخام اليومية للكتابة.

الأدب البرازيلي

من هم الكتاب البرازيليون أو العالميون الذين أثروا فيك؟

أقرأ كثيرا، ولكن بشكل غير منظم. لذا من الصعب تحديد كاتب أو اثنين أثرا فيّ تحديدا، بل ربما هناك تأثيرات لا أدركها. لكنني أستطيع القول إنني دائم القراءة لكتاب أميركا اللاتينية، مثل غابرييل غارسيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسا (خصوصا رواياته الأولى)، وماريو بينيديتي، وأليخو كاربنتيير. أما حاليا فأقرأ غالبا لكتاب من أفريقيا، خاصة منطقة المغرب العربي.

GettyImages
الطلاب ومتظاهرون آخرون يملأون أحد شوارع ريو دي جانيرو

هل تعتقد أن الأدب البرازيلي ممثل بشكل كافٍ في الساحة الأدبية العالمية؟

في رأيي، هو أقل تمثيلا مما يجب. الأدب البرازيلي غني ومختلف ومليء بالأسماء الكبيرة، ويستحق أن يكون أكثر حضورا في المشهد الأدبي العالمي.

غزة وفلسطين

منذ بداية الإبادة في غزة، عبرت مرارا عن دعمك الثابت للقضية الفلسطينية. ما الذي دفعك لاتخاذ هذا الموقف؟

أولا، يجب أن نقول: دعم غزة وفلسطين لا يعني دعم "حماس"، ولا يعني أي شكل من أشكال معاداة السامية. قرأت كتابا للصحافية البرتغالية ألكسندرا كويلو بونتيس بعنوان "غزة في كل مكان".

الشعب الفلسطيني يناضل من أجل تحرير أرضه منذ سنوات طويلة. والآن، عندما نرى الصور للوضع الحالي في غزة، يصبح الأمر بسيطا: لا خيار لنا سوى دعم فلسطين

الفلسطينيون موجودون في البرازيل، في البرتغال، في مصر، في الولايات المتحدة – في كل مكان. لكن لا توجد أمة بلا أرض. الأمر مسألة سيادة وكرامة. الشعب الفلسطيني يناضل من أجل تحرير أرضه منذ سنوات طويلة. والآن، عندما نرى الصور للوضع الحالي في غزة، الدمار والجوع والأطفال المعوقين، طفولتهم التي سرقت، التطهير العرقي، التهجير القسري، المعاناة، وانعدام الأمل. ومع تحولها إلى معسكر اعتقال، يصبح الأمر بسيطا: لا خيار لنا سوى دعم فلسطين، خاصة حين نرى من يدعم الطرف الآخر.

GettyImages
احتجاج ضد انتهاكات حقوق الإنسان في البرازيل

ما دور المثقف اليوم في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والتحرر؟

بصراحة، سأجيبك من منظور غير أكاديمي، لأنني ككاتب أرى نفسي راويا للقصص قبل أي شيء. المثقف هو صوت، وغالبا أكثر من مجرد صوت. فصوت المثقف يمكن أن يساهم في إنتاج معرفة وأفكار تعزز التغيير الاجتماعي، من خلال فضح الظلم ونقد السرديات المهيمنة. لذلك، يمكن المثقفين أن يلعبوا دورا مهما في الدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا التحرر. وهذا الدور ليس ثقافيا فقط، بل هو أيضا – وربما أكثر – دور مواطنة.

روايتك الأخيرة ستصدر الشهر المقبل. هل هي الجزء الثالث من الثلاثية؟

لا. الجزء الثالث سيصدر العام المقبل، وما زلت أعمل عليه وأعيد صياغته. وهي رواية عن الرقابة. أما كتابي الأحدث، فسيصدر في سبتمبر/ أيلول، بعنوان "ذاكرة الورو"، وهي  قصة حب رقيقة.

font change