جايمس كوري يستشرف المستقبل بخياله العلمي

"رحمة الآلهة" سيناريو لقاء كابوسي بكائنات فضائية رهيبة

GettyImages
GettyImages
تاي فرانك (يسار) ودانيال أبراهام (يمين)، المعروفان معا بالاسم الأدبي المشترك جيمس إس. إيه. كوري

جايمس كوري يستشرف المستقبل بخياله العلمي

الخيال العلمي ليس جنسا أدبيا ثانويا أو قاصرا، كما يعتقد بعضنا، ففي أرجائه الخصبة لمع كتّاب عمالقة مثل جول فيرن وهربرت ويلز وألدوس هكسلي وإسحق عظيموف وج. ج. بالارد وهوارد لافكرافت وآرثر كلارك... والقائمة طويلة جدا. كتّاب ذوو مخيلة جامحة، ندين لهم باستشراف مستقبل البشرية القريب والبعيد، في مختلف سيناريوهاته، ببصيرة نادرا ما نجد معادلا لها لدى كتّاب الأجناس الأدبية الأخرى.

إلى هذه القائمة المذكورة، لا نبالغ إن أضفنا جايمس س. أ. كوري، وهو الاسم الذي يوقع به الأميركيان دانييل أبراهام وتاي فرانك أعمالهما المشتركة التي يعرف بعضنا منها روايتهما الشهيرة، "المدى" (The Expanse)، من خلال المسلسل التلفزيوني الذي اقتُبس منها وأسر ملايين المشاهدين. لكن هذا العمل الرائع ليس الوحيد لهذين الكاتبين الذي تحول إلى مسلسل أو فيلم، ولا هو الأفضل في إنتاجهما الأدبي الذي يتضمن عددا كبيرا من القصص القصيرة وعشر روايات ضخمة، آخرها ثلاثية "رحمة الآلهة" التي صدر جزؤها الأول في نيويورك مطلع هذا العام، وصدرت أخيرا ترجمتها الفرنسية عن دار "أكت سود".

بشرية تجهل أصولها

عند مطالعة أي من روايات هذا الثنائي، لا يفتن القارئ بخيالهما الواسع فحسب، بل أيضا بموهبتهما المدهشة في تجسيد شخصيات واقعية آسرة، وفي نسج قصص ساحرة، وفي مزج العلم والخرافة العلمية بألمعية داخل هذه القصص. موهبة تتجلى بكل أبعادها في "رحمة الآلهة" التي تثير، بسردها لقاء أول بين البشر وكائنات فضائية مرعبة، انفعالات جمة في نفس قارئها، قبل أن تتركه في حالة دهشة في نهايتها.

أحداث الرواية تدور في مستقبل بعيد غير محدد، على كوكب أنجين الذي تسكنه منذ 3500 عام بشرية تجهل كليا أصولها. في هذا المكان، نتعرّف إلى فريق من الباحثين الشبان يسعى، بعد إنجازه للتو دراسة بيوكيميائية لامعة، إلى معرفة الجهة التي تنشط في السر لقطع التمويل عنه. فريق يستهلك عمله معظم وقته، لكونه الشيء الوحيد الذي يثير اهتمام أفراده، إلى أن يكتشف أحد العلماء بالمصادفة سفنا فضائية خفية في محيط كوكب أنجين، فيصبح فجأة تحديد هوية تلك الجهة مسألة تافهة بالنسبة إلى هذا الفريق في مرآة التهديد الذي سيواجهه على يد كائنات فضائية تدعى "كاريكس"، هي، مقارنة به وبالبشرية جمعاء، أقرب إلى آلهة.

موهبة تتجلى بكل أبعادها في "رحمة الآلهة" التي تثير، بسردها لقاء أول بين البشر وكائنات فضائية مرعبة، انفعالات جمة في نفس قارئها، قبل أن تتركه في حالة دهشة في نهايتها

فور دخول سفنها الفضائية الغلاف الجوي للكوكب، تقتل هذه الكائنات 12,5 في المئة من سكانه. وبعد انتصارها كليا على البشر في غضون خمسة أيام، تستولي على عالمهم بوحشية وتأسر ألمع علمائهم. أما قصة هذا اللقاء الفظيع، فنتلقاها من وجهات نظر بشرية وغير بشرية، نتعرف خلالها جيدا إلى شخصيات الرواية الرئيسة: تونر فريس الذي يقود فريق الباحثين ويسعى جاهدا للحفاظ على تماسك أعضائه، إيلسا، يده اليمنى وعشيقته، دافيد الخجول الذي سيجد في الوضع الجديد فرصة للخروج من الظل واستمالة إيلسا التي تفتنه، جيسين التي تعاني من اكتئاب مزمن وتعتمد على الأدوية للحفاظ على توازنها، كامبار الخدوم على الرغم من طبيعته الساخرة، سينيا التي تفقد شريك حياتها في الضربة الأولى للـ"كاريكس، فتنعزل وتصبح عبئا على زملائها، وريكار الذي يستفيد من مقتل أحد أعضاء هذا الفريق كي يستعيد موقعه داخله، بعدما أبعده تونر عنه بسبب خيانة مفترضة. شبان سيقعون جميعا في الأسر ويجبرون على إثبات جدارتهم، فقط لتجنب إبادة جنسهم على يد عدو قوي للغاية، تحركه أيديولوجيا غامضة يتحكم بها منطق القوة والمصلحة فحسب.

"رحمة الآلهة"

رحلة طويلة

رحلة هؤلاء الأسرى وغيرهم من البشر المختارين إلى وجهتهم الجديدة، ستكون طويلة. ومع أنهم سيحصلون على الحد الأدنى من الطعام والماء، إلا أنهم سيختبرون ظروف أسر قاسية، سواء أثناء هذه الرحلة أو لدى وصولهم إلى المكان المرصود لهم. وقد يرى قارئ هذه السطور أن لا جديد في هذا السيناريو المطروق في روايات وأفلام ومسلسلات عدة، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضا هو أن القصة المروية في "رحمة الآلهة" ليست قصة بطولات ومواقف جريئة في مواجهة عدو كاسر، بل قصة بقاء على قيد الحياة تعرّي أسوأ جوانب الطبيعة البشرية في مرآة واقع الهزيمة والأسر الرهيب.

لفهم طبيعة هذا الواقع، علينا أن نعرف أن الـ"كاريكس"، الذين يهيمنون على مجرّات عدة، يرون في جميع الكائنات الحية الأخرى مجرد أدوات يجب شحذها لتصبح مفيدة. رؤية يفسرها أمين مكتبة الـ"كاريكس"، الموكل بتوجيه العلماء البشر الأسرى، لدافيد على النحو الآتي: "حين يقطع كائن بدائي من جنسكم غصن شجرة وينحته لتحويله إلى أداة، لا تصدرون أي حكم أخلاقي على فعله، وهو أمر طبيعي، كما أن الشجرة لا تملك أي قوة لإيقاف هذا الكائن، ولذلك تتحول إلى أداة في يده. ما تفعلونه بغصن شجرة، نفعله نحن بكم وبكثيرين غيركم".

من مداخلات هذا الكائن العديدة، نشكل أيضا فكرة دقيقة عن إمبراطورية الـ"الكاريكس" الشاسعة، وعن حربهم ضد عدو تتوافر عنه معلومات ضئيلة، ولا نتعرف في هذا الجزء من الرواية إلا إلى كائن واحد منه: "السرب" الذي يعيش خفية بين البشر، فينزلق تحت جلدهم ويتحكم بأجسادهم وعقولهم، ويسجل كل ما يفعله الـ"كاريكس، منتظرا الفرصة لنقل كل ما اكتشفه عن ألد أعداء جنسه إلى عقل خليته، آملا أن يساهم ذلك في كسب الحرب عليهم.

تلمع هذه الرواية في تفحص موضوعي الأخلاق والصحة النفسية في ظروف لا تطاق، مسلطة ضوءا كاشفا ومثيرا على مدى قدرة الإنسان على الصمود في مثل هذه الظروف

حين يصل تونر فريس وأعضاء فريقه إلى بيئتهم الجديدة، يكتشفون أنهم مجرد جنس من بين أجناس حية عديدة تنشط في خدمة الـ"كاريكس". وفور وصولهم، يكلفهم هؤلاء مهمة تبدو غايتها غامضة في البداية، قبل أن يدركوا أن المطلوب منهم هو استخدام كفاءاتهم العلمية لتحويل جنس من الكائنات إلى طعام لجنس آخر. وبعد فترة اشمئزاز قصيرة، ينخرطون في هذه المهمة ويجدونها مشوقة ومليئة بالتحديات، قبل أن تكشف أحداث عنيفة لهم أن مجموعات أخرى، غير بشرية، تعمل على المهمة نفسها، وعليهم بالتالي إنجازها قبلها لضمان بقائهم على قيد الحياة.

GettyImages
المقدم دالتون روس، المنتج التنفيذي مارك فيرغوس، المؤلف تاي فرانك، المؤلف دانيال أبراهام، ستيفن سترايت، دومينيك تيبر، ويس تشاثام، كاس أنفار

سيناريو كابوسي

قيمة "رحمة الآلهة" لا تكمن إذن في السيناريو الكابوسي الذي تقترحه، كما سبق وأشرنا، بل في العمل الماهر على رسم شخصياتها الكثيرة وتحليل سلوكها. فالعلماء الشبان الذين نتابع محنتهم من خلال هذا السيناريو، متنوعون ومجسدون في تنوعهم إلى حد أنهم يبدون رهيبين في واقعيتهم وحساسياتهم المختلفة ومكامن ضعفهم البشري. وفي هذا السياق، يلمع الثنائي أبراهام وفرانك في تحسيسنا رهانات حياة كل واحد منهم، منذ الصفحات الأولى للرواية، حيث يأخذون شكلهم ومميزاتهم، الواحد تلو الآخر، بينما تتضح السمات الأساسية لعالمهم المزدهر قبل وصول تلك القوة العاتية من خلف النجوم لفرض إرادتها عليه.

وحين يحصل ذلك، نشهد استكشافا عميقا لكيفية تأثير صدمة هذا اللقاء وتداعياته على كل واحد منهم، ونتذوق بمتعة مذنبة كل الصراعات التي سيختبرونها مع أنفسهم وفي ما بينهم. بالتالي، تلمع هذه الرواية في تفحص موضوعي الأخلاق والصحة النفسية في ظروف لا تطاق، مسلطة ضوءا كاشفا ومثيرا على مدى قدرة الإنسان على الصمود في مثل هذه الظروف، قبل أن ينهار، وعلى الذرائع التي يلجأ إليها لتبرير أفعاله المروعة بحجة البقاء.

أكثر من مجرد خرافة علمية، "رحمة الآلهة" هي إذن رواية سيكولوجية معتمة تستقرئ ردود فعل شخصياتها على صعاب لا تُقهر، معرية من خلال ذلك كل ما يمكن أن يفعله إنسان حين يسحقه الكون تحت جزمته. رواية تعج طبعا بالمعطيات والإسقاطات العلمية المدهشة في ميادين شتى، وبتخيلات مستقبلية تخطف الأنفاس، وأخرى لكائنات كونية مختلفة لا تقل عجبا وواقعية. وفي الوقت نفسه، رواية مخيفة عما يمكن أن نشعر به حين لا تعود قيمة حياتنا تساوي سوى ما نستطيع أن نقدمه الى كائن أقوى منا.

"رحمة الآلهة"

وهذا ما يعيدنا إلى كائنات الـ"كاريكس" التي لا يبدو سلوكها غريبا إلا لأنه ناتج من حالة ذهنية ترفض للآخر حق الاختيار أو الفردية، علما أن هذه الحالة ليست غريبة في عالمنا. حالة تبرر لصاحبها استعباد ضحيته بمجرد قدرته على ذلك، كما تبرر عنفه القاتل إن تطلّعت هذه الضحية إلى شيء آخر، إلى شيء أفضل، غير ما ينتظره منها. إنه عنف الطاغية، عنف النظام الطبقي، عنف فرض القيم بالقوة، البشري بامتياز.

تسحرنا الرواية أيضا بالدسائس والمفاجآت التي تفيض بها، وبتضمينها أحيانا وجهات نظر غير بشرية، مما يفضي إلى تقلب دائم في المنظور يخلق مستوى غرابة وقلق يمسك بنا ويبقينا في حالة ترقب

في اختصار، بمقدار ما يفتننا خيال أبراهام وفرانك اللامحدود في هذه الرواية، تفتننا معارفهما العلمية وطريقة استثمارها الحاذقة. ومع أننا نشعر أحيانا ببعض الاغتراب في أرجائها، لأن بعض المعطيات العلمية المتوافرة فيها تتجاوزنا، لكننا نظل منجذبين إلى قصتها، لا سيما بجانبها الغرائبي والاستحواذي، وبكل تلك الصراعات المصورة بين الأجناس والثقافات داخلها. تسحرنا الرواية أيضا بالدسائس والمفاجآت التي تفيض بها، وبتضمينها أحيانا وجهات نظر غير بشرية، مما يفضي إلى تقلب دائم في المنظور يخلق مستوى غرابة وقلق يمسك بنا ويبقينا في حالة ترقب على طول النص.

من جزئها الأول، يمكننا إذن أن نقول إن ثلاثية "رحمة الآلهة" تعد بالكثير. فإضافة إلى مكامن ثراء هذا الجزء الكثيرة، والانفعالات القوية التي نختبرها داخله، يقدم لنا الكثير من التأملات العميقة في أسئلة ستواجه البشرية عاجلا أم آجلا، إن لم تدمر نفسها بنفسها قبل ذلك. فمع وجود نحو ألفي مليار مجرة، وبالتالي عدد لا يحصى من الكواكب التي تتوافر حتما فيها الشروط اللازمة لانبثاق الحياة، لم يعد السؤال، بحسب ألمع علماء الفلك: هل توجد كائنات حية أخرى غيرنا في الكون؟ بل متى سيحدث اللقاء الأول بها؟

font change

مقالات ذات صلة