الخيال العلمي ليس جنسا أدبيا ثانويا أو قاصرا، كما يعتقد بعضنا، ففي أرجائه الخصبة لمع كتّاب عمالقة مثل جول فيرن وهربرت ويلز وألدوس هكسلي وإسحق عظيموف وج. ج. بالارد وهوارد لافكرافت وآرثر كلارك... والقائمة طويلة جدا. كتّاب ذوو مخيلة جامحة، ندين لهم باستشراف مستقبل البشرية القريب والبعيد، في مختلف سيناريوهاته، ببصيرة نادرا ما نجد معادلا لها لدى كتّاب الأجناس الأدبية الأخرى.
إلى هذه القائمة المذكورة، لا نبالغ إن أضفنا جايمس س. أ. كوري، وهو الاسم الذي يوقع به الأميركيان دانييل أبراهام وتاي فرانك أعمالهما المشتركة التي يعرف بعضنا منها روايتهما الشهيرة، "المدى" (The Expanse)، من خلال المسلسل التلفزيوني الذي اقتُبس منها وأسر ملايين المشاهدين. لكن هذا العمل الرائع ليس الوحيد لهذين الكاتبين الذي تحول إلى مسلسل أو فيلم، ولا هو الأفضل في إنتاجهما الأدبي الذي يتضمن عددا كبيرا من القصص القصيرة وعشر روايات ضخمة، آخرها ثلاثية "رحمة الآلهة" التي صدر جزؤها الأول في نيويورك مطلع هذا العام، وصدرت أخيرا ترجمتها الفرنسية عن دار "أكت سود".
بشرية تجهل أصولها
عند مطالعة أي من روايات هذا الثنائي، لا يفتن القارئ بخيالهما الواسع فحسب، بل أيضا بموهبتهما المدهشة في تجسيد شخصيات واقعية آسرة، وفي نسج قصص ساحرة، وفي مزج العلم والخرافة العلمية بألمعية داخل هذه القصص. موهبة تتجلى بكل أبعادها في "رحمة الآلهة" التي تثير، بسردها لقاء أول بين البشر وكائنات فضائية مرعبة، انفعالات جمة في نفس قارئها، قبل أن تتركه في حالة دهشة في نهايتها.
أحداث الرواية تدور في مستقبل بعيد غير محدد، على كوكب أنجين الذي تسكنه منذ 3500 عام بشرية تجهل كليا أصولها. في هذا المكان، نتعرّف إلى فريق من الباحثين الشبان يسعى، بعد إنجازه للتو دراسة بيوكيميائية لامعة، إلى معرفة الجهة التي تنشط في السر لقطع التمويل عنه. فريق يستهلك عمله معظم وقته، لكونه الشيء الوحيد الذي يثير اهتمام أفراده، إلى أن يكتشف أحد العلماء بالمصادفة سفنا فضائية خفية في محيط كوكب أنجين، فيصبح فجأة تحديد هوية تلك الجهة مسألة تافهة بالنسبة إلى هذا الفريق في مرآة التهديد الذي سيواجهه على يد كائنات فضائية تدعى "كاريكس"، هي، مقارنة به وبالبشرية جمعاء، أقرب إلى آلهة.