لبنان والمواجهة الأخيرة بين أميركا وإيران

توم باراك كأنه وسيط بين لبنان وسوريا أكثر منه بين لبنان وإسرائيل

رويترز
رويترز
المبعوث الأميركي توماس باراك بعد اجتماعه مع الرئيس اللبناني جوزيف عون في القصر الرئاسي في بعبدا، لبنان، 26 أغسطس 2025.

لبنان والمواجهة الأخيرة بين أميركا وإيران

البناء على نتائج الحرب الأخيرة بين "حزب الله" وإسرائيل للقول إن لبنان لم يعد إحدى ساحات المواجهة بين إيران من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى لا يعكس الواقع بدقة. هذا لا يعني أن نتائج تلك الحرب إضافة إلى حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران، لم تضعفا "حزب الله" وإيران وتجعلهما أقل قدرة على المواجهة والمناورة، ولكن في الوقت نفسه فإن اعتبار أنهما استسلما كليا ولم يعد في مقدورهما مقاومة الضغوط هو اعتبار مغلوط، وإن كان ذلك ينطبق على إيران أكثر منه على "حزب الله"، إلا أن كليهما مستمران في المناورة من الموقع الحرج.

الواقع أن النزاع بشأن سلاح "حزب الله" في لبنان والذي يزداد الضغط الأميركي من حوله مع توالي زيارات المبعوثين والوفود الأميركية إلى بيروت وبوتيرة شبه أسبوعية، لا ينفصل عن التصادم الأميركي-الإيراني حول البرنامج النووي الإيراني، وإن تراجع الاهتمام الأميركي بهذا الملف لحساب ملفات أخرى في مقدمتها الحرب الروسية-الأوكرانية وحتى الحرب في غزة الذي عاد دونالد ترمب للقول إنها يجب أن تنتهي في غضون أسبوعين أو ثلاثة في وقت يمضي بنيامين نتنياهو في خطته لاحتلال غزة على وقع حرب التجويع والإبادة ضد الفلسطينيين.

وما لم يقله الأميركيون بشأن المفاوضات مع إيران قاله المرشد الإيراني علي خامنئي لناحية أن "لا حل مع واشنطن"، وهو بذلك يعلن أن باب المفاوضات مغلق أو أن استئنافها لن يكون في موعد قريب، وذلك في وقت يزداد فيه التلويح الأوروبي بإعادة تفعيل آلية "سناب باك"، أي إعادة فرض العقوبات وفق الاتفاق النووي الموقع عام 2015، في حين تلوّح طهران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي الذي بات "واردا الآن". وسواء انتهت جولة المفاوضات الثانية بين الترويكا الأوروبية (ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا) وإيران في جنيف الثلاثاء إلى نتائج إيجابية أو لا، فإن نجاح هذه الجولة التي تكاد تكون "النافذة الأخيرة" أمام طهران، لا يضمن عودة المفاوضات الإيرانية-الأميركية في وقت قريب، في حين أن كلا من إسرائيل وإيران لا تستبعدان جولة قتال جديدة، إيران لأنه سيكون من الصعب عليها التعايش مع نتائج الحرب الأخيرة وإن كانت حساباتها محفوفة بالمخاطر، وإسرائيل التي ترى أن إيران تحاول إعادة بناء قدراتها سواء داخل أراضيها أو في الإقليم.

لا يمكن فهم تشدد "الحزب" في التعامل مع خطة الحكومة لحصر السلاح بيد الدولة، من دون ربطه بالموقف الإيراني الذي لا يزال يرفض التفاوض وفق الشروط الأميركية، أي وقف تخصيب اليورانيوم

في هذا السياق تحديدا يندرج إطلاق الحوثيين صاروخا نوعيا برأس انشطاري على إسرائيل الجمعة الماضي، وهو ما استدعى ردا إسرائيليا استهدف العمق اليمني للمرة الأولى. ومن المؤكد أن الرد الإسرائيلي القوي في صنعاء حظي بضوء أخضر أميركي، وهو ما يؤشر إلى أن إسرائيل ستحظى بمثل هذا الضوء الأميركي في أي حرب مستقبلية مع إيران، حتى لو كانت تل أبيب هي من سيبادر إليها، ومن المهم في هذا السياق التنبه إلى أنه ومنذ حرب الأيام الـ12 في يونيو/حزيران الماضي لم يصدر أي موقف أميركي يحذر من حرب إقليمية جديدة، أو يحذر إسرائيل من مغبة الذهاب إلى حرب جديدة مع إيران، على غرار التحذيرات الأميركية في عهد جو بايدن من نشوب حرب إقليمية. وهنا لا يمكن الركون إلى تباهي دونالد ترمب بإنهائه سبع حروب واستعداده لإنهاء ثلاث أخرى للقول إنه لن يسمح بجولة قتال جديدة بين إيران وإسرائيل ما دام يسعى لوقف حروب أخرى في إطار سعيه للحصول على "نوبل للسلام"!

ومن اللافت أيضا هنا أنّ الإيرانيين تخلوا، أقله في العلن، عن المطالبة بضمانة أميركية لعدم قصف الأراضي الإيرانية مجددا كشرط مسبق للشروع في أي مفاوضات جديدة، وكأنهم أدركوا أن لا جدوى من طلبهم ذاك في وقت تراجع فيه اهتمام الأميركيين في المفاوضات، وهو ما يزيد من خشية الإيرانيين من جولة قتال جديدة مع إسرائيل، أو يجعلهم يتحسبون لها، وربما يحفزهم إلى استباقها على ضعف هذا الاحتمال بالنظر إلى موازين القوى الراهنة. علما أن التحديات الداخلية الإيرانية ليست دون تأثير في مجمل المشهد المحيط بإيران، مع تزايد حدة الانقسام السياسي حول الخيارات المستقبلية لطهران، حربا أو تفاوضا.

AFP
لوحة إعلانية تصور صواريخ باليستية إيرانية قيد الخدمة، مع نص باللغة الفارسية يقول "إسرائيل أضعف من شبكة العنكبوت" في وسط طهران في 15 أبريل 2024

وبالعودة إلى "حزب الله" فإنه لا يمكن فهم تشدد "الحزب" في التعامل مع خطة الحكومة لحصر السلاح بيد الدولة، من دون ربطه بالموقف الإيراني الذي لا يزال يرفض التفاوض وفق الشروط الأميركية، أي وقف تخصيب اليورانيوم. والأهم أنه لا يمكن فهم المآل النهائي لتشدد "حزب الله" من دون فهم المآل النهائي لوقوف إيران بين الحرب والتفاوض، وهذه المرة وفق قواعد اشتباك جديدة أملتها حرب الأيام الـ12 الأخيرة مع إسرائيل.

والواقع أن عدم قدرة إيران على البقاء طويلا في هذا الموقف، في ظل انسداد أفق المفاوضات ما يزيد من احتمالات وقوع حرب جديدة ضدها، تنسحب أيضا على عدم قدرة "حزب الله" على البقاء طويلا في موقفه الحالي، في ظل عدم قبوله خطة الحكومة لحصر السلاح بيد الدولة في وقت تواصل فيه إسرائيل هجماتها ضده على وقع ازدياد أرجحية توسيع هذه الهجمات على شكل حرب جديدة.

لا حلول مرئية للخروج من هذا المأزق اللبناني المتمادي، خصوصا أن لا شيء يضمن عدم تسلل الانقسام السياسي حول خطة الحكومة إلى الشارع

والحال، فإن جزءا رئيسا من تطورات الأحداث يقوم على كيفية تعامل إيران و"حزب الله" مع مأزقهما الراهن في ظل التماهي الأميركي-الإسرائيلي في الموقف منهما، وهو ما عكسه كلام المبعوث الأميركي توم باراك من بيروت الثلاثاء وفيه تراجع عن مبدأ "الخطوة مقابل خطوة" الذي كان قد أعلنه الأسبوع الماضي قبل زيارته تل أبيب. إذ قال باراك إن إسرائيل لا تريد احتلال لبنان وهي مستعدة للانسحاب منه لكن تريد رؤية خطوات. وهو ما يعني أن تل أبيب تريد أن تحكم بنفسها على خطة الجيش اللبناني لحصر السلاح بيده، والتي كلفته الحكومة بوضعها بحلول نهاية الشهر الجاري على أن تجتمع لدراستها في الثاني من سبتمبر/أيلول المقبل. وهذا في وقت يدعو "حزب الله" الحكومة إلى التراجع عن خطتها تلك، ويلوح بخطوات في الشارع ضدها، ولكنه لا يقدم عليها حتى الآن كما حصل أمس الاثنين لناحية تأجيله تحركا "عماليا" في وسط بيروت بعد ساعات قليلة من دعوته إليه مع "حركة أمل".

رويترز
المبعوث الأميركي توماس باراك ونائبة المبعوث الرئاسي الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، بعد اجتماعهما مع الرئيس اللبناني جوزيف عون في القصر الرئاسي في بعبدا، لبنان، 26 أغسطس 2025

وبذلك فإن كلا من إيران و"حزب الله" يواجهان وضعا داخليا ملتهبا، مع الأخذ بالفوارق الموضوعية بين الوضعين. ففي إيران تتزايد الأصوات التي تدعو إلى سلوك طريق المفاوضات حتى لو كان الثمن الوقف الطوعي لتخصيب اليورانيوم، وفي لبنان فإن الغالبية العظمى من اللبنانيين من ضمن التركيبة السياسية–الطائفية تلتف حول قرار الحكومة بما في ذلك حلفاء قدامى لـ"الحزب"، ولكن المأزق الحقيقي الذي يواجهه "الحزب" يظل في استمرار الهجمات الإسرائيلية ضده والتي اغتالت بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ما يزيد على 250 من عناصره وكوادره. هذا في وقت يمتنع "الحزب" عن الرد على إسرائيل حتى الآن، ولكنه في الوقت عينه يتمسك بسلاحه بحجة مواجهة العدوان...

وفي الواقع لا حلول مرئية للخروج من هذا المأزق اللبناني المتمادي، خصوصا أن لا شيء يضمن عدم تسلل الانقسام السياسي حول خطة الحكومة إلى الشارع مع ما يمكن أن يرتبه ذلك من مخاطر أمنية في بلد يتصلب فيه الانقسام العمودي حول سلاح "حزب الله". لكن الخطر الموازي أو الأكبر يتمثل في شن إسرائيل حربا جديدة ضد "الحزب" لتدمير المزيد من قدراته النوعية التي يرفض تسليمها للدولة اللبنانية، وذلك في إطار المواجهة المفتوحة مع إيران، والتي قد تصل إلى تجدد الحرب ضد إيران نفسها، إلا إذا فتحت نوافذ جديدة للتفاوض، حول البرنامج النووي الإيراني، وحول النفوذ الإقليمي لإيران، وهو ما أوحى به باراك من بيروت الثلاثاء ولكن من دون توفر دلائل قوية عليه حتى الآن.

لا أميركا ولا إسرائيل مستعدتان للتعايش مع الوضع الذي كان سائدا قبل السابع من أكتوبر 2023

وفي المحصلة، فإن الأرضية التحليلية التي يجب الوقوف عليها لقراءة المشهد الراهن، هي أنه لا أميركا ولا إسرائيل مستعدتان للتعايش مع الوضع الذي كان سائدا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهذا لا يعني أنهما سينجحان حكما في تنفيذ خططهما للوضع الجديد، ولكن هذا لا يعني أيضا أن إيران ووكلاءها يمكنهم أن يعيدوا الكرة مرة أخرى. وبين هذا وذاك تدور اللعبة في الشرق الأوسط حاليا، وهي لعبة تحتمل كل أنواع التصريحات والمبادرات والمواقف والأقوال خصوصا مع رئيس مثل دونالد ترمب الذي كان قد طرح خطته لـ"ريفييرا الشرق الأوسط" في غزة، وما يحصل كل يوم في القطاع الفلسطيني يجعل من المستحيل التعامل مع هذه الخطة كما لو أنها عابرة وسقطت سهوا. كذلك أُعلن الأسبوع الماضي عن "خطة ترمب الاقتصادية" في جنوب لبنان، من دون أن تلقى تفاعلا وردودا واسعة في لبنان، إلا أنها في النهاية مؤشرا لتصميم الإدارة الأميركية على هندسة سياسية واقتصادية جديدة للمنطقة، تحت عنوان عريض هو "الاتفاقات الإبراهيمية"، والتي يدعى إليها لبنان وسوريا بإلحاح الآن، وهما البلدان اللذان يكادان أن يكونا واحدا في الاستراتيجية الأميركية، حتى إن تصريحات باراك من بيروت توحي وكأنه وسيط بين لبنان وسوريا أكثر منه بين لبنان وإسرائيل!

لكن، أيا يكن من أمر، فإن النقطة الأساسية هي أن لبنان يعيش راهنا تداعيات المواجهة الأخيرة بين أميركا وإيران، إذ يصعب التصور أن تكون إيران قادرة على ترميم قدرتها على المناورة واستخدام أوراقها كما كانت عليه قبل الحروب الأخيرة، أو أن استخدامها لهذه الأوراق قد يكون ذا كلفة عالية عليها وعلى وكلائها في آن معا، وفي مقدمتهم "حزب الله" في لبنان، ولذلك فإن القول إننا نعيش مرحلة انتقالية بين حربين ليس قولا مبالغا فيه أبدا وفقا للمعطيات الحالية...

font change