إعادة صوغ الاغتراب في "البحث عن مصطفى سعيد"

عن مواسم الهجرة المتعاقبة في السودان

إعادة صوغ الاغتراب في "البحث عن مصطفى سعيد"

يمضي القارئ بعيدا، في رواية "البحث عن مصطفى سعيد"، الصادرة عن "دار أبيدي"، للكاتب عماد البليك، في عالم سردي يحمل ضمن طياته تساؤلات عميقة حول الهوية والذاكرة والحرب والصراع بين الفرد والمجتمع. من خلال عنوان الرواية، يمكن استشراف إشارة واضحة إلى مصطفى سعيد، الشخصية الأيقونية في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. وإن كان بطل رواية الطيب صالح، يمثل رمزا للصراع بين الشرق والغرب، الهوية الأفريقية-العربية والاستعمار، فإن عماد البليك يستلهم هذه الشخصية، ربما من أجل إعادة صوغ صراع آخر في سياق زمني واجتماعي معاصر، يرتبط بشكل ما بالتحولات السياسية والديموغرافية في السودان، التي أدت إلى الحروب والهجرات والأزمات الاجتماعية، من فقر وبطالة وجريمة، معتمدا في روايته على لغة سردية كثيفة، وعلى الانشطار والتداعي الحر الكاشف للفوضى الاجتماعية والنفسية.

لذا فإن الرواية، ومن خلال العنوان، تطرح سؤالا جوهريا ومباشرا، ضمن هذا السياق: من يكون مصطفى سعيد؟ هل هو شخصية حقيقية يواجهها الراوي، أم رمز للذات المفقودة، أم استعارة للبحث عن معنى في عالم أهوج؟

الحقيقة العارية

يعود بطل الرواية محمود سيد أحمد إلى الخرطوم بعد قيام الثورة، التي أنهت ثلاثة عقود من حكم الإسلاميين، كان يظن أن الأمور ستكون أفضل، إثر نصيحة صديقه الطبيب محجوب السر، لكن الحقائق تتكشف له، فيقرر العودة من حيث أتى، لكن في المطار لحظة يمسك الضابط جواز سفره، ويقلبه بريبة، يدرك محمود أنه أصبح ضمن قائمة الممنوعين من السفر. لنقرأ: "كيف يمكن ألا يعرفوا من هو؟ كيف يجهل أحد محمود سيد أحمد، الذي يطل على شاشات التلفاز كل يوم خميس، متحدثا باسم الحكومة عن محاسبة النظام السابق ومصادرة أمواله وممتلكاته؟ لكن سرعان ما أدرك أن القصة ليست إلا وهما. لقد تبين أن الوعود كانت زائفة، وأن النظام القديم لا يزال متجذرا في كل التفاصيل، دون أي فارق جوهري بين القديم والجديد".

تبين أن الوعود كانت زائفة، وأن النظام القديم لا يزال متجذرا في كل التفاصيل، دون أي فارق جوهري بين القديم والجديد

هكذا يواجه البطل محنة وجودية، تتمثل في الحصار بشقيه الواقعي والرمزي، المنع من السفر، والإجبار على البقاء في وطن ممزق، ثم الحبس النفسي في مواجهة مفهوم الهوية والانتماء: كيف يمكن أن يتحقق الانتماء نحو مكان يخذلنا، ويصادر أماننا وإنسانيتنا تحت مسمى الوطن؟

يعاني محمود من انشطار داخلي، يسبق حادثة منعه من السفر، يتمثل في توتر علاقته مع أسرته، رغم عودته إلى البلاد منذ عامين، وظهوره في التلفزيون، فإنه لم يقم بزيارتهم ولو لمرة واحدة، هذه العلاقة الواهنة تحضر في ذهنه في لحظة مفرقية، وهو يحاول الفرار من النيران والاعتقال بعد منعه من السفر، وقصف المطار، وظهور السائق الجشع. تتكثف المشاهد المأسوية لما بعد الثورة، في وجود حالة من الذعر والدمار، تتفشى بين الناس الهاربين من مصائر مفجعة، من دون أن يدركوا إلى أين سوف يمضون في مواجهة هذا الموت المفروض عليهم.

AP Photo/Hussein Malla, File
جنود سودانيون من "قوات الدعم السريع" يؤمّنون مكان تجمّع قبلي

بين حرب وحرب

بنى البليك روايته ضمن فصول قصيرة، مرقمة ومعنونة، بلغت 85 فصلا، وتبادل السرد راو عليم، مع صوت ضمير المتكلم للبطل محمود. اعتمد الكاتب على سرد عين الطير للكشف عن التطورات الدرامية والفلسفية العميقة في حياة الشخصيات، تحديدا رحلة البحث عن الهوية والمعنى والمصير، في حين ينساب البوح الداخلي المتوهج والمضطرب في آن واحد، ضمن رؤية السارد الرئيس، مع تواتر تعريته لذاته ورؤيته للآخرين، كما يقدم النص أسلوبا سرديا كثيفا، يمزج بين السرد الحدثي الخارجي، والتأملات النفسية والاجتماعية في تضافر لا فكاك منه، مع الصراعات الداخلية والخارجية، خاصة في ما يتعلق برؤيته للحرب التي تمثل فكرة البطل المثقف ومحنته الوجودية في مواجهة ما يهدده، وهذه الرؤية والتساؤلات حولها سوف نجدها منطبقة على كل البلاد التي شهدت حروبا أهلية أو حدودية، لنقرأ: "فكرت أن أعود إلى بورتسودان وأسلك طريقي إلى لندن مجددا، أو أن أنخرط في الحرب، لكن لأي سبب سأموت؟ هل أنا مقتنع بطبيعة هذه الحرب التي لا يعرف لها سبب منطقي حتى الآن؟ من يقاتل من؟ ولأي سبب؟ تاريخنا مضرج بالدماء، والأنين والقتل. لأكثر من خمسين سنة كانت هناك حرب في الجنوب، ومرة بعد أخرى، جلس المفاوضون وأنهوها، لتعود من جديد، حروب دارفور، والشرق، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، هذا بلد لا يعرف الراحة،  ولا تهدأ به رائحة البارود".

يقدم النص أسلوبا سرديا كثيفا، يمزج بين السرد الحدثي الخارجي، والتأملات النفسية والاجتماعية في تضافر لا فكاك منه

تتشارك روايتا "موسم الهجرة إلى الشمال"، و"البحث عن مصطفى سعيد"، في استكشاف قضايا الاغتراب المكاني والاجتماعي، وفقدان الهوية، والعنف النفسي والجسدي، مع تقديم رؤى فلسفية عميقة، حول التجربة الإنسانية في سياقات تتنوع بين الاستعمار والحروب الداخلية والثورات. في الأولى يعاني مصطفى سعيد من الاغتراب في لندن، متحديا العنصرية عبر استخدام ذكائه، وسحره للانتقام من الصورة النمطية الاستشراقية، مما يؤدي إلى عنف نفسي وجسدي يبلغ ذروته بقتل جين موريس. أما في الثانية، فيظهر الاغتراب من خلال تعبيرات الراوي محمود عن ذاته، مدركا تمام الإدراك أسباب تعاسته، هو غريب عن ذاته، بل عن العالم كله. ويبرز فقدان الهوية في الصراع الداخلي لمحمود وسط دمار مدينته الخرطوم، ويتجلى العنف النفسي في الحوارات المشحونة، بينما يظهر العنف الجسدي في مشاهد الحرب، يقول: "أحيانا أرى نفسي أسير وسط ركام الخرطوم، في جحيمها، المدينة التي كانت تفيض بالحياة، تحولت إلى رماد، وأخرى أجدني في قرية من قرى شمالي السودان، قد تكون ود حامد أو غيرها".

الرواية واللعنة

في الفصل الذي يحمل عنوان "شبح مصطفى سعيد"، يظهر للراوي محمود وهو في لندن، جار دبلوماسي يحمل اسم مصطفى سعيد، يقول له: "نحن من جيل موسم الهجرة، لقد عشنا هذا النص الخالد"، يجيبه محمود: "هل تعتقد أن ثمة شبحا تركه الرجل هنا، يطارد كل من يصل إلى هذه المدينة؟". تتضاعف خيالات محمود عن جاره، مفترضا أنه حفيد حقيقي لبطل رواية الطيب صالح، كأن "التاريخ يعيد نفسه بحذافيره. ها أنا أقف على أعتاب نسخة جديدة من القصة ذاتها، أنتظر مصطفى سعيد الجديد، الذي سيأتي إلى حديقة عامة في لندن القريبة، ليروي حكايته، تماما كما فعل الأول".

"موسم الهجرة إلى الشمال"

هذا الظهور الحائم في ضبابية الغيبوبة، وفقدان الذاكرة والخيالات، لا يدرك البطل السارد بعده، هل ما يعايشه ويشاهده حقيقة أم وهم تسلل إليه.

كلا الروايتين تستخدمان مصطفى سعيد كرمز للصراع بين الذات والمجتمع، لكن عماد البليك يركز أكثر على الفوضى الاجتماعية والحرب والتوترات النفسية، بينما يناقش الطيب صالح الصراع الثقافي مع الغرب.

هزائم داخلية

في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان "استهلال رواية البحث عن مصطفى سعيد"، يستدعي من رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، شخصية جين موريس، التي يقول له شبحها: "أنت لست مصطفى سعيد، أنت محمود، وكلاكما أكذوبة".

تأملات نفسية وفلسفية عميقة، حول معنى الانتماء في عالم يخذل أبطاله، ويتركهم يبحثون عن وسيلة لإعادة بناء ذواتهم وسط الخراب

تتجلى شخصية محمود سيد أحمد كتجسيد للإنسان المعاصر الممزق، إذ يعكس جبنا داخليا وشعورا بالهزيمة يتخللان رحلته الوجودية. يظهر خاسرا في مواجهة الواقع، إذ يفشل في تحقيق آماله بعد الثورة، ويجد نفسه محاصرا وعاجزا عن تغيير مصيره، وجبانا في مواجهة الحقائق. هذا الجبن لا يتجلى في هروبه المتكرر فحسب، بل في افتقاره للشجاعة لإصلاح علاقاته الواهنة، مما يكشف عن انعدام الانتماء لديه، الذي يعمق تشظيه النفسي. هذا الانشطار الداخلي يبرز في تساؤلاته المستمرة عن هويته ومعنى وجوده.

AFP
التهجير في السودان

لو أردنا الحديث عن حضور المرأة في رواية "البحث عن مصطفى سعيد"، سوف نتوقف عند شخصية ريم، ابنة الدبلوماسي، التي ترى أن الحياة قابلة لكل الاحتمالات، وأنها لو لم تكن مصممة أزياء، فسوف تعمل مهرجة في السيرك. محمود يرى في ريم المعادل لشخصية حسنة في رواية الطيب صالح. "يتخيلها تجسد الأصالة والسحر الريفي السوداني، كأنها فتاة ريفية إنكليزية تنتمي إلى تلك القرية. لم ير حسنة قط، لكنه رسم لها في خياله صورة واضحة، امرأة نحيفة، سمراء بلون خفيف، تبتسم بخجل نصفي، وتضحك بأدب ورفيع الذوق". أما ريم فيمكننا التساؤل في شأنها، إن كان عرفها حقا، أم إنها إحدى شخصيات الرواية الموهومة؟

ثمة فقرة مهمة تتعلق برؤية البطل محمود للمرأة في اعتباره أن النساء في السابق، كن ساذجات وبائسات، لكنهن تغيرن كثيرا بفضل طفرة الحداثة، "أصبحن قادرات على اختيار مصيرهن، والقفز فوق الحواجز، متحديات الرجال في عالم الجندر المتحول. لم يعد الزمن هو ذاك الذي عاش فيه بطل "موسم الهجرة إلى الشمال".

لعل السؤال الذي يحضر إلى الذهن عند قراءة رواية عماد بليك، هل البحث عن مصطفى سعيد هو بحث عن الذات، أم محاولة يائسة لاستعادة المعنى في واقع مشوه؟

لا تغيب عن النص محنة العجز الفردي في مواجهة قضايا الحياة الكبرى: فقدان الهوية، والحرب والعنف، والثورات والهزائم. ومن خلال استلهام شخصية مصطفى سعيد، ينجح البليك في إعادة صوغ هذا الرمز ليعكس تحديات الحداثة والفوضى الاجتماعية.

الرواية، بأسلوبها السردي الكثيف ولغتها السلسة، تقدم تأملات نفسية وفلسفية عميقة، حول معنى الانتماء في عالم يخذل أبطاله، ويتركهم يبحثون عن وسيلة لإعادة بناء ذواتهم وسط الخراب.

font change

مقالات ذات صلة