إقصاء الخصوم... الانتخابات العراقية والتعلّم الخطر من النموذج الإيراني

الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو الطابع الأيديولوجي الواضح في كثير من قرارات الاستبعاد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
صندوق اقتراع مغلق، في أحد مقرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بمنطقة الكرخ ببغداد، في 23 ديسمبر 2023

إقصاء الخصوم... الانتخابات العراقية والتعلّم الخطر من النموذج الإيراني

يضجّ الحيّز العام العراقي هذه الأيام ببيانات "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق"، وهي الجهة الدستورية المسؤولة عن إدارة كل شؤون الانتخابات في البلد، إذ تعلن استبعاد مرشحين من خوض الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وحتى هذا الأسبوع بلغ عدد المستبعدين، لحد الآن، أكثر من 620 مرشحا من نحو ثمانية آلاف مرشح، وهي النسبة الأعلى مقارنة بكل الانتخابات العراقية السابقة.

تبدأ هذه القرارات كتوصيات ترفعها "لجنة تدقيق أهلية المرشحين" إلى مجلس المفوضين في مفوضية الانتخابات. عند مصادقة المجلس على توصيات اللجنة، وهو غالبا ما يفعل، تصبح التوصيات قرارات نافذة. حينها يكون بإمكان المرشح المشمول بقرار الاستبعاد الاعتراض عليه أمام "الهيئة القضائية للانتخابات"، وهي جزء من المؤسسة القضائية وليست تابعة لمفوضية الانتخابات. إذا أقرت الهيئة قرار المفوضية ورفضت اعتراض المرشح المستبعَد، يصبح الاستبعاد نهائيا وباتا.

القليل من قرارات الاستبعاد هذه إداري الطابع، كما في نقص الوثائق المطلوبة. يكشف بعضها عن فوضى الدولة العراقية وسوء الإدارة فيها الذي أصبح مزمنا ومتجذرا. فمثلا، استُبعد وزير الاتصالات السابق محمد علاوي من السباق الانتخابي لأن الرجل لم يستطع إثبات تخرّجه من الإعدادية بسبب خلل مؤسسي في الدولة، وليس لأنه لا يحمل الشهادة الإعدادية، فهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1980، وقبلها حصل على شهادته الإعدادية من مدرسة "فرانك عيني" في بغداد، التي أضاعت الدولة العراقية أرشيفها.

وتأسست "فرانك عيني"، المشهورة بجودتها الأكاديمية، كمدرسة يهودية أهلية يدرس فيها مسلمون ومسيحيون عراقيون أيضا في بداية الأربعينات، واعترفت الدولة الملكية بشهادتها وتواصل هذا الاعتراف مع الدولة الجمهورية بعد عام 1958. في سبعينات القرن العشرين قررت الحكومة البعثية إلغاء هذه المدرسة، ويُفترض أن أرشيفها موجود لدى الحكومة، لكن لسبب ما (ربما بسبب إتلاف متعمد له في إطار موجة العداء القومي والديني لكل ما يتعلق باليهود في العراق حينها) ضاع هذا الأرشيف. وبالتالي لا يستطيع أي متخرج من هذه المدرسة المتميزة أكاديميا إثبات أنه تخرّج منها.

نصت كل القوانين الانتخابية العراقية بعد 2003 على ضرورة أن يثبت المرشحون أنهم لم يكونوا أعضاء في حزب "البعث" من خلال الحصول على تأكيد رسمي بهذا الصدد من هيئة المساءلة والعدالة

ويشترط تعديل القانون الانتخابي الذي مرره البرلمان العراقي في عام 2023 أن يكون في قائمة كل كتلة انتخابية 80 في المئة من حملة شهادات البكالوريوس، و20 في المئة من حملة شهادات الإعدادية.

لكن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو الطابع الأيديولوجي الواضح في كثير من قرارات الاستبعاد هذه، بما يخالف القانون العراقي. ينص القانون الانتخابي على سببين لمنع مرشح ما من خوض الانتخابات أو تسلّم منصب حكومي رفيع. السبب الأول هو افتقاد المرشح لما يُعرف باللغة القانونية بـ"حسن السيرة والسلوك"، وهو ما يتحقق عبر وجود حكم قضائي بات بجريمة تُعَدّ في القانون العراقي من الجرائم المخلة بالشرف، كالرشوة والاختلاس والإتجار بالمخدرات والابتزاز والدعارة. أما السبب الثاني فهو شمول المرشح بأحكام اجتثاث حزب "البعث"، استنادا إلى قانون المساءلة والعدالة لعام 2008، الذي يمنع الأعضاء السابقين في الحزب من تولّي أو مزاولة العمل في مناصب حكومية، خصوصا من كان برتبة عضو فرقة فما فوق، أي أعلى من مرتبة العضوية العادية، في الهيئات الرئاسية الثلاث: رئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، فضلا عن مجلس القضاء والوزارات والأجهزة الأمنية ووزارتي الخارجية والمالية. لا يُستثنى أحد من ذلك إلا بقرار معقد وصعب، لكنه ممكن وحدث في السابق، فبحسب المادة 12 من القانون "لمجلس الوزراء حق النظر في الحالات الاستثنائية للعودة إلى الوظيفة للمشمولين بهذا القانون وبحسب مقتضيات المصلحة العامة، بناء على طلب الوزير المختص وبالتنسيق مع الهيئة، واتخاذ القرار المناسب بشأنها، ولا يكون القرار نافذا إلا بمصادقة مجلس النواب عليه".

أ.ف.ب
موظف في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق يقوم بفرز يدوي للأصوات لمطابقة الفرز الإلكتروني في أحد مقراتها بمنطقة الكرخ ببغداد في 23 ديسمبر 2023

تشمل إجراءات الاجتثاث خوض الانتخابات أيضا، إذ نصت كل القوانين الانتخابية العراقية بعد 2003 على ضرورة أن يثبت المرشحون أنهم لم يكونوا أعضاء في حزب "البعث" من خلال الحصول على تأكيد رسمي بهذا الصدد من هيئة المساءلة والعدالة، أو أنهم ليسوا من المروّجين له. ويتحقق هذا الترويج، المنصوص دستوريا على منعه، من خلال شكاوى تقدّمها مؤسسات حكومية أو أهلية أو أشخاص إلى "دائرة الأحزاب السياسية" في مفوضية الانتخابات ضد مرشحين يُتهمون بالترويج لحزب "البعث". عند اقتناع الدائرة بهذه الشكاوى، ترفعها إلى لجنة تدقيق أهلية المرشحين، وفي حالة اقتناع هذه الأخيرة بوجاهة الاتهامات، ترفع توصية لمجلس المفوضين بحرمان المرشح من خوض الانتخابات.

أصدرت لجنة التدقيق توصيات استبعاد جائرة ضد مرشحين على أساس شكاوى فضفاضة لا أساس قانونيا لها

لا تكمن المشكلة في الإجراءات المنصوص عليها قانونا، فهي شائعة في كثير من تجارب العدالة الانتقالية عند التحول من نظام شمولي أو دكتاتوري إلى آخر ديمقراطي، والإجراءات العراقية تتسق مع المعايير الدولية بهذا الصدد (رغم أن الفترة الانتقالية في العراق طالت أكثر بكثير من نظيراتها في الدول الأخرى ولأسباب غير مبررة). المشكلة الحقيقية تكمن في تسييس هذه الإجراءات والتوسعة التعسفية في تفسيرها وتطبيقها. فمثلا، حُرم بعض المرشحين باستخدام عنوان "حسن السيرة والسمعة والسلوك" على أساس قضايا رُفعت ضدهم لم يصدر فيها حكم قضائي، بل برّأتهم المحاكم منها، وذلك عبر اعتبار مجرد رفع قضايا ضد شخص ما دليلا كافيا على وجود خلل يقدح في "حسن السيرة والسمعة والسلوك". هنا تُعدّ الدعاوى الكيدية، التي غالبا ما تقوم على حجج واهية وادعاءات كاذبة، إحدى أدوات الابتزاز السياسي في عراق ما بعد 2003. فكثيرا ما يطلب طرف سياسي من أنصاره رفع دعاوى في المحاكم ضد شخصية سياسية أو عامة مناهضة له. على سبيل المثال، هناك نحو ألفي دعوى كيدية مرفوعة ضد إحدى الشخصيات السياسية المعروفة بسبب نقدها المستمر للفصائل المسلحة، ما يجعل حياة هذه الشخصية جحيما بعد مغادرتها المنصب الرسمي إذ عليها متابعة هذه القضايا في أروقة المحاكم، بعد نهاية الحماية القانونية التي يوفرها المنصب الرسمي لهم.

رويترز
متظاهر عراقي يشارك في تجمع لإحياء الذكرى الرابعة للاحتجاجات المناهضة للحكومة، في بغداد، العراق، 1 أكتوبر 2023

كما أصدرت لجنة التدقيق توصيات استبعاد جائرة ضد مرشحين على أساس شكاوى فضفاضة لا أساس قانونيا لها، واعتُبر مجرد تقديمها كافيا للاستبعاد، كما في حالة النائب البرلماني سجاد سالم، نائب رئيس تحالف "البديل" الانتخابي. فبحسب سالم، استبعدته اللجنة من خوض السباق الانتخابي بسبب شكوى من صفحة واحدة قدّمتها مديرية أمن "الحشد الشعبي"، مذيلة بعبارة "لفيف من المواطنين" من دون توقيع، تطالب باستبعاده لأنه يدعو إلى عودة الدكتاتورية! التعسف ذاته كان حاضرا في استبعاد المرشح البرلماني ظافر العاني، الذي جرى استبعاده بذريعة ترويجه لحزب "البعث"، رغم أن البرلمان العراقي صوّت عام 2010 على استثنائه والنائب السابق صالح المطلك من إجراءات اجتثاث "البعث"، ما سمح لهما بخوض الانتخابات والفوز بمقعدين برلمانيين حينها. هذه المرة كانت حجة اللجنة أن العاني أطلق تصريحات تروّج لحزب "البعث"، مستشهدة بتغريدات منشورة له. لكن اللافت أن هذه التغريدات لم تحتوِ أي ترويج للحزب ولا دعوة لعودته ولا حتى إشارة إيجابية له، بل كانت فقط نقدا للنفوذ الإيراني في العراق والفصائل المسلحة العراقية التي تُعدّ أحد أهم أعمدة هذا النفوذ. قضية العاني، كما قضية سالم، معروضتان أمام الهيئة التمييزية القضائية للانتخابات للبت فيها.

يحاجج المدافعون عن سلوك المفوضية بأن هذه الأخيرة استبعدت أيضا عددا كبيرا من مرشحي كتل الإطار التنسيقي، بضمنها الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة، على أساس الانتماء لحزب "البعث" أو افتقاد شرط حسن السيرة والسلوك. في الحقيقة لا يصنع استبعاد هؤلاء فارقا حقيقيا، سواء كان الاستبعاد على أسس صحيحة أو خاطئة، فمن الواضح أن الاستبعاد استهدف مرشحين موالين غير مؤثرين ومعظمهم غير معروفين، بهدف تبرير استبعاد مرشحين معارضين ومؤثرين قد يشكلون إزعاجا هائلا للإطار التنسيقي في حال فوزهم بمقاعد برلمانية.

في انتخابات الإيرانية، يقوم "مجلس صيانة الدستور" بتدقيق أهلية المرشحين ويستبعد من خوضها من يعتبرهم غير موالين بما يكفي لقيم الثورة الإسلامية، لضمان عدم وصول المعارضين الحقيقيين إلى البرلمان

المفارقة الأكبر أن بعض المستبعدين المعارضين كسالم والعاني والقاضي وائل عبد اللطيف ومحمد علاوي وآخرين هم نواب سابقون، معظمهم لعدة دورات نيابية، ما يعني أنهم مرّوا بنجاح بإجراءات التدقيق نفسها التي تقوم بها المفوضية الآن، وخاضوا الانتخابات وفازوا بمقاعد برلمانية، فيما شغل بعضهم أيضا مناصب حكومية رفيعة. فلماذا الآن يُستبعدون عبر آلية وإجراءات قانونية يُفترض أنها ذاتها التي طُبّقت في انتخابات سابقة؟

يرتبط الجواب بقلق الإطار التنسيقي، الذي يهيمن سياسيا وإداريا على مفوضية الانتخابات، من نتائج الانتخابات المقبلة والبرلمان الذي يمكن أن يتشكل على أساسها. عبر حركة الاستبعادات هذه، يسعى الإطار إلى تشكيل برلمان مختلف عن البرلمان الحالي الذي يسوده الانقسام الشديد وضعف الفاعلية وصعوبة إنتاج الإجماع أو الأغلبية البرلمانية لتمرير القوانين والصفقات المطلوبة من دون "صداع" الرأي العام والتحدي العلني الذي يمكن أن يثيره عدد قليل من البرلمانيين المعارضين والجريئين الذين يستطيعون ممارسة الرقابة البرلمانية ويعيقون صفقات مشبوهة. يعي الإطاريون أن المرحلة المقبلة ستحمل تحديات كثيرة لهم، خارجيا وداخليا. خارجيا: هناك التطورات الإقليمية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي أضعفت حلفاءهم  الخارجيين كثيرا، كما في تفكك "محور المقاومة" وفقدان الحليف السوري (نظام الأسد) وتراجع نفوذ إيران في المنطقة. داخليا: هناك قلق جراء انتقال الصدريين إلى المعارضة خارج البرلمان بعد رفضهم المشاركة في الانتخابات، واحتمال تحالفهم مع قوى سياسية أخرى داخل البرلمان، وهو ما يسعى "الإطار" إلى منعه عبر استبعاد هذه القوى قبل أن تشكل تحالفا برلمانيا-شعبيا قويا ضده مع التيار الصدري.

أ.ف.ب
ناخبون أكراد يتفقدون أسماءهم في قائمة انتخابية خلال الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي، في 20 أكتوبر 2024

من هنا تأتي رغبة الإطار التنسيقي في تشكيل برلمان موالٍ أيديولوجياً و"منضبط" مؤسساتيا، يتحكم فيه عدد قليل من الزعماء المؤثرين مع معارضة هامشية شكلية لا تستطيع إثارة الفضائح ولا تعطيل النصاب، كما حدث في البرلمان الحالي. يحتاج الإطار إلى برلمان "منسجم" كي يمرر الصفقات  بسرعة استجابة للتحديات المقبلة.  يتطلب هذا استبعاد نواب معارضين أقوياء قادرين على تحشيد الرأي العام ضد صفقاته.

إحدى الخسائر الفادحة في هذا المسعى الإطاري هي تقويض ما تبقى من الديمقراطية العراقية، العليلة أصلا والفاقدة للمصداقية لدى الكثير من العراقيين، من خلال التحكم بها أيديولوجياً على نحو شبيه بما يجري في الانتخابات الإيرانية. ففي انتخابات الجمهورية الإسلامية، يقوم "مجلس صيانة الدستور" بتدقيق أهلية المرشحين ويستبعد من خوضها من يعتبرهم غير موالين بما يكفي لـ"قيم الثورة"، لضمان عدم وصول المعارضين الحقيقيين إلى البرلمان. ويجعل سلوك المجلس الولاء الأيديولوجي معيارا للقبول أو الرفض، بينما تقوم الانتخابات النزيهة على التنافس الحر في الأفكار التي على أساسها يختار الجمهور ممثليه. ولا يختلف سلوك "لجنة تدقيق أهلية المرشحين" العراقية كثيرا عن هذا النموذج الإيراني، وإن كان يُخرَّج بأساليب ظاهرها قانوني لكن جوهرها أيديولوجي.

يتواصل، على مدى السنوات، تحالف عراق الإطار التنسيقي الإشكالي مع إيران على حساب المصالح العراقية العامة المشروعة لكن اعتبار نموذج الانتخابات الايرانية مصدرا للتعلم الذي يمكن تطبيقه في العراق يضيف بعدا خطيرا جديدا لهذا التحالف. خلاصة هذا البعد الجديد هو دفع الإطار خصومه العراقيين إلى أشكال جديدة من المعارضة خارج المؤسسات ستكون أكثر إيذاء له من معارضتهم له من داخل المؤسسات.

font change