الميليشيات الموالية للحكومات في الساحل... السلاح خارج يد الدولة

تجريد الدولة من أبرز وظائفها

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مسلحون من حركة إنقاذ أزواد، وهي حركة سياسية مسلحة في منطقة أزواد بمالي، يتجمعون في الصحراء خارج ميناكا في 14 مارس 2020

الميليشيات الموالية للحكومات في الساحل... السلاح خارج يد الدولة

لا يزال الوضع الأمني في منطقة الساحل شديد الاضطراب، حيث تتواصل الاشتباكات العنيفة، في النيجر وبوركينا فاسو ومالي، مع الجماعات الجهادية والانفصالية، وتستمر الهجمات على المدن والقواعد العسكرية، مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين.

تبذل حكومات دول تحالف الساحل جهودا متصاعدة لمواجهة هذه التحديات، فهي تكثف من توريد الأسلحة والمعدات العسكرية وتستعين بخبراء روس وأتراك ومدرّبين عسكريين، فضلاً عن مشاركة وحدات من فيلق أفريقيا الروسي في عمليات مشتركة مع الجيش المالي. كما أعلنت تلك الحكومات تعبئة إضافية، وارتفع عدد خريجي الأكاديميات العسكرية التي تُؤهل الضباط وضباط الصف.

ومع ذلك، وبسبب محدودية موارد الجيوش الوطنية، بدأت الميليشيات الموالية للحكومات– وهي تشكيلات مسلّحة غير نظامية أُنشئت تحت رعاية دول التحالف في عام 2025– تلعب دورا متزايد الأهمية في مواجهة الجماعات الجهادية.

النيجر: برنامج "غاركوار كاسا"

في 19 أغسطس/آب، أطلقت حركة "M62" (القيادة العسكرية في النيجر) برنامجا لتعبئة الميليشيات المدنية عُرف باسم "غاركوار كاسا" (أي درع الوطن)، بهدف تشكيل وحدات متطوعين لدعم الجيش، حيث يخضع المتطوعون لتدريب في العاصمة نيامي قبل نشرهم في مناطق النزاع إلى جانب قوات الأمن الوطنية.

وعلى الرغم من أن النيجر عانت في الماضي معاناة مريرة مع الميليشيات، عندما استغل المتطرفون هذه التشكيلات لتحقيق أجنداتهم، فإن ندرة الموارد تدفع السلطات اليوم إلى تحمّل المخاطر الكبرى من جديد. وتأتي النيجر متأخرة نسبيا– إقليميا– في تبنّي هذا النموذج، وهي تقتدي في حركتها بتجربة "المتطوعين للدفاع عن الوطن" في بوركينا فاسو (VDP).

بوركينا فاسو: ظاهرة "المتطوعين للدفاع عن الوطن"

تُعَدّ قوات "المتطوعين للدفاع عن الوطن (بالفرنسية: Volontaires pour la défense de la patrie – VDP) إحدى البُنى شبه العسكرية التابعة للدولة في بوركينا فاسو. وقد أُنشئت رسميا عام 2020 بمرسوم من الرئيس روك مارك كريستيان كابوري لدعم الجيش وقوات الأمن في مواجهة الجماعات الجهادية.

جاء تأسيسها بعد انتشار مجموعات دفاع ذاتي نشأت عفويًا في أنحاء البلاد. وكان عماد هذه المجموعات أخويات صيد تقليدية مغلقة، شائعة في أفريقيا جنوب الصحراء، تاريخها مرتبط بمحاربة الصيادين غير الشرعيين والعصابات المعروفة بـ"قُطّاع الطرق"، وأهم هذه الأخويات "الدوزو" أو "الدانصو".

هذا الطابع الهامشي جعل هذه الجمعيات حاضرة في النزاعات المسلحة بالقارة. فقد شارك الدوزو في حروب ساحل العاج بين عامي 2002 و2011، وفي أفريقيا الوسطى بين 2012 و2019. وفي بوركينا فاسو عُرفت الجماعة لاحقا باسم "كوغلوويغو" Koglweogo، أي حُرّاس الغابة بلغة الموري، اللغة الأم لأكبر قومية في البلاد، قومية الموسي.

دخلت التوترات التاريخية بين شعب الموسي والفولاني الرحل، المرتبطة أساساً باستخدام الأراضي، مرحلة أكثر خطورة. ووجّهت اتهامات إلى الوحدات الموالية للحكومة، التي تتكوّن أساسا من الموسي، بارتكاب انتهاكات تصل إلى حد التطهير العرقي ضد الفولاني، الذين استقطبت منهم الجماعات الجهادية معظم مقاتليها.

منذ تأسيسها، اختلفت هيئة المتطوعين عن الجيش الوطني في جوانب متعددة شملت التجنيد والتشكيل والتدريب، والأجور والإمدادات والدعم الطبي، والمعدات ووسائل النقل، والتسليح

منذ تأسيسها، اختلفت هيئة المتطوعين عن الجيش الوطني في جوانب متعددة شملت التجنيد والتشكيل والتدريب، والأجور والإمدادات والدعم الطبي، والمعدات ووسائل النقل، والتسليح. وكانت وحدات المتطوعين تعيش على الفتات وتُجهّز بما يتبقى من موارد الجيش والحكومة. ولم يسفر وصول إبراهيم تراوري إلى السلطة، الذي وصف هيئة المتطوعين ووصفه لها "فاغنر الخاصة بنا"، عن تحسين ملحوظ في أوضاعهم. ولكن المفارقة أن سخط المتطوعين لم يتجه نحو الحكومة أو تراوري، بل تركز ضد الجيش الوطني.

ودفع اتساع نطاق هذه الوحدات الحكومة إلى إنشاء مظلة رسمية تستوعبها. ومنذ البداية تكوّنت قوات الـ"VDP" في غالبيتها من أبناء الموسي، وهم جماعة زراعية مستقرة. هذا الأمر أجّج التوتر التاريخي بينهم وبين الفولاني الرحّل، الذين طالما تنازعوا معهم حول الأراضي والمراعي. ومع أن الفولاني كانوا المصدر الرئيس لتجنيد الجماعات الجهادية، فقد وُجهت إلى قوات الـ"VDP" اتهامات بارتكاب انتهاكات، بل وبممارسة تطهير عرقي بحقهم.

أ.ف.ب
رجال يقفون في طابورٍ مع طلباتهم للتسجيل في برنامج "متطوعو الدفاع عن الوطن" (VDP)، في محافظة واغادوغو في نوفمبر 2022

منذ إنشائها اختلفت جماعة "المتطوعين للدفاع عن الوطن" عن الجيش النظامي في بنية التجنيد والتدريب، ومستويات الأجور والإمداد والدعم الطبي، إضافة إلى التسليح ووسائل النقل، وظلّت تُزوَّد غالبا بما يتبقّى من الموارد. ولم يبدّل وصول إبراهيم تراوري إلى السلطة هذا الواقع، على الرغم من وصفه الجماعة بأنها "جماعة فاغنر الخاصة بنا". ومع ذلك، لم يوجه المتطوعون سخطهم ضد الحكومة أو تراوري، بل ضد الجيش نفسه، ما جعل الحكومة تمضي في برنامج لتجنيد خمسين ألف متطوع إضافي. وقد نجحت بالفعل، فبلغ عدد أفراد الجماعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 تسعين ألفا، مقارنة بأربعة عشر ألفا فقط في الجيش النظامي. سوى أن هذه الكتلة البشرية الضخمة، قليلة العتاد والتجهيز، أصبحت تتحمل أفدح الخسائر مع تصاعد الهجمات الجهادية، لتتحول عمليا إلى "وقود للحرب" في مواجهة المتمرّدين.

وعلى خلاف قوات الجيش والدرك والشرطة، حملت بعض وحدات المتطوعين اسم "المجتمعات" التي كُلّفت بالحفاظ على النظام في مناطق وجودها التاريخي. وقد شجّع بُعْد هذه الحاميات عن وحدات الجيش وضعف حركية الجيش، المتطوعين المحليين إلى الاعتماد على مواردهم الذاتية والتحصن في مواقعهم.

 رويترز
بوركينا فاسو والنيجر ومالي وغينيا خلال الدورة العادية السادسة والستين للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، في أبوجا، نيجيريا 15 ديسمبر 2024

ومع تراجع سلطة الحكومة المركزية، تحولت وحدات المتطوعين عمليا إلى سلطات محلية في الأراضي التي تسيطر عليها. وقد وُجهت إلى بعض هذه الوحدات اتهامات بالابتزاز والنهب والاستيلاء على الأراضي والقتل خارج نطاق القانون والتطهير العرقي وحتى التواطؤ مع الجماعات الجهادية، وهي ممارسات ترقى إلى أداء وظائف شبه حكومية.

أدى تصاعد العداء بين المتطوعين والجيش إلى تحول بعض المناطق الخاضعة لهم إلى جيوب شبه مستقلة، مع ولاء شكلي فقط للعاصمة واغادوغو، فيما أثار وجود مجموعات المتطوعين في المناطق المحلية هجمات جهادية إضافية، مما دفع وحدات المتطوعين إلى تكثيف ملاحقتها للمتعاونين المزعومين بين السكان، الأمر الذي زاد التوترات الاجتماعية وساهم في تدهور الوضع الأمني العام.

وفي 30 أغسطس/آب 2025، أعلنت حكومة بوركينا فاسو أن 2500 من صيادي "الدوزو" مستعدون للانضمام إلى القوات المشاركة في جهود استعادة السيطرة على أراضي البلاد.

تشكيلات الطوارق ووحدات الدفاع الذاتي للدوزو

تتسم المجموعات شبه العسكرية الموالية للحكومة في مالي بتنوع شديد وتشتت واسع. تبرز في هذا السياق التشكيلات المسلحة للطوارق الموالية لباماكو، وعلى رأسها حركة إنقاذ أزوادMSA)) ومجموعة الدفاع الذاتي للطوارق وحلفائهم (GATIA). وتستمد هذه التشكيلات طابعها الإثني من مجتمعي الداوساهاق والإمغاد ضمن الطوارق، وتضم نحو 3000 و1000 مقاتل على التوالي.

لم تحظَ فكرة إقامة دولة أزواد المستقلة بإجماع بين مجتمعات الطوارق. إذ لم يكن الدافع الرئيس للنزاع توجها سياسيا بقدر ما كان صراعا قبليا داخليا. فقد رفضت قبائل الإمغاد والداوساهاق، التي لا تعتبر من القبائل النبيلة، الخضوع لهيمنة قبيلة الإيفوغاس "النبيلة" التي طالبت بقيادة الدولة الجديدة.

في ظل ضعف الدولة المالية، أصبح تشكيل مجموعات مسلحة الوسيلة الوحيدة للدفاع عن النفس، ما حال دون تمكن الانفصاليين من فرض سيطرتهم الكاملة في الشمال

وفي ظل ضعف الدولة المالية، أصبح تشكيل مجموعات مسلحة الوسيلة الوحيدة للدفاع عن النفس، ما حال دون تمكن الانفصاليين من فرض سيطرتهم الكاملة في الشمال، لكنه أدى إلى تعميق النزاع.
تخوض كل من حركة إنقاذ أزواد ومجموعة الإمغاد معارك شرسة مع فصائل تنظيم الدولة الإسلامية، وتحافظان على علاقات متوترة مع انفصاليي أزواد وجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، الفرع الإقليمي لتنظيم "القاعدة". ويظل الولاء للدولة السبيل الوحيد لبقاء هذه المجموعات.

أ.ف.ب
مدفع مضاد للطائرات مثبت على ظهر شاحنة صغيرة، بينما يتجمع مسلحون من حركة إنقاذ أزواد (MSA)، وهي حركة سياسية مسلحة في منطقة أزواد بمالي، في الصحراء خارج ميناكا في 14 مارس 2020

ورغم أن الحركتين تحرصان على تجنب التصعيد في مناطق نفوذهما، فإن أنشطة خارجة عن القانون تنتشر، وتبقى الأنشطة الاقتصادية تحت سيطرتهما بدرجة كبيرة. ولا تُبدي أي من المجموعتين استعدادا للتخلي عن إدارتها الذاتية، خاصة في ظل غياب دعم منتظم من الدولة.

وتشكل مجموعات الدفاع الذاتي المحلية– المستمدة من مجتمعات صيادي الدوزو التقليدية– أكبر القوى الموالية للحكومة عددا في مالي.

وتختلف هذه المجموعات في الحجم، من عشرات إلى مئات الأفراد، وكذلك في الموقع الجغرافي، لكنها تشترك في خصائص عامة، أبرزها ثباتها الجغرافي وارتباطها الشديد بمناطقها الأصلية، بالإضافة إلى طابعها الأحادي العرقي، إذ تتكون أساسا من المزارعين المستقرين.

ولا تحظى هذه المجموعات بدعم منهجي من الدولة، فيظل ولاؤها للدولة شكليا في الغالب، وبينما تعترف رسميا بسلطة الدولة على الأراضي التي تسيطر عليها، تتصرف عمليا كسلطات فعلية، تعوض جزئيا غياب مؤسسات الدولة.

وتتواتر التقارير حول تورطها في الابتزاز، وفرض العقوبات خارج الأطر القانونية، والاستيلاء على الأراضي والممتلكات، إضافة إلى ممارسات تطهير عرقي.

بلاد الدوغون

تسمي أبرز المجموعات شبه العسكرية في مالي نفسها "دان نا أمباساغو،" وتعني بلغة الدوغون "الذين يعتمدون على الله". وتأسست هذه القوة الدفاعية لشعب الدوغون في عام 2016 في منطقة تُعرف باسم "بلاد الدوغون"، كرد فعل على النزاعات التاريخية حول المراعي والأراضي الزراعية الشحيحة بين المزارعين المستقرين والفولاني، وهم من الرعاة الرحّل.

ومع اندلاع النزاع المسلح في البلاد، انضم بعض الفولاني، الذين شعروا بالتهميش من قبل الدوغون وغيرهم من المجتمعات المستقرة، إلى الفصائل الجهادية التي وعدت بإعادة توزيع عادل للأراضي. في المقابل، شكّل الدوغون مجموعة "دان نا أمباساغو" مستندين إلى تقاليد أخويات الصيد. ويُقدّر عدد مقاتليها بنحو 5000 عنصر. ولا تتلقى هذه المجموعة تمويلا من الدولة، وتعتمد في تسلحها على بنادق صيد قديمة أو أسلحة استولت عليها من الجهاديين.

وبسبب غياب الدعم الحكومي، باتت هذه الجماعة تتمتع باستقلالية كبيرة، ما جعلها تشارك فعليا السلطة الفعلية مع الجهاديين في "بلاد الدوغون". وتهدف المجموعة إلى حماية السكان المحليين ومحاربة المتشددين الإسلاميين، إلا أنها تهاجم في كثير من الأحيان مدنيين من الفولاني وغيرهم، ممن تشتبه في دعمهم للجماعات الجهادية، في محاولة جزئية لفرض سيطرتها على المنطقة.

مخاطر الاعتماد على المجموعات المسلحة

ينبع الاعتماد على القوات شبه العسكرية في منطقة الساحل من عجز الجيوش الوطنية وأجهزة إنفاذ القانون عن مواجهة التمردات الجهادية، أو كبح الجريمة المنظمة، أو بسط السيطرة الكاملة على الأراضي. ورغم أن هذه التشكيلات قد تحقق مكاسب عاجلة، فإن توسعها يشبه فتيلا بطيء الاشتعال يهدد استقرار المنطقة على المدى البعيد.

الفوائد الأمنية التي تبدو وكأنها توفرها هذه الميليشيات ليست سوى وهم. فهي وإن انتشرت في مناطق واسعة قادرة على إرباك خلايا جهادية صغيرة، فإنها تبقى عاجزة عن مواجهة الوحدات القتالية المنظمة، ما يفاقم الخسائر، وبينها خسائر فادحة في صفوف المدنيين. كما أن وجودها بحد ذاته يستدعي هجمات انتقامية، فيما يعرقل تسليح المجتمع المتزايد أي فرصة لخفض التصعيد وبناء السلام.

اعتماد هذه المجموعات على أساليب خارج إطار القانون يقوّض النسيج الاجتماعي ويذكي الخصومات ويغذّي دوامة العنف. وفي مناطق عديدة تتراجع سلطة الدولة لتحل محلها سلطات الأمر الواقع، حيث تضطلع الميليشيات بوظائف كانت من صميم المؤسسات العامة، وتؤديها بطرق غير رسمية وغالباً غير مشروعة. والنتيجة أن المدنيين يجدون أنفسهم عالقين بين الجيش والمقاتلين الموالين للحكومة والجهاديين، في مناخ من الخوف وفقدان الثقة بالدولة.

أما البعد الاقتصادي فلا يقل خطورة. إذ تزدهر أنشطة مرتبطة بالنزاع في المناطق الخاضعة للميليشيات، ما يقوّض الاقتصاد الشرعي ويثني الاستثمارات. وبمجرد تسلّحها، تتحول هذه الجماعات من "شركاء ظرفيين" إلى سلطات فعلية بأجندات مستقلة، نادراً ما تُظهر استعدادا للتخلي عن نفوذها.

تجارب أخرى– من "أنتي بالاكا" في أفريقيا الوسطى إلى "قوات الدعم السريع" في السودان وحركة "M23" في الكونغو الديمقراطية– لم تُستوعب دروسها كما ينبغي. والنتيجة مقايضة محفوفة بالمخاطر: مكاسب تكتيكية آنية تُشترى بثمن تهديدات استراتيجية طويلة الأمد تطال الدولة والمجتمع معا.

في المحصلة، يؤدي تفشي الميليشيات إلى تجريد الدولة من أبرز وظائفها: احتكار العنف. فهي لا تخضع لسلطة مدنية ولا عسكرية، فتقوّض حكم القانون، وتسرّع تآكل الشرعية، وتدفع الكيانات السياسية الهشة نحو حافة الانهيار كدول ذات سيادة.

font change