تخريب إسرائيل "الوضع الراهن" مع قطر

تخريب إسرائيل "الوضع الراهن" مع قطر

استمع إلى المقال دقيقة

لا يمكن التعامل مع العملية الإسرائيلية التي استهدفت سيادة قطر على أراضيها، ومحاولة اغتيال قيادة حركة "حماس" في الدوحة، بمعايير النجاح والفشل المباشر، فهذه عملية كبيرة، واستراتيجية، وتحول نوعي كبير في رؤية إسرائيل لذاتها ولشكل تموضعها في الإقليم وفي العالم.

مثلا، فإن هذه العملية ليست الأولى، من نوعها، التي تقوم فيها إسرائيل بخرق سيادة دولة معينة، بعملية قصف، أو اغتيال، فقد حدث ذلك كثيرا، في عمليات القصف والاغتيال التي نفذتها إسرائيل، طوال العقود الماضية، واستهدفت مواقع أو قادة فلسطينيين في سوريا ولبنان، والتي طاولت حتى روما (القيادي في "فتح" ماجد أبو شرار، 1981)، وأثينا (خالد نزال، القيادي في الجبهة الديمقراطية، 1986)، وقبرص (الكوادر القيادية في "فتح" محمد حسن بحيص، وباسم سلطان، ومروان كيالي 1988)، وتونس (خليل الوزير، القيادي المؤسس في "فتح"، 1988)، ومالطة (فتحي الشقاقي الأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي"، 1995)، وطهران (إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، 2024).

بيد أن ما يميز العملية في الدوحة أنها أتت ضد دولة تعتبر من الدول المتميزة في علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وحتى مع إسرائيل، التي تجري توافقات عميقة معها في الملف الفلسطيني، وثمة مسؤولون كبار، ضمنهم رئيس الموساد، يصلون إلى الدوحة لهذا الغرض، إضافة إلى دور قطر التفاوضي، المتفق عليه أميركياً وإسرائيلياً، والذي يتضمن منح مكان لإقامة قيادة حركة "حماس" في قطر.

ما يميز العملية في الدوحة أنها أتت ضد دولة تعتبر من الدول المتميزة في علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وحتى مع إسرائيل

القصد مما تقدم أن إسرائيل توخّت عبر تلك العملية، السياسية والعسكرية، اختراق، أو تخريب، الوضع الراهن القائم في علاقتها مع قطر، وفي مكانة قطر في المنطقة، وتاليا زعزعة الاستثناء الذي كانت تعتمد عليه تلك الدولة الصغيرة، والغنية، الذي يعزز مكانتها، ودورها السياسي، في الخليج العربي، وفي مجمل منطقة الشرق الأوسط، بل وفي كثير من ملفات الصراع في العالم.

أيضا، يبدو أن إسرائيل تحاول، عبر تلك العملية، تكريس واقع جديد يتأسس على محاولتها فرض حرية الحركة لذراعها العسكرية الطويلة، في المنطقة من لبنان إلى اليمن وإيران مرورا بسوريا والعراق، بل وحتى قطر، عبر الصواريخ والغارات الجوية وعمليات الاغتيال، مع سعيها فرض مناطق عازلة بينها وبين البلدان المجاورة (في سوريا ولبنان مثلا)، بدعوى حاجتها لعمق استراتيجي يضمن أمنها.

الأهم من ذلك أن إسرائيل في هذه العملية تريد استعادة صورتها كقوة عاتية، ورادعة، وتاليا، التأكد من إنهاء الخيار العسكري في الصراع معها، علما أن الخيار العسكري الدولتي بينها وبين الدول العربية انتهى في حرب أكتوبر 1973، في حين بقي الخيار العسكري اللادولتي، أي الميليشياوي، في لبنان وفلسطين، لذا فهي تحاول استثمار عملية "طوفان الأقصى"، لإنهاء هذا الخيار، وهو ما حاولته بتدمير قدرات حركة "حماس" في غزة، وتدمير قدرات "حزب الله" في لبنان، وفي الحرب التي شنتها، بإسناد أميركي، على إيران (يونيو/حزيران 2025)، التي أدت إلى دفعها خلف حدودها، وإنهاء مفاعيل معسكر "المقاومة والممانعة"، نهائيا، لا سيما مع الانهيار الحاصل لنظام الأسد في سوريا (أواخر العام 2024).

في المباشر، فإن الهدف من محاولة اغتيال ما تبقى من قيادة "حماس" في الخارج، وفي الدوحة تحديدا، هو تأكيد لنهج إسرائيلي يتمثل في إرهاب القيادات الفلسطينية، مع السعي لرفع الحرم عن استهدافها في أي مكان، وهو الأمر الذي فعلته، وما زالت، في فلسطين، وسوريا، ولبنان، وطهران، وها قد وصل الأمر حتى إلى "الدوحة"، ما يعني أن ذلك الاستهداف سيبقى قائما في أي مكان.

الهدف من محاولة اغتيال ما تبقى من قيادة "حماس" في الخارج، وفي الدوحة تحديدا، هو تأكيد لنهج إسرائيلي يتمثل في إرهاب القيادات الفلسطينية، مع السعي لرفع الحرم عن استهدافها في أي مكان

من جانب آخر، فإن هذه العملية، التي تأتي في سياق حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي تشنها إسرائيل، منذ عامين، على الشعب الفلسطيني في غزة، تؤكد أن حكومة المتطرفين (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير) لا تعنيها المفاوضات، ولا التسويات، وأنها معنية فقط بمحو غزة من الخريطة، وتغيير معالمها، وجعلها بمثابة مكان غير صالح لعيش الفلسطينيين، تمهيدا للتخفف من أكبر كتلة منهم، ما يتيح فصلها عن الضفة تماما، وإعادة احتلالها أو السيطرة عليها، أو خلق بيئة سياسية وأمنية واقتصادية ملائمة لها في تلك المنطقة. وهذا هو معنى أن لا "حماسستان" ولا "فتحستان" في غزة، بل إن إسرائيل كما نلاحظ تحاول شمل الضفة بهذا الشعار، مع إصرارها على الحؤول دون قيام دولة فلسطينية، وتلويحها بإعادة فرض السيادة على الضفة، أو على ثمانين في المئة منها، وكل ذلك بدعم واضح ولا محدود من الإدارة الأميركية.

باختصار فإن كل ما تفعله إسرائيل اليوم، في ظل حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، يتأسس على رؤيتها لأمنها ولذاتها ولمكانتها في المنطقة، وفق تصور نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" المهيمنة في الشرق الأوسط.

 

font change