تشهد البرازيل في سبتمبر/أيلول الجاري واحدة من أكثر المحاكمات إثارة للجدل في تاريخها المعاصر، حيث يُحاكم الرئيس السابق جايير بولسونارو أمام المحكمة العليا الفيدرالية بُتهم لا تقتصر على قضايا فساد فردية تقليدية فحسب، بل تمتد لتشمل اتهامات شديدة الجسامة تتعلق بتدبير محاولة انقلابية والتآمر على النظام الديمقراطي بعد خسارته الانتخابات الرئاسية عام 2022 أمام الرئيس الحالي لولا دا سيلفا.
وتمثل هذه المحاكمة اختبارا حاسما لمتانة المؤسسات القانونية والدستورية الديمقراطية البرازيلية والتي لم يمضِ على عودتها سوى أقل من أربعة عقود، وتعيد إلى الأذهان قضايا وجراحا سياسية قديمة شديدة التعقيد، تتعلق بإرث طويل من الاستقطاب السياسي الحاد، والتشكيك في فاعلية مؤسسات الدولة ومدى نجاحها في التصدي لمحاولات تقويض النظام الدستوري، مما يضع المحكمة العليا في مواجهة مباشرة مع هذه التحديات الوجودية.
ويتداخل في هذا الملف عدة جوانب سياسية، دستورية، قضائية، وتاريخية، وهو ما يُثير بالتبعية عدة أسئلة جوهرية منها: ما هي أبرز التهم الموجهة للرئيس بولسونارو وباقي المتهمين؟ وهل تعتبر هذه التهم من قبيل التهم الجنائية التقليدية أم إنها تهم لها طبيعة سياسية وجسامة خاصة نتيجة تعلقها باستقرار النظام الدستوري في البرازيل؟ وما هي اختصاصات وصلاحيات النظام القضائي وفقا لأحكام الدستور البرازيلي في هذا الشأن لا سيما "المحكمة العليا الفيدرالية" و"المحكمة الانتخابية العليا"؟ وما هي الدوافع والأسباب الدستورية والقانونية التي دفعت بولسونارو لارتكاب هذه التهم؟ وما هي أبرز العقوبات المحتمل توقيعها على المتهمين حال ثبوت ارتكاب التهم في حقهم؟ وهل للخصومة السياسية بين الرئيس الحالي لولا دا سيلفا والسابق بولسونارو دور في سير المحاكمة؟ وهل لهذه الخصومة علاقة بتحقيقات قضائية سابقة قام بها قضاة بارزون سابقون وحاليون مثل ألكسندر دي مورايس، وسيرجيو مورو؟ وهل يؤثر ذلك على مسار المحاكمة؟
تفاصيل وخلفية القضية
تعود تفاصيل القضية والتي تعرف إعلاميا (بقضية مخطط انقلاب الانتخابات الرئاسية البرازيلية) إلى أكتوبر/تشرين الأول 2022، بين الرئيس الحالي لولا دا سيلفا مرشح "حزب العمال البرازيلي"، أحد الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية ضمن التحالف الانتخابي "برازيل الأمل" بين الأحزاب الاشتراكية واليسارية وأحزاب الخضر، على الرئيس السابق جايير بولسونارو، مرشح "الحزب الليبرالي البرازيلي" ضمن التحالف الانتخابي "من أجل مصلحة البرازيل" بين أحزاب يمين الوسط واليمين المتطرف، والتي فاز فيها لولا دا سيلفا بنسبة ضئيلة (50.9 في المئة مقابل 49.1 في المئة)، وهو ما دفع بولسونارو إلى رفض الاعتراف بالنتائج، مستندا إلى ادعاءات غير مدعومة بالأدلة حول تزوير الانتخابات الإلكترونية.
هذا الرفض أدى إلى تصعيد التوترات والاستقطاب السياسي، والذي بلغ ذروته في 8 يناير/كانون الثاني 2023، عندما اقتحم آلاف من مؤيدي بولسونارو المباني الحكومية في العاصمة برازيليا، بما في ذلك مبنى الكونغرس ومقر المحكمة العليا الفيدرالية والقصر الرئاسي، في محاولة منهم لمنع تسليم السلطة، مما أسفر عن اعتقال مئات وإدانة عشرات بتهم التمرد، في موقف شديد التشابه مع أحداث 6 يناير 2021 في الولايات المتحدة عندما قام أنصار الرئيس الأميركي دونالد باقتحام مبنى الكونغرس اعتراضا منهم على إجراءات تسليم السلطة وتنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن.