"غوغل باي" يصل السعودية... و"علي باي" في الطريق

خطوة جديدة نحو مجتمع بلا نقد

المجلة
المجلة
غوغل باي يصل السعودية

"غوغل باي" يصل السعودية... و"علي باي" في الطريق

في قاعة مكتظة بالوفود والشركات في مؤتمر "موني 20/20 الشرق الأوسط" بالرياض، أعلن البنك المركزي السعودي (ساما) خطوة جديدة قد تغير وجه المشهد المالي في المملكة: إطلاق خدمة "غوغل باي" رسميا، وتوقيع اتفاق لتمكين "علي باي+" من العمل في السوق المحلية بحلول 2026.

قد يبدو الخبر للوهلة الأولى مجرد توسع طبيعي لشركتين عالميتين، لكن رمزية التوقيت والمكان تكشف عما هو أعمق من ذلك، فمنذ إطلاق "رؤية 2030"، وضعت السعودية هدفا واضحا وهو أن تكون في طليعة الدول التي تبني اقتصادا رقميا متكاملا. الوصول إلى نسبة 70% من المعاملات غير النقدية بحلول 2025 ليس مجرد رقم على ورق، بل انعكاس لرغبة المملكة في تقليص الاعتماد على النقد، وتعزيز الشفافية، ودمج شرائح أوسع من المجتمع في النظام المالي الرسمي.

ولا يمثل إدخال لاعبين كبار مثل "غوغل" في معادلة المدفوعات السعودية توسيعا للتقنيات المتاحة للمستهلك، بل أيضا اختبارا حقيقيا لقدرة البنية التحتية المحلية – ممثلة في شبكة "مدى" الوطنية – على استيعاب هذا الانفتاح العالمي. كما أنه يحمل في طياته بعدا جيوسياسيا؛، فوجود شركتين من الولايات المتحدة والصين معا في قلب السوق السعودية يضع المملكة في موقع استراتيجي بين عملاقين يتنافسان عالميا على قيادة مستقبل التكنولوجيا المالية.

الأوتوستراد المالي

عندما نتحدث عن المدفوعات الرقمية في السعودية، لا يمكن تجاهل العمود الفقري الذي جعل كل ذلك ممكنا وهو شبكة "مدى". ولدت الفكرة في التسعينات مع أولى محاولات المملكة لبناء نظام وطني موحد لمعالجة المدفوعات الإلكترونية وربطه بالبنوك المحلية. لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع إعادة تصميم "مدى" في 2015، حين تحولت الشبكة إلى منصة حديثة قادرة على دعم معاملات بمليارات الريالات يوميا، عبر أجهزة نقاط البيع، والسحب الآلي، والدفع عبر الإنترنت.

واليوم، باتت مدى أشبه بـ"الأوتوستراد المالي" الذي تعبره كل المعاملات، سواء أجريت ببطاقة محلية أو خدمة دفع دولية مثل "آبل باي" أو "غوغل باي" وقد جعل هذا الربط العميق بين البنية التحتية الوطنية والأنظمة العالمية السوق السعودية منفتحة على أحدث الابتكارات، وفي الوقت نفسه حافظت على سيادة الدولة على حركة الأموال.

تاريخيا، كان دور البنك المركزي السعودي أقرب إلى "الشرطي" المنظم للنظام المصرفي. لكن المؤسسة أعادت تعريف نفسها كلاعب يمزج بين الرقابة والابتكار وأطلقت بيئة تشريعية تجريبية سمحت لشركات ناشئة بتجربة حلول دفع جديدة دون الخوف من القيود البيروقراطية

وفق بيانات "ساما"، ارتفعت نسبة المدفوعات الإلكترونية إلى 79% من إجمالي مدفوعات التجزئة في 2024، متجاوزة الهدف الموضوع ضمن "رؤية 2030" قبل موعده بعام، كما قفز عدد المعاملات الإلكترونية من 10.8 مليار عملية في 2023 إلى 12.6 مليار في 2024، وتضع هذه الأرقام السعودية في مصاف الدول الأكثر تقدما في العالم في مجال المدفوعات الرقمية، متقدمة على أسواق تقليدية مثل ألمانيا أو اليابان حيث لا يزال النقد يلعب دورا كبيرا.

تاريخيا، كان دور البنك المركزي السعودي أقرب إلى "الشرطي" المنظم للنظام المصرفي. لكن المؤسسة أعادت تعريف نفسها كلاعب يمزج بين الرقابة والابتكار، وأطلقت بيئة تشريعية تجريبية سمحت لشركات ناشئة بتجربة حلول دفع جديدة دون الخوف من القيود البيروقراطية، وكانت النتيجة تضاعف عدد تلك الشركات ثلاث مرات في ثلاث سنوات، من 82 شركة في 2022 إلى 281 في منتصف 2025.

وقد جعل هذا التحول السعودية بيئة جاذبة للاستثمارات بأكثر من 9 مليارات ريال (2.39 مليار دولار) استقطبتها شركات التكنولوجيا المالية -فاينتيك- منذ 2018، ولم تقتصر هذه الاستثمارات على البنوك الكبرى أو الشركات العالمية، بل شملت أيضا عشرات الشركات الناشئة المحلية التي وجدت في السوق السعودية منصة اختبار مثالية قبل التوسع إقليميا.

تراكم مؤسسي

والآن، لم تعد "مدى" مجرد شبكة محلية، بل بدأت تستخدم كبنية تحتية تربط مع أنظمة دفع دولية مثل "آبل باي"، حين دخلت السعودية في 2019، اعتمدت على مدى لتمكين المعاملات. الآن، "غوغل باي" ستسير على المسار نفسه. وحتى "علي باي+" – رغم أنها شبكة صينية المنشأ – ستدخل من بوابة "مدى"، وهو ما يضع النظام السعودي في موقع غير مألوف، من مجرد مستقبل للتقنيات العالمية، إلى منصة تفرض على الشركات العالمية كشرط لدخول السوق.

ولا يقاس نجاح هذه البنية فقط بالأرقام أو بسلاسة المعاملات، بل أيضا بقدرتها على جعل السعودية لاعبا لا يمكن تجاوزه في معادلة المدفوعات الإقليمية. إذا أرادت "غوغل" التوسع في الخليج، فمن المرجح أن يبدأ ذلك من الرياض، حيث السوق الكبيرة، والبنية التحتية المتقدمة، والدعم الحكومي الصريح.

بهذا، يمكن القول إن إطلاق "غوغل باي" و"علي باي+" في السعودية لم يكن ممكنا لولا هذا التراكم المؤسسي والتقني الذي صنعته "مدى" و"ساما" على مدى عقد كامل. ومع ذلك، تبقى الأسئلة فهل البنية التحتية الحالية قادرة على مواكبة قفزات أكبر – مثل إدماج الذكاء الاصطناعي أو العملات الرقمية للبنوك المركزية؟ وهل يمكنها موازنة الانفتاح العالمي مع متطلبات السيادة الوطنية؟

عندما أعلنت "غوغل" إطلاق خدمتها للدفع في السعودية، لم يكن الأمر مجرد توسعة جغرافية عابرة. فـ"غوغل باي" ، التي ولدت أولا في أسواق مثل الولايات المتحدة والهند، تطورت خلال العقد الماضي من تطبيق تجريبي إلى منصة مالية متكاملة تضم أكثر من 150 مليون مستخدم نشط شهريا عالميا، ويفتح دخولها السوق السعودية الباب أمام تجربة جديدة للمستهلكين المحليين، ويضع المملكة في مصاف الدول التي تعتبر مختبرا لآخر ما تنتجه وادي السيليكون في مجال التكنولوجيا المالية.

كيف يعمل "غوغل بلاي"؟

تعتمد الفكرة الأساس لـ"غوغل باي" على جعل الهاتف المحمول بديلا عمليا للمحفظة التقليدية. من خلال تطبيق محفظة "غوغل"، يمكن المستخدمين إضافة بطاقاتهم المصرفية بما في ذلك بطاقات "مدى"، وربطها ببطاقات الائتمان أو الخصم المباشر. وعند الدفع في متجر مجهز بجهاز نقاط بيع يدعم تقنية الاتصال القريب، يكفي تقريب الهاتف من الجهاز لتتم العملية بنجاح.

لكن التطور الحقيقي لا يكمن فقط في الاستغناء عن البطاقة البلاستيكية، بل في بناء منظومة متكاملة من الأمان والتحقق الرقمي. جميع المعاملات تشفر باستخدام رموز فريدة لا تكشف بيانات البطاقة الأصلية. كما أن كل عملية دفع تتطلب مصادقة بيومترية مثل بصمة الإصبع أو التعرف الى الوجه. وحتى في حال فقدان الهاتف، يمكن تعطيل المحفظة عن بعد عبر حساب "غوغل". هذه العناصر تجعل الخدمة أكثر أمانا من حمل بطاقات فعلية قد تتعرض للسرقة أو النسخ.

لا يمكن الحديث عن دخول "غوغل باي" إلى السعودية دون التطرق إلى المنافس المباشر "آبل باي". فقد سبقت "آبل" بإطلاق خدمتها قبل ست سنوات

الميزة الأبرز لدخول "غوغل باي" إلى السعودية أنه يتم عبر شبكة "مدى"، مما يعني أن جميع البنوك المحلية ملزمة دعم الخدمة مباشرة مما يفتح المجال أمام ملايين المستخدمين دون الحاجة إلى بناء شراكات ثنائية مع كل بنك على حدة.

يضاف إلى ذلك أن المجتمع السعودي يعتبر من بين الأسرع تبنيا للتقنيات الجديدة في المنطقة. فبحسب إحصاءات هيئة الاتصالات، تجاوزت نسبة انتشار الهواتف الذكية 97% عام 2024، وهو ما يجعل الغالبية العظمى من السكان مؤهلين تقنيا لاستخدام "غوغل باي" من اليوم الأول. ثقافيا أيضا، أظهرت دراسات السوق أن الجيل الشاب – الذي يشكل أكثر من 60% من السكان – يميل إلى اعتماد حلول الدفع الرقمية التي توفر له السرعة والراحة مقارنة بالتعامل النقدي التقليدي.

لا يمكن الحديث عن دخول "غوغل باي" إلى السعودية دون التطرق إلى المنافس المباشر "آبل باي". فقد سبقت "آبل" بإطلاق خدمتها قبل ست سنوات، وأصبحت ركيزة في معاملات التجزئة بفضل قوة علامتها التجارية وهيمنة أجهزة "آيفون" على السوق المحلية بحصة تتجاوز 40%.

مع ذلك، يمتلك "غوغل باي" نقاط قوة مختلفة. فانتشار أجهزة "أندرويد" في السعودية يراوح بين 55% و60%، مما يمنحه قاعدة مستخدمين أوسع. إلى جانب ذلك، يتمتع بتكامل أعمق مع خدمات "غوغل" الأخرى مثل "جيميل" و "مابس" و"كروم".

يمكن المستخدم دفع فاتورة تصله عبر البريد الإلكتروني مباشرة من داخل التطبيق. كما أن بيئة "أندرويد" المفتوحة تمنح مرونة أكبر للشركات الناشئة والتجار الصغار مقارنة بالمنصة الأكثر تقييدا من "آبل"، وبالتالي فدخول "غوغل باي" لا يقدم خيارا إضافيا فقط، بل يساهم في خلق توازن في السوق ومنع احتكار تجربة الدفع الرقمي من قبل شركة واحدة.

منصة مالية متكاملة

بالنسبة للمستهلك السعودي، فإن دخول "غوغل باي" إلى السوق يعني تغييرات ملموسة تسهل حياته اليومية على أكثر من مستوى. فإضافة بطاقة "مدى" أو بطاقة ائتمان إلى تطبيق محفظة "غوغل" لا تستغرق سوى دقائق، لتصبح المعاملات أسرع من الدفع النقدي التقليدي. كما يتيح التطبيق تتبع الإنفاق بشكل لحظي، مما يساعد الشباب – الذين يشكلون النسبة الكبرى من السكان – على إدارة ميزانياتهم بصورة أفضل. وفي حال ربط الخدمة بمنصات حكومية مثل "توكلنا" أو "أبشر"، فإنها قد تتحول إلى وسيلة مريحة لدفع الرسوم والفواتير الرسمية. وحتى في السفر، ستوفر "غوغل باي" بفضل دعم بطاقات "مدى" تجربة سلسة تتيح الدفع في الخارج دون الحاجة لحمل محافظ متعددة، وهو ما يعزز سهولة الاستخدام والراحة للمستهلك المحلي.

رغم كل الإيجابيات، يظل عنصر الثقة مفتاحا لنجاح "غوغل باي". فالمستهلك السعودي، رغم اعتياده على البطاقات البنكية، لا يزال مترددا أمام فكرة تخزين بياناته المالية في هاتف ذكي قد يتعرض للسرقة أو الاختراق. وهنا يبرز دور "ساما" وشبكة "مدى" في طمأنة الجمهور، عبر حملات توعية تؤكد أن المعاملات الرقمية ليست آمنة فقط، بل قد تكون أكثر أمانا من النقد أو البطاقات التقليدية. كما أن ربط الخدمة باللوائح التنظيمية السعودية الخاصة بحماية البيانات والخصوصية يمنح المستهلك شعورا بالثقة، إذ يرى أن الدولة تقف خلف هذه المنظومة وتضمن نزاهتها.

اهتمام "غوغل" بسوق بحجم السعودية، رغم أن عدد سكانها يقارب 35.5 مليون نسمة فقط، يرتكز على عوامل جوهرية. فالقوة الشرائية المرتفعة تجعلها من بين أكثر أسواق المنطقة جذبا، بينما التحول الرقمي المتسارع، وارتفاع نسبة المدفوعات الإلكترونية، يوفران بيئة مثالية لتبني حلولها المالية

على المدى القريب، قد يظهر "غوغل باي" في السعودية كأداة دفع رقمية بسيطة، لكنه يحمل إمكانات للتطور إلى منصة مالية متكاملة. تجارب "غوغل" في أسواق أخرى، مثل الهند، أظهرت كيف يمكن أن يتوسع التطبيق ليشمل تحويل الأموال بين الأفراد، دفع الفواتير، وحتى خدمات تأمينية صغيرة. وفي السياق السعودي، من المرجح أن نرى إطلاق محفظة رقمية متعددة الاستخدامات تضم بطاقات الولاء والاشتراكات، إلى جانب تكامل مع منصات التجارة الإلكترونية الكبرى مثل "نون" و"أمازون". كما أن إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي قد يفتح الباب أمام خدمات أكثر تخصيصا، كتحليل أنماط الإنفاق وتقديم نصائح مالية موجهة، مما يجعل "غوغل باي" يتجاوز فكرة كونه بديلا للمحفظة التقليدية ليصبح أداة لإدارة الحياة المالية اليومية.

أما من الناحية الاستراتيجية، فإن اهتمام "غوغل" بسوق بحجم السعودية، رغم أن عدد سكانها يقارب 35.5 مليون نسمة فقط، يرتكز على عوامل جوهرية. فالقوة الشرائية المرتفعة تجعلها من بين أكثر أسواق المنطقة جذبا، بينما التحول الرقمي المتسارع، وارتفاع نسبة المدفوعات الإلكترونية، يوفران بيئة مثالية لتبني حلولها المالية. وإلى جانب ذلك، فإن النجاح في السعودية يفتح أمام "غوغل" فرصة التوسع بسهولة في أسواق الخليج وشمال أفريقيا. لهذا، لا يُنظر إلى دخول "غوغل باي" باعتباره توسعا عابرا، بل كاستثمار طويل المدى يجعل المملكة محطة محورية في استراتيجية "غوغل" المالية على مستوى العالم.

من التكنولوجيا للسياسة

إذا كان دخول "غوغل باي" للسعودية خبرا تقنيا بحتا، فإن وصول "علي باي+" يحمل بعدا يتجاوز التكنولوجيا إلى السياسة والاقتصاد، فـ"علي باي" ليست مجرد محفظة رقمية، بل هي رمز لصعود الصين كقوة مالية وتقنية عالمية، وجزء من مشروع أوسع يسعى إلى إعادة تشكيل البنية التحتية للدفع عالميا خارج الهيمنة الأمريكية.

ولدت "علي باي" في 2004 كخدمة بسيطة من مجموعة "علي بابا" لتأمين معاملات موقعها التجاري. خلال عقدين فقط، تحولت إلى أكبر منصة دفع رقمي في العالم بأكثر من مليار مستخدم نشط، معظمهم في الصين.

لاحقا، انفصلت الخدمة تحت شركة "آنت غروب"، التي أصبحت عملاقا تقنيا-ماليا يجمع بين المدفوعات، القروض الصغيرة، وإدارة الثروات. ومع توسعها خارج الصين، أطلقت "علي باي+" – وهو مشروع يستهدف توحيد خدمات الدفع الرقمية عبر الحدود وربط محافظ محلية مختلفة تحت شبكة واحدة.

اختيار المملكة كوجهة لتوسع "علي باي+" لم يكن مصادفة، بل نتيجة طبيعية لعوامل عدة. فالسعودية تمثل أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، وتضم قاعدة شبابية ضخمة مع عادات إنفاق مرتفعة، مما يجعلها سوقا واعدة لأي خدمة مالية رقمية. إضافة إلى ذلك، تستقبل المملكة ملايين الحجاج والمعتمرين سنويا، خصوصا من شرق آسيا (الصين، ماليزيا، إندونيسيا)، وهؤلاء يحتاجون إلى حلول دفع سلسة وآمنة، وهو ما يجعل "علي باي+" الخيار المثالي لهم. كما أن وجود المنصة يتقاطع مع "رؤية 2030"، حيث تسعى الرياض إلى تنويع شركائها الاقتصاديين وجذب الاستثمارات الصينية، وقطاع التكنولوجيا المالية يعد أرضا خصبة للتعاون.

على الرغم من أن المستهلك السعودي قد يرى في البداية أن "علي باي+" تشبه "غوغل باي"، فإن المنصة تحمل مزايا خاصة

رغم أن جميع هذه الخدمات تلتقي عند هدف واحد هو تسهيل المدفوعات، فإن فلسفة "علي باي+" تختلف عن منافسيها الغربيين. بينما تركز "غوغل باي" و"آبل باي" على الهواتف كنقطة ارتكاز أساس وتستهدفان في الدرجة الأولى منظومة المستخدم الغربي، فإن "علي باي+" تنطلق من فكرة ربط الشبكات، حيث تجمع بين محافظ محلية مختلفة مثل "جي كاش" في الفيليبين أو "كاكايو باي"  في كوريا، لتعمل بشكل متكامل عبر الحدود. وفي السياق السعودي، هذا يعني أن الحاج القادم من شنغهاي أو كوالالمبور سيتمكن من الدفع في مكة أو الرياض باستخدام تطبيقه المحلي مباشرة، دون الحاجة إلى بطاقة دولية أو تحويل عملة معقد.

وجود "علي باي+" في السعودية يتجاوز التجارة اليومية ليحمل أبعادا سياسية واضحة. فهو يعزز الحضور الصيني في الاقتصاد السعودي في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، كما يفتح الباب أمام تحدي هيمنة الدولار على المعاملات الدولية عبر بناء شبكة مدفوعات عابرة للحدود قد تتبنى لاحقا اليوان الرقمي. وفي المقابل، بالنسبة الى الرياض، فإن الترحيب بهذه المنصة يعكس توجهها لتنويع الشراكات الاستراتيجية وتفادي الارتهان لقوة واحدة – سواء كانت واشنطن أو بكين – وهو ما ينسجم مع سياساتها الجديدة في موازنة النفوذ الدولي على أرضها.

على الرغم من أن المستهلك السعودي قد يرى في البداية أن "علي باي+" تشبه "غوغل باي"، فإن المنصة تحمل مزايا خاصة. فهي تسهل التجارة عبر الحدود، إذ يمكن المستخدم الدفع بسهولة لمشتريات من متاجر صينية مثل "تايابويا" أو "علي اكسبرس". كما تدعم السياحة الدينية والتجارية من خلال تسهيل إنفاق الزوار القادمين من آسيا دون تعقيدات البطاقات الدولية. بالإضافة إلى ذلك، تقدم المنصة عادة برامج ولاء وخدمات رقمية مثل القسائم الإلكترونية والعروض المباشرة، مما قد يفتح فرصا جديدة للتجار السعوديين لتعزيز مبيعاتهم.

تحديات الثقة والخصوصية

مع ذلك، لن تكون الطريق أمام المنصة مفروشة بالورود. فهناك تحديات تتعلق بالثقة والخصوصية، حيث قد يتردد بعض المستهلكين في تخزين بياناتهم المالية على منصة صينية في ظل الجدل العالمي حول الأمن السيبراني. كذلك، تحتاج "علي باي+" إلى تكامل عميق مع البنوك السعودية وربما مع شبكة "مدى" لضمان نجاحها محليا. أما المنافسة الداخلية، فالمحافظ السعودية مثل "أس تي سي باي" و"يوآر باي" قد ترى في الخدمة تهديدا مباشرا، مما يدفعها لتعزيز عروضها لمواجهة القادم الجديد.

تعتمد "علي باي+" على سمعتها الطويلة في الصين في مجال الأمن السيبراني، لكنها تدرك أن الأسواق الجديدة تحتاج إلى رسائل طمأنة إضافية. لذلك، غالبا ما تبني شراكات محلية مع البنوك أو شركات الاتصالات، لتضمن أن بيانات المستخدمين تُخزن وتُدار وفق القوانين المحلية. وفي السعودية، يعني ذلك الالتزام التام بإرشادات "ساما" الصارمة في ما يتعلق بحماية المستهلك، وتقديم ضمانات واضحة بأن البيانات لن تغادر حدود المملكة دون إشراف رسمي.

من الخارج، قد يبدو دخول "غوغل باي" و"علي باي+" إلى السوق السعودية مجرد إضافة خدمات دفع جديدة، لكنه في العمق يعكس صراعا استراتيجيا على عقل وجيب المستهلك بين ثلاث قوى كبرى، "آبل"، و"غوغل"، والصين

أحد السيناريوهات المثيرة يتمثل في أن يشكل وجود "علي باي+" بوابة مبكرة لتجربة اليوان الرقمي في المعاملات العابرة للحدود. فالصين تسعى جاهدة لدفع عملتها الرقمية إلى الاستخدام الدولي، والسعودية – باعتبارها مركزا عالميا للطاقة وللحج – قد تكون مختبرا مثاليا لهذه التجربة. مشهد حاج صيني يدفع تكاليف إقامته في مكة عبر اليوان الرقمي لم يعد بعيدا، وهو سيناريو يحمل أبعادا استراتيجية قد تغير ميزان المدفوعات العالمية.

المكاسب السعودية من دخول "علي باي+" لا تقتصر على تسهيل تجربة السياح فقط. بل هناك فوائد أعمق، منها تنويع قنوات الدفع وتقليل الاعتماد على البنية الغربية وحدها، وجذب إنفاق الزوار وزيادة سهولة صرف أموالهم داخل المملكة، فضلا عن تعزيز موقع السعودية كمركز مالي إقليمي قادر على استضافة لاعبين من الشرق والغرب معا. هذا التنوع يعزز مكانة المملكة بوصفها ساحة مفتوحة للتكنولوجيا المالية العالمية.

من الخارج، قد يبدو دخول "غوغل باي" و"علي باي+" إلى السوق السعودية مجرد إضافة خدمات دفع جديدة، لكنه في العمق يعكس صراعا استراتيجيا على عقل وجيب المستهلك بين ثلاث قوى كبرى، "آبل"، و"غوغل"، والصين إذ يشبه المشهد لعبة نفوذ عابرة للمال والتقنية، تمتد آثارها إلى الثقافة اليومية وسلوك المستهلك السعودي.

كانت صاحبة الريادة حين أطلقت "آبل باي" في المملكة عام 2019 بالتعاون مع شبكة "مدى". نجاحها لم يكن مجرد مسألة تقنية، بل نفسية وثقافية أيضا، فقد ارتبطت بعلامة تجارية فاخرة موثوق بها رسخت نفسها سريعا في السوق. وبحلول 2023، أشارت تقديرات إلى أن أكثر من نصف معاملات الدفع عبر الهاتف المحمول في السعودية تمر عبر "آبل باي". هذا النجاح جعلها المعيار الأول في المدفوعات الرقمية لدى شريحة واسعة من السعوديين، خاصة مستخدمي الآيفون الذين يشكلون نسبة ملحوظة مقارنة بدول أخرى.

على الجانب الآخر، تراهن "غوغل" عبر "غوغل باي" على الغالبية الصامتة من مستخدمي "أندرويد"، وهم الشريحة الكبرى في المجتمع السعودي، خصوصا في المدن الثانوية والمناطق الأقل حظا. دخول "غوغل" بهذا الشكل أشبه بفتح بوابة أمام سوق كامنة لم يجد بعد وسيلة دفع رقمية سلسة ومتكاملة. وهكذا، تحاول "غوغل" أن تملأ فراغا واسعا تركته هيمنة "آبل" على السوق المتميزة.

عناصر متعددة

أما الصين، فتدخل من زاوية مختلفة عبر "علي باي+"، مستهدفة في البداية السائحين والحجاج والمقيمين القادمين من آسيا الذين اعتادوا على استخدام هذه المحافظ الرقمية في حياتهم اليومية. إتاحة الخدمة في السعودية تسهّل إنفاقهم وتزيل العقبات أمامهم، لكنها أيضا تفتح الباب أمام اختراق تدريجي للمستهلك المحلي عبر التجارة الإلكترونية وربطها بمنصات صينية مثل "علي أكسبرس"، مما يمنح "علي باي+" بعدا استراتيجيا يتجاوز الخدمات العابرة للحدود.

بالنسبة للمستهلك السعودي، لم يعد السؤال مجرد "كيف أدفع؟"، بل "مع أي منظومة رقمية أرتبط؟". هنا تدخل عناصر متعددة في اللعبة. التكلفة والرسوم قد تحدد اختيارات البعض، إذ تعتبر "آبل باي" أكثر تكلفة على التجار، بينما توفر "غوغل" بدائل أقل تكلفة، وتطرح الصين خيارات تنافسية قد تدعمها استراتيجيات توسع طويلة المدى. التجربة والسهولة عامل آخر، فـ"آ"بل متفوقة في البساطة والأناقة، "غوغل" تقدم تكاملا واسعا مع التطبيقات والخدمات، فيما تمنح "علي باي+" قيمة إضافية للسفر والتجارة الإلكترونية الدولية. أما على صعيد الثقة والخصوصية، فـ"آبل" ترفع شعار "الخصوصية أولا"، بينما تواجه "غوغل" انتقادات بسبب جمع البيانات، في حين تثير الصين مخاوف متعلقة بالأمن القومي والرقابة.

رغم الصورة البراقة التي ترافق إطلاق "غوغل باي" "علي باي+" في السعودية، فإن الوجه الآخر لهذه الثورة الرقمية يكمن في تحديات الأمن السيبراني وحماية الخصوصية

وسيمتد تأثير هذه المنافسة الثلاثية إلى السوق ككل، فالمستهلك سيستفيد من رسوم أقل وعروض أكثر وتنوع في التجارب، بينما يواجه التجار خيارات أكثر تعقيدا لكنها تتيح لهم جذب شرائح مختلفة من العملاء. أما الاقتصاد الوطني، فقد يشهد تسريعًا في تحقيق هدف "رؤية 2030" بالوصول إلى 70% من المدفوعات غير النقدية، لكن مع تحديات جوهرية مرتبطة بسيادة البيانات وضمان استقلال القرار المالي المحلي.

ثقافيا، يشهد المجتمع السعودي تحولا تاريخيا. فبعد عقود من الاعتماد شبه الكامل على الكاش، ارتفعت المدفوعات الرقمية لتشكل نحو 79% من إجمالي المدفوعات في 2024، وقفز استخدام المحافظ الإلكترونية بأكثر من 200% منذ 2020. دخول "جوجل باي علي باي+" قد يسرّع هذا المسار أكثر، بحيث يتحول الهاتف الذكي إلى المحفظة الحقيقية لكل سعودي، لا سيما مع الجيل الشاب الأكثر تقبلا للتقنية.

وعلى أعتاب 2030، يمكن تصور سيناريوهات محتملة. قد تحتفظ "آبل" بهيمنتها في شريحة النخبة والمدن الكبرى، بينما تنتشر "غوغل" في القاعدة الشعبية لتصبح العمود الفقري للمدفوعات اليومية، فيما تواصل "علي باي+" لعب دورها في السياحة والتجارة الدولية، كما أن هناك احتمال تدخل الدولة لدعم المحافظ المحلية لضمان توازن القوى وعدم ترك المجال مفتوحا بالكامل أمام اللاعبين الأجانب. في جميع الأحوال، المنافسة الدائرة اليوم ستحدد ليس فقط طريقة الدفع في السعودية، بل أيضا شكل الارتباط بين المستهلك السعودي والعالم الرقمي بأسره.

رغم الصورة البراقة التي ترافق إطلاق "غوغل" باي و"علي باي+" في السعودية، فإن الوجه الآخر لهذه الثورة الرقمية يكمن في تحديات الأمن السيبراني وحماية الخصوصية. فكلما ازدادت سرعة وسلاسة المعاملات، ارتفعت معها الحاجة إلى أنظمة دفاعية أكثر تعقيدا في مواجهة الاحتيال والاختراق.

الاحتيال المالي

أصبح قطاع المدفوعات الرقمية اليوم هدفا مفضلا للقراصنة، حيث تشير تقارير "كاسبرسكي" إلى أن محاولات الاحتيال المالي عبر التطبيقات تضاعفت عالميا بين 2020 و2024، وتتراوح هذه الهجمات بين رسائل تصيد إلكتروني مموهة تقلد البنوك، إلى برمجيات خبيثة تسرق بيانات البطاقات، وصولا إلى هجمات تستهدف البنية التحتية للبنوك نفسها. وفي بلد مثل السعودية، حيث بلغت المعاملات الإلكترونية 12.6 مليار عملية في 2024، فإن نسبة صغيرة من الاختراقات قد تترجم إلى خسائر بمليارات الريالات.

كما أن كل عملية دفع تولد بيانات ضخمة حول أنماط الشراء والاستهلاك، وهي بمثابة "ذهب رقمي". لكن السؤال المحوري يبقى: من يملك هذه البيانات؟ "غوغل" قد تستفيد منها لتعزيز منصاتها الإعلانية، بينما قد تستخدمها "علي بابا" في تطوير خوارزميات تتوقع سلوك المستهلك. في المقابل، ترغب البنوك السعودية في ضمان أن تبقى هذه البيانات تحت السيادة المحلية. تجارب سابقة، مثل بيع شركة "23andMe" بيانات جينية بعد إفلاسها، تجعل المخاوف أكثر واقعية وتدفع للتساؤل: هل يمكن أن يحدث الأمر ذاته مع البيانات المالية الحساسة؟

بحلول عام 2030، يتوقع أن تصبح السعودية واحدة من أكثر الأسواق نضجا في العالم في مجال المدفوعات الرقمية، مدفوعة برؤية 2030 التي تستهدف تقليص الاعتماد على النقد وتعزيز الاقتصاد غير الملموس

التحدي لا يقف هنا، بل يمتد إلى الموازنة بين الراحة والأمان. فالمستهلك عادة يميل إلى الحل الأسرع والأبسط، لكنه قد يفتح بذلك ثغرات خطيرة، فقد تكفي كلمة مرور ضعيفة، أو استخدام شبكة "واي فاي" عامة لدفع فاتورة لفتح الباب أمام الاختراق، لذلك يقع العبء على الشركات لتطوير أنظمة أمان تكون قوية تقنيا لكنها غير مرهقة للمستخدم، مثل الاعتماد على بصمة الإصبع والتعرف الى الوجه، أو تشغيل خوارزميات ذكاء اصطناعي قادرة على إيقاف معاملة مشبوهة في أقل من ثانية.

في هذا السياق، تلعب التشريعات والتنظيمات دورا محوريا، فمؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) تضع أطرا صارمة لحماية المستهلك، وهو ما يعزز الثقة بالنظام. لكن التشدد المبالغ فيه قد يثني الشركات العالمية عن الاستثمار. فقد أظهرت التجربة الأوروبية مع "اللائحة العامة لحماية البيانات" أن التشريعات قد تكون سلاحا ذا حدين، وهو ما يثير تساؤلات حول اتجاه السعودية بعد دخول قانون حماية البيانات الشخصية حيز التنفيذ عام 2023.

ويبقى بعد آخر أكثر استراتيجية، وهو السيادة الرقمية. فالاعتماد الكامل على شركات أجنبية مثل "غوغل" أو "علي بابا" قد يترك ثغرات خطيرة. فماذا لو استضافت البيانات على خوادم خارجية تخضع لقوانين دول أخرى؟ أو لو عطلت توترات جيوسياسية الخدمات داخل المملكة؟ لهذا، فإن بناء بنية تحتية سيبرانية محلية، وتشجيع شركات سعودية ناشئة في مجال الأمن الرقمي، يمثل صمام أمان لضمان أن مفاتيح النظام المالي تبقى داخل البلاد.

ومع كل هذه التحديات، يظل الوعي المجتمعي الحلقة الأضعف، فقد أظهرت دراسات أميركية أن 80% من عمليات الاحتيال تبدأ برسائل تصيد إلكتروني تخدع المستخدم، بينما بينت إحصاءات أوروبية أن نحو نصف المستهلكين لا يغيرون كلمات مرورهم بانتظام. وهذا يعني أن السعودية تحتاج إلى حملات توعية شاملة ترافق انتشار هذه الخدمات، ليصبح المستخدم جزءا من منظومة الدفاع بدلًا من أن يكون الثغرة التي يستغلها المهاجمون.

بحلول عام 2030، يتوقع أن تصبح السعودية واحدة من أكثر الأسواق نضجا في العالم في مجال المدفوعات الرقمية، مدفوعة برؤية 2030 التي تستهدف تقليص الاعتماد على النقد وتعزيز الاقتصاد غير الملموس. فمع انتشار محافظ مثل "غوغل باي" و"علي باي+" جنبا إلى جنب مع حلول محلية كـ"مدى باي".

وقد نشهد تحولا شبه كامل نحو مجتمع بلا نقد، حيث تصل المدفوعات الإلكترونية إلى أكثر من 90% من المعاملات اليومية، مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والتكامل مع الهوية الرقمية الحكومية، مما يفتح الباب أمام خدمات جديدة مثل الدفع التلقائي عبر السيارات الذكية، أو المعاملات بالواقع المعزز خلال التسوق، في حين تبقى المنافسة بين الشركات المحلية والعالمية عاملا رئيسا في تحديد من سيقود المشهد، لكن المؤكد أن المستهلك السعودي سيكون المستفيد الأكبر من بيئة دفع رقمية متطورة، آمنة، وسلسة تعزز مكانة المملكة كمركز عالمي للابتكار المالي.

font change