إسرائيل الجديدة والشرق الأوسط الجديد

تل أبيب قضت أو تكاد على الوضع الناشئ بعد حرب الأيام الستة في يونيو 1967

رويترز
رويترز
دونالد ترمب وبنيامين ونتنياهو عند مدخل البيت الأبيض في 4 فبراير 2025

إسرائيل الجديدة والشرق الأوسط الجديد

إذا كان من خلاصة للموقف الأميركي من الهجوم الإسرائيلي في العاصمة القطرية الدوحة، والذي يبدو أنه فشل في تحقيق أهدافه، فهي أن واشنطن تدعو حلفاءها في المنطقة إلى اعتبار ما حدث في الدوحة حادثا ثانويا، وأن الأمر الأساسي يبقى في القضاء على "حماس" للوصول إلى السلام الذي يريده الجميع، كما قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، مضيفا: "نحاول أن يركز الجميع على ما سيحدث لاحقا، وليس فقط على ما حدث الأسبوع الماضي في الدوحة".

والقضاء على "حماس" في عقل إدارة دونالد ترمب لا يتصل بـ"اليوم التالي" في غزة أو بعملية السلام البعيدة أكثر من أي وقت مضى، بل بتغيير الشرق الأوسط برمته، وهي المهمة التي ادعى بنيامين نتنياهو أنه بصدد القيام بها بنفسه وربما لوحده. والواقع أنه سواء كان نتنياهو يحاول أن يفرض أجندته على الإدارة الأميركية أو كان متفقا معها بشأنها، فإنه من الواضح أنّ الجانبين متفقان على تغيير الشرق الأوسط، لكن مع فارق أساسي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يتصرف بوصفه قائد هذه العملية وأنه يقوم بالمهمة نيابة عن واشنطن وسائر المنظومة الغربية، وهو ما سبق أن قاله قبل سنة تقريبا خلال انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في عز التوتر بينه وبين إدارة جو بايدن السابقة. أما الآن فإن نتنياهو يشعر بحرية حركة أكبر في ظل ولاية ترمب الثانية، ولم يكن مستغربا أن ينحاز ترمب إلى إسرائيل بعد هجومها على الدوحة، وإن كان قد حاول استيعاب موقف قطر التي شعرب بالخيانة.

إلا أن ما يجدر التوقف عنده أن المنطقة ليست أولوية بالنسبة لواشنطن، أو أنها ليست أولوية إلى الحد الذي يظنه البعض في المنطقة. صحيح أن دونالد ترمب أعاد خلط الأولويات الأميركية، بحيث بدا أن دافعه للثأر من "الدولة العميقة" في واشنطن أولوية ملحة بالنسبة إليه، ثم بدا أن وقف الحرب الروسية-الأوكرانية هدفه الرئيس خصوصا أنه كان وعد بوقفها خلال 24 ساعة، قائلا إنه لو كان رئيسا مكان جو بايدن لما وقعت. ولكن الصحيح أيضا أن احتواء الصعود الصيني لا يزال يشكل الأولوية القصوى بالنسبة للرئيس الجمهوري، متفقا بذلك مع سلم أولويات إدارة جو بايدن، بما يجعل هذه الأولوية "عقيدة" أميركية راسخة.

ما كشفه الهجوم على الدوحة هو أنه لا يمكن تصور وجود أي استراتيجية أميركية للمنطقة معزولة عن الاستراتيجية الإسرائيلية

وهنا يتحول السؤال: هل سلمت واشنطن أمر المنطقة إلى إسرائيل بحيث تقوم بإعادة هندستها من جديد بنفسها وبما يوافق مصالحها؟ أم إن انشغال واشنطن بخرائط وملفات أخرى لا يعني أنها تسلم بالاستراتيجية الإقليمية لبنيامين نتنياهو؟ صعوبة الإجابة عن هذين السؤالين لا تعفي من رسم  تصور كيفية إدارة الحرب الإقليمية من جانب كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، على قاعدة أن إسرائيل مستعدة للقيام بأي شيء تجده مناسبا لها شريطة أن تكون واشنطن قادرة على تحمل نتائجه. وهو ما ينطبق على الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، بحيث إن نتنياهو قدر وربما بالتنسيق مع ترمب أن واشنطن قادرة على احتواء نتائج الهجوم ضد دولة حليفة للولايات المتحدة، أو حتى الاستفادة منه.

رويترز
تصاعد الدخان بعد سماع دوي عدة انفجارات في الدوحة، قطر، 9 سبتمبر 2025

أما الآن وبعد تعهد دونالد ترمب بعدم استهداف إسرائيل للدوحة مرة ثانية، فإنه سيكون من الصعب جدا على نتنياهو الإخلال بتعهد ترمب، وإلا يكون قد بالغ بتحدي قوانين اللعبة بينهما. ولكن ما كشفه الهجوم على الدوحة هو أنه لا يمكن تصور وجود أي استراتيجية أميركية للمنطقة معزولة عن الاستراتيجية الإسرائيلية لها، بمعنى أن سعي واشنطن لإرساء "سلام إقليمي" لا يتعارض في عقل إدارة ترمب مع تقويض إسرائيل لأسس هذا السلام سواء في الأراضي الفلسطينية أو في عموم المنطقة، وذلك عائد إلى رؤية ترمب لهذا السلام الذي لا يراه إلا بالقوة. وهذا أخطر تحد تواجهه دول المنطقة لأن هامش الحركة الذي تتيحه واشنطن لإسرائيل غير مسبوق على مرّ تاريخها.

إسرائيل قضت، أو تكاد تقضي على الوضع الناشئ بعد حرب يونيو 1967، والذي أدى إلى صعود التنظيمات المسلحة في وجهها بدلا من الجيوش التي انسحبت من المعركة بعد "النكسة"

في المقابل فإن التفوق التكنولوجي والاستخباري والعسكري الإسرائيلي لا يدع مجالا للشك في تقدير موازين القوى في المنطقة، والتي رسختها حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران في يونيو/حزيران الماضي. بيد أن هذا التوفق الإسرائيلي ليس بلا أثمان على إسرائيل نفسها التي دخلت في حرب مفتوحة لا يبدو أنها تملك استراتيجية خروج منها، ولاسيما في قطاع غزة الذي تواصل الغرق في أوحاله تحت عنوان "النصر المطلق" على "حماس"، والذي لم يعد يعني سوى تدمير غزة على رؤوس أبنائها أو طردهم بالقوة منها، لكن إلى أين، في ظل تشبثهم بأرضهم وتمسك مصر بموقفها الرافض لتهجيرهم؟

ولا شك أن فشل نتنياهو، أو عدم رغبته، في إنهاء حرب غزة بعد سنتين على اندلاعها بدأ يأكل من "إنجازات" إسرائيل الإقليمية سواء ضد "حزب الله" في لبنان أو ضد إيران، خصميها اللدودين. وبالتحديد لناحية صورة إسرائيل حول العالم، وليس قليل الدلالة في هذا السياق إعلان محققي الأمم المتحدة، الثلاثاء، أن إسرائيل ارتكبت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية في غزة بقصد تدمير الفلسطينيين. وفي 12 سبتمبر/أيلول الجاري، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية ساحقة، بلغت 142 صوتا بينهم 25 عضوا من الاتحاد الأوروبي، قرارا يؤيد "إعلان نيويورك بشأن التسوية السلمية لمسألة فلسطين وتنفيذ حل الدولتين" والذي تم تبنيه في يوليو/تموز الماضي، بمبادرة سعودية وفرنسية مشتركة.

رويترز
تعرض الشاشات عدد الأصوات أثناء تصويت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، 12 سبتمبر 2025

صحيح أن هذا القرار قد يصطدم بالفيتو الأميركي داخل مجلس الأمن، ولكنه دليل، ولو متأخر، على التحول الكبير على مستوى العالم في التعامل مع العدوانية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. وهذا تحول لا عودة عنه ويؤسس لتحديات مستقبلية ستواجهها إسرائيل والإسرائيليون على مستوى العالم، وبدأت مؤشراتها بالظهور في الشوارع الغربية منذ الآن. ولكن هذا التحول الدولي إزاء "صورة إسرائيل" يفترض أن تواكبه تحولات عربية في فهم أدوات المواجهة مع العدوانية الإسرائيلية وقبل ذلك في فهم العالم نفسه.

فإسرائيل قضت، أو تكاد تقضي على الوضع الناشئ بعد حرب الأيام الستة في يونيو 1967، والذي أدى إلى صعود التنظيمات المسلحة في وجهها بدلا من الجيوش التي انسحبت من المعركة بعد "النكسة"، ولو أن "حرب أكتوبر" شكلت عام 1973 استثناء مرحليا لم يتكرر. ولا شك أن ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني التاريخي قد قدر مبكرا أن لا أفق للكفاح المسلح في ظل موازين القوى الإقليمية والدولية الراهنة فأخذ خيار "أوسلو". ولكن سواء أصاب في رهانه أم لم يصب، فإن الجواب على "أوسلو" لم يكن إسرائيليا وحسب بقتل إسحق رابين، ومن ثم تقويض الاتفاق من داخله، بل كان إيرانيا أيضا، بدعم طهران منظومة من الميليشيات في غزة ولبنان ومن ثم في سوريا والعراق واليمن، تحت عنوان "محور الممانعة" الذي شكلت دمشق "عقدة الوصل" فيه.

ما جرى وما يجري في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 يفترض أن يدفع إلى إعادة قراءة المشهد الإقليمي وموازين القوى الفعلية التي تحكمه

الآن وبعد سنتين على الحرب الإقليمية التي خاضتها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، يتضح أكثر فأكثر أن هذه الحرب لم تكن سوى جواب إسرائيلي شامل على الوضع الناشئ بعد "نكسة" عام 1967، بمنعى القضاء على كل منظومة الميليشيات القائمة في وجهها، ودفع النظام الإيراني إلى الكف عن دعمها، هذا إذا أغفل احتمال أن تكون الخطة الإسرائيلية-الأميركية تقوم على تدفيع طهران ثمن هذا الدعم بإسقاط نظام الحكم فيها.

ولذلك ثمة سؤال أساسي عما إذا كانت المعادلة الإقليمية والتي فرضتها الحرب الإقليمية الإسرائيلية ستستوعب إيران من دون أذرعها، ما يفرض تحولا أساسيا في سلوكها الإقليمي وفي سياساتها النووية والدفاعية بما يخص منظومتها للصواريخ الباليستية، أم إنها ستدفع في نهاية المطاف إلى إسقاط النظام. وكل هذه الاحتمالات تترك انعكاسات كبيرة على مستوى المنطقة، وبالأخص في لبنان حيث دمرت الحرب قدرات "حزب الله" الأساسية ومع ذلك فهو يتصرف كما لو كان قادرا على إعادة إنتاج نفسه كما كان، وحتى بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي كان يشكل جسر عبور الأسلحة الإيرانية إليه.

أف.ب.
فلسطينيون يتجمعون للبحث عن ناجين في موقع غارة إسرائيلية استهدفت عدة مبان في حي الرمال بمدينة غزة، في 30 أغسطس 2025

لكن بغض النظر عن كل تلك الاحتمالات فإن ما جرى وما يجري في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 يفترض أن يدفع إلى إعادة قراءة المشهد الإقليمي وموازين القوى الفعلية التي تحكمه، بعيدا عن تشويش إيران ووكلائها بشأنهما، فتجربة بناء مقاومة سواء فلسطينية أو لبنانية هي بمثابة جيش مقابل الجيش الإسرائيلي فشلت فشلا ذريعا، ولم يعد من مجال لتكرارها إلا إذا كانت تراود القائمين بها رغبة في الانتحار الجماعي. فما انتهي مع "نكسة" عام 1967 ما عاد في الإمكان إعادة إنتاجه في ظل الظروف الإقليمية والدولة الراهنة، وما انتهى منذ السابع من أكتوبر 2023 ما عاد من الممكن إنتاجه أيضا، ولكن في المقابل فإن ما بدأ منذ السابع من أكتوبر 2023 لناحية التغير الذي طرأ على صورة إسرائيل في العالم، فهو ما يمكن الاستثمار به ودفعه إلى الأمام في معركة سياسية ودبلوماسية وإعلامية وفكرية لن تنتهي بانتهاء الحرب بل يفترض أن تبدأ بوتيرة أعلى وأن تؤسس لوعي عربي جديد، يواكب الوعي العالمي الجديد إزاء "إسرائيل الجديدة".  

font change