مارال دير بوغوسيان تعيد تشكيل بيروت بمزيج من الحزن والفرح

عن معرضها الأخير "سطوح المدينة"

مارال دير بوغوسيان

مارال دير بوغوسيان تعيد تشكيل بيروت بمزيج من الحزن والفرح

بدأت سيرة مارال دير بوغوسيان اللبنانية من أصول أرمنية سيرتها الفنية في بيروت، وتشكل وعيها متداخلا مع مدينة لا تنتهي تحولاتها المرئية وأزماتها الداخلية. رسمت بهوس لا ينتهي مدينتها كضرب من ضروب الحفاظ على الذاكرة الفردية والجماعية على السواء، وكوسيلة لتخطي الحزن الكامن الذي تعايش معه ولا يزال جيل الحرب اللبنانية كقدر لا فرار منه إلا إليه. تعتبر الفنانة أن تبدلا كبيرا طرأ على ملامح بيروت، غير انها حافظت على خاصية التأرجح بين الحزن والفرح، والحرب والسلم، وكأنها الصفة الثابتة في شخصيتها. من هذ المنطلق تدفقت أعمالها التي تناولت المدينة عامة وبيروت خاصة دون كلل أو ملل.

معرض دير بوغوسيان الأخير بعنوان "سطوح المدينة"، يظهر للزائر كيف استمرت الفنانة في تلقي وتشرب صور مدينتها الغزيرة كأنها تراها للمرة الأولى بالدهشة والحب والرغبة نفسها في القبض على الزمن الهارب. من يتابع معارضها الفردية ومشاركاتها في معارض جماعية، سيلاحظ أن الفنانة أدخلت السماء إلى فضاء أعمالها بشكل بارز، أي ليس كعنصر طبيعي وعادي، بل كناطق بأحوال المدينة و"أنفاسها" إذا صح القول.

أزرق الفرح والحزن

يكفي النظر إلى بضع لوحات في المعرض لنرى كيف تحولت السماء في أجزاء منها إلى ما يشبه ستائر شبه شفافة أو أوشحة تحجب بها دير بوغوسيان أجزاء من المدينة عن نظرات مؤذية ما برحت تتجه إليها من كل حدب وصوب. أوشحة بدت في إحدى اللوحات شراعا لمدينة بحرية قادرة على مغادرة شاطئ محبيها. لكن هذا من بعض ما أدخل الحزن إلى معالم لوحاتها. حزن سعت إلى تبديده برفوف العصافير والطيور العابرة سماء العاصمة.

تتحدث الفنانة لـ"المجلة" عن الديناميكية الناشئة ما بين التعبير عن الحزن والفرح، وكيفية تأسيسها لمنطق أعمالها بشكل عام: "المشهد المديني شديد الأهمية بالنسبة إلي، فأنا ابنة المدينة التي لم تغادرها يوما حتى في أحلك الظروف. كل يوم تقريبا، وقبل أن تبدأ الشمس رحلتها إلى المغيب، يحل زمن مختلف أعيشه بحذافيره وبكل ما يفتحه لي من أبواب على عالم من الذكريات الجميلة كوّنتها قبل اندلاع الحرب اللبنانية، وأهم هذه الذكريات كان الفرح في اجتماع العائلة المباشرة والممتدة. هذه الفترة من النهار، أي قبيل المغيب، تعني للكثيرين انتهاء صخب عمل النهار، الذي بطبعه يختلف عن انشغالات الليل، والعودة إلى المنازل والراحة. أما بالنسبة إلي، فهو الوقت الذي أتفرغ فيه للرسم، رسم ما حولي من شوارع ومناطق. أدرك أنني أرسم الكثير من الشرفات التي لا يجلس عليها أحد، ونوافذ لا تطل على مارة في الطرق، وبيوت خالية من أصحابها، لكنها أماكن لا توحي بالحزن بل بالحياة المستترة. هناك الكثير من الفراغ في الظاهر، ولكن هذا لا ينفي حضور الأمل والفرح الذي أشعر به والذي استطعت الحفاظ عليه رغم المآسي التي عرفتها البلاد ورغم الخسارات الشخصية بسبب الحرب".

قبل أن تبدأ الشمس رحلتها إلى المغيب يحل زمن مختلف أعيشه بحذافيره وبكل ما يفتحه لي من أبواب على عالم من الذكريات الجميلة كوّنتها قبل اندلاع الحرب

تتحدث الفنانة عن الفرح الذي سعت لإحضاره إلى قلب لوحاتها، وهو سعي انقاذي في بلد يختبر حربا "لم تعرف حتى الآن كيف تنتهي"، بحسب دير بوغوسيان. ولكن هل حل الفرح فعلا في الأعمال؟ تبقى الاجابة عن هذا السؤال أمرا شخصيا جدا.

من أعمال مارال دير بوغوسيان

ربما سيعثر العديد من الناظرين إلى لوحاتها على تسيد اللون الأزرق بأبعاده النوستالجية من ناحية، ومزاجه "الزوالي"، ربما، من ناحية ثانية على معظم لوحاتها، الحالية منها والسابقة. ففترة العصر وبداية الغروب، لطالما كانت من الأوقات التي يعشقها الفنانون وقد سميت الساعة التي تسبق بداية غروب الشمس بـ"الساعة الذهبية"، لأن نور الشمس حينها يحفر بلطفه الظلال ويلطف الخيالات ويضيء ملامح المرئيات ويكثف خاصية تجاورها البصري الآسر ويذوب كل حد فاصل بين الحزن والفرح.

لوحة لمارال دير بوغوسيان

أما مجموع هذه المميزات البصرية فقادر على محاصرة الناظر إلى اللوحة، التي تنتمي إلى هذه الفترة الزمنية من النهار، بحزن غريب لوحته شمس العصر الذهبية. قد لا يدرك المرء أصول هذا الحزن/الفرح مباشرة، ولكن في تجربة التذوق الفني ليس المرتجى أن يفكك متلقي العمل مشاعره ولا أن يغوص إلى عمق مرجعها كي "يفهم"، فالأهم هو قدرته على التفاعل مع العمل والعثور على صداه في نفسه.

في لوحات مارال دير بوغوسيان يلتقي المشاهد أزرق فرحا إنما مرهون باستعداده له، كما يعثر في لوحاتها على أزرق آخر: أزرق الحزن الدفين الذي يضفي على بعض اللوحات سكونا يكاد أن يكون شللا. وسيكتشف أزرق آخر، رطبا ومزاجيا كأيام الشتاء المشمسة والمخضبة بالغيوم الرمادية. إنه الأزرق الدامع حتى وهو في عز تجاوره مع ألوان أخرى استخدمتها الفنانة ببراعة كالبرتقالي والوردي والأصفر الخردلي.

حياة في الرماد

في مواجهة هذا الحزن المتشعب، يحضر ما يتربص بالحزن، وغالبا ما يتألف من عناصر بصرية خاصة بمدينة بيروت. عناصر تشير إلى حياة أهلها وقدرتهم ورغبتهم في الاستمرار. ومن هذه العناصر، التي لا تخفى على أحد،  مشاهد الأسلاك الكهربائية المتشابكة ما بين الأبنية وأجهزة توليد الكهرباء والأطباق اللاقطة وخزانات المياه على السطوح والغسيل المنشور على الحبال المنصوبة خارج النوافذ وغيرها من العناصر. حول هذه التركيبة الهندسية المميزة لمدينة تعيش موتها وحياتها في آن واحد، تخبرنا الفنانة: "الأبنية المتلاصقة، كثرة النوافذ والشرفات، والسطوح التي تحمل شتى أشكال الأطباق اللاقطة وتمديدات الأسلاك الكهربائية، كلها عناصر تلفت انتباهي وأحب أن أرسمها في لوحاتي على انها جزء من هوية المدينة. تظهر الشوارع في لوحاتي لكنني أركز اليوم أكثر من أي يوم مضى على الباحات والساحات بين الأبنية مهما كانت ضيقة. ما يهمني أيضا هو رسم ضواحي المدينة النابضة بحياة أهلها بعيدا من المناطق الفخمة لأنها الأماكن التي تعج بالحياة وواقع حياة اللبناني ومحاولته ابتكار سبل مختلفة تؤمن له الماء والكهرباء".

يلتقي المشاهد أزرق فرحا إنما مرهون باستعداده له، كما يعثر في لوحاتها على أزرق آخر: أزرق الحزن الدفين الذي يضفي على بعض اللوحات سكونا يكاد أن يكون شللا

قد تكون رغبة الفنانة التي لا تنضب  في رسم بيروت بأبنيتها وساحاتها المتداخلة، هي محاولة ضمنية ومتكررة للوصول إلى معنى ما يلتصق بالمدينة ويحميها من ذاتها ومن أطماع الآخرين. معنى يثبت ولا يتعرض للاهتزاز بين حين وآخر. وكيف لا يكون ذلك محاولة حثيثة منها، وهي فنانة لبنانية عاشت الحرب وذات أصول أرمنية حفظت عن ظهر قلب ما حدث لأجدادها؟ فالخوف خرج من أنفاق مجزرة الأرمن ليصب في حاضر لبنان وعاصمته. إنه خوف استثنائي. خوف متفائل إن كان يمكن قول ذلك، الخوف الذي لا يشل صاحبه بل يدفعه إلى التعلق أكثر باجتراح حلم أو أمل بأيام أفضل. ليس المهم أن يتحقق الأمل ولا أن يبصر الحلم ذاته وقد أصبح في زهوة الحاضر، المهم القبض على الفرح وهو يهم بالرحيل. وعلى الأرجح هذا هو الفرح الذي تتكلم عنه الفنانة وترسمه في لوحاتها.

صورة جوية لبيروت، مشهد عام للمدينة

الأزمات في لبنان لا تزال تتتالى بأشكال متنوعة، وآخرها بالنسبة إلى مارال دير بوغوسيان كان انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، الذي أيقظ في نفسها خوفا عميقا: "في الحرب كنا نسكن في بيروت. فقدنا خلالها أحبة وأقارب وخسرنا بيوتا كما خسر أجدادي بيوتهم وحياتهم. لكن أسوأ ما حدث بالنسبة إلي كان ذلك الانفجار الذي دمر داخل بيتنا بشكل جنوني لم أره من قبل. أعتقد أنني حين أرسم بيوتا وباحات دون كلل فإنني أشعر ضمنا بالخوف على بيتي ومدينتي ووطني. أجدادي لم يتصوروا أنه سيأتي يوم يهتز به لبنان بهذا الشكل ويعود الموت وشبح التهجير القسري من جديد، أسئلة ازدحمت في نفسي وأهمها: هل سأخسر من جديد الذكريات التي شكلتها عبر السنين؟".

من أعمال مارال دير بوغوسيان

تضيف مارال دير بوغوسيان: "هذا الخوف لم ينته. مئات الألوف من الناس تغادر أوطانها في المنطقة وليس فقط في لبنان أملا بعودة قد لا تتحقق... لساعات ولأيام  ولأسابيع أعيش خلال الرسم حالات من  التأمل في لون الحجر وتقلب السماء فوق السطوح وفي الشمس التي تهبط على الباحات بين البيوت. في سياق هذا الوقت، في هذا الوقت تحديدا أعيش الأمل وأتنفس الفرح".

هذا الخوف لم ينته. مئات الألوف من الناس تغادر أوطانها في المنطقة وليس فقط في لبنان أملا بعودة قد لا تتحقق


 ليست مارال دير بوغوسيان الفنانة الأولى ولن تكون الأخيرة في رسم مدينة كبيروت مسكونة بالاحتمالات. مدينة لم تنته من تخريب ذاتها وترميمها، مع، ودون تدخل الآخرين، لكنها حتما من الفنانين الذين صهروا الضجر والخيبة والحزن في مصنع الأمل، ذلك المحفوف دوما بالخطر. 

تقول الفنانة انها في لوحاتها الأخيرة، التي بدت في بعضها طيور الحمام مرفرفة، أرادت أن تخصص النظر للسماء "كنت أريد أن أرتاح قليلا". وقد تجلى ذلك فعلا في لوحاتها.  بالسماء المفتوحة التي بدت منعكسة على الأبنية التي تظللها والعكس، وبالتداخل بين السماء والمدينة والغوص في أعماق ملتبسة للمشاهد المدينية انفتح حقل  البصر نحو تجدد مقبل. فقد أخبرتنا دير بوغوسيان أنها مقبلة على رسم "أعمال تدخل اليها ألوانا إضافية ويجد العنصر البشري فيها دورا واضحا".

font change

مقالات ذات صلة