اغتيال تشارلي كيرك يفتح معركة حرية التعبير في أميركا

أوباما يحذّر: ردّ إدارة ترمب يشكّل أزمة تهدد الديمقراطية الأميركية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
إحياء حفل تأبين للناشط السياسي تشارلي كيرك في حديقة أوريم المركزية في مدينة أوريم بولاية يوتا، في 11 سبتمبر 2025

اغتيال تشارلي كيرك يفتح معركة حرية التعبير في أميركا

واشنطن – كان تشارلي كيرك واحدا من أبرز الوجوه الإعلامية في الحركة المسيحية المحافظة ذات النفوذ الواسع في الولايات المتحدة، وقد لعب دورا محوريا كناشط ومنظم داخل الحزب الجمهوري. إنه شاب يتمتع بقدرات خطابية لافتة، استطاع عبر برنامجه التلفزيوني على إحدى الشبكات المسيحية الأميركية وبودكاسته واسع الانتشار أن يصل يوميا إلى ملايين المشاهدين والمستمعين، ما أكسبه إشادة كبيرة في الأوساط المحافظة.

أدرك كيرك بعمق الإحباطات الاقتصادية التي يعاني منها الشباب الأميركي، واعتبر أن الحزب الديمقراطي يتبنى سياسات تؤدي إلى إحلال المهاجرين محل المواطنين في سوق العمل. كما تحدث بصراحة عن شعور أبناء الطبقة الوسطى بالعجز عن امتلاك منازل أو تأسيس أسر في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. أما مواقفه من قضايا العرق والهويات الجنسية والدور التقليدي للمرأة والحرية الاقتصادية والإسلام والقومية الأميركية فقد أثارت غضبا واسعا لدى اليسار الأميركي.

وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2024، نجح كيرك من خلال منظمته "نقطة تحول" في تعبئة الشباب لدعم حملة ترمب، بهدف تقويض الأجندة الاقتصادية والاجتماعية للحزب الديمقراطي. ووفقا لاستطلاع "AP Votecast"، صوّت 47 في المئة من الناخبين بين 18 و29 عاما لصالح ترمب في الانتخابات الأخيرة، مقارنة بـ36 في المئة فقط في انتخابات 2020، وهو ارتفاع ملحوظ يعكس حجم التأثير الذي مارسه كيرك.

رغم إقرار ترمب بوجود عنف صادر عن اليمين، فإنه برر ذلك بالقول إن العناصر اليمينية تسعى إلى "وقف الجريمة"

وفي 21 سبتمبر/أيلول، شهدت جنازته حضور عدد من كبار مسؤولي إدارة ترمب، في مقدمتهم الرئيس ترمب ونائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الدفاع بيت هيغسيث، إلى جانب شخصيات بارزة أخرى.

رد جمهوري ضد اليسار

وصفت إدارة ترمب تشارلي كيرك بأنه "شهيد القضية المحافظة"، وتعهدت باتخاذ إجراءات صارمة ضد المنظمات اليسارية و"المتطرفين المجانين من اليسار الراديكالي" الذين اتهمتهم باستخدام "خطاب الكراهية" الذي أدى برأيهم إلى مقتل كيرك وهجمات أخرى ضد المحافظين، بمن فيهم ترمب نفسه العام الماضي.

وعلى الرغم من إقرار ترمب بوجود عنف صادر عن اليمين، فإنه برر ذلك بالقول إن العناصر اليمينية تسعى إلى "وقف الجريمة".

أ.ف.ب
الناشط السياسي اليميني تشارلي كيرك وهو يصافح الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال مشاركتهما في فعاليات مهرجان "أمريكا فيست 2024" في فينيكس، أريزونا

أما ستيفن ميلر، أحد أبرز مستشاري ترمب، فقد صرح في 15 سبتمبر/أيلول بأن هناك "شبكة إرهابية محلية واسعة" من الجماعات اليسارية، وأن الإدارة ستستخدم كل أدواتها لتحديد هذه الشبكات وتدميرها من أجل "إرساء الأمن في البلاد". وأضاف أن الحكومة ستصادر أموالهم وسلطاتهم، وإذا خالفوا القانون، فسيزج بأفرادهم في السجون.

إلى جانب محاولات قمع الأفراد والمنظمات التي تنتقد تشارلي كيرك وترمب، أفادت تقارير إعلامية بأن الإدارة الأميركية تعتزم إلحاق ضرر مالي بالمنظمات ذات التوجه اليساري

من المهم التذكير بأن إدارة ترمب كانت قد مارست ضغوطا على الجامعات وشركات المحاماة حتى قبل اغتيال كيرك، بذريعة قضايا تتعلق بحرية التعبير. وبعد الجريمة، أعلنت الإدارة عن مسارين جديدين لمواجهة "اليسار الراديكالي":

أولا: بدأ أشخاص مقربون من الإدارة، بمن فيهم من لهم علاقة مباشرة مع ترمب، بتشجيع المواطنين على تحديد ونشر أسماء الذين عبروا عن فرحهم بمقتل كيرك، أو حتى أولئك الذين انتقدوا مواقفه المثيرة للجدل بدلا من الحداد عليه. وقد نشر هؤلاء بالفعل، ممن لديهم مئات الآلاف من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، أسماء هؤلاء الأشخاص ودعوا الشركات إلى فصلهم من وظائفهم.

وفي تصريح لقناة "فوكس" في 15 سبتمبر، قالت المدعية العامة بام بوندي، وهي من أبرز حلفاء ترمب، إن وزارة العدل ستحقق في التصريحات "الكريهة" التي صدرت بحق كيرك، مؤكدة أن الشركات ملزمة بفصل الموظفين الذين عبروا علنا عن رضاهم بمقتله، بما في ذلك عبر منشورات على وسائل التواصل. كما دعا نائب الرئيس فانس الشركات إلى فصل أي موظف "يتجاوز الخط الأحمر" ويحتفي بأعمال العنف السياسي.

أ.ف.ب
تأبين لتشارلي كيرك في مدينة بوسطن، ماساتشوستس، في 18 سبتمبر2025

ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" في 16 سبتمبر، استجابت أكثر من ثلاثين جهة، من بينها شركات طيران، بورصة ناسداك، فرق رياضية، متاجر تجزئة، وعدد من المؤسسات الحكومية المحلية والفيدرالية، لضغوط نشطاء يمينيين وقامت بفصل موظفين على خلفية هذه التصريحات.

استهداف مالي للمنظمات اليسارية

إلى جانب محاولات قمع الأفراد والمنظمات التي تنتقد تشارلي كيرك والرئيس ترمب بشكل مباشر، أفادت تقارير إعلامية في منتصف سبتمبر بأن الإدارة الأميركية تعتزم إلحاق ضرر مالي بالمنظمات ذات التوجه اليساري، التي تتهمها بأنها تروّج للكراهية والعنف.

وفي 13 سبتمبر، شن الرئيس ترمب بنفسه هجوما على الممول الكبير جورج سوروس، متهما إياه بانتهاك قوانين التمويل الجنائي، وواصفا إياه بأنه "رجل سيئ" يجب أن يسجن، في إشارة إلى مؤسساته التي تمول جماعات ليبرالية تعمل في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما قد تستهدف الإدارة مؤسسة "فورد" الكبرى في نيويورك، التي تدعم مجموعة واسعة من المنظمات الناشطة ذات التوجه الليبرالي، إلى جانب منظمات مؤيدة لفلسطين تجمع التبرعات لدعم نشطاء أميركيين يحتجون على السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. (تقرير صدر في سبتمبر 2025 عن مركز "كابيتال ريسيرش" المحافظ اتهم هذه المنظمات بالمسؤولية عن أعمال عنف وقعت خلال احتجاجات مناهضة لإسرائيل).

التحقيقات لم تجد أي صلة بين المؤسسات اليسارية أو الجماعات الناشطة والمتهم الذي تم توقيفه في ولاية يوتا بتهمة اغتيال تشارلي كيرك

ومن بين التكتيكات المحتملة، وفقا لتقارير إعلامية أميركية، أن تسعى الإدارة إلى إلغاء الإعفاءات الضريبية التي تتمتع بها المؤسسات اليسارية التي تمول جماعات ناشطة. لكن في حال حدوث ذلك، فمن المؤكد أن هذه المؤسسات ستطعن في القرار قضائيا، ما يعني أن تسوية هذه القضايا ستستغرق وقتا. وقد حذر مدير إحدى المؤسسات ذات الميول الجمهورية، في تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 17 سبتمبر، من أن إرساء هذا السلوك كسابقة قانونية قد يفتح الباب أمام إدارة ديمقراطية مستقبلية لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد منظمات تدعم الحركة المحافظة.

ومن بين الخيارات الأخرى التي تدرسها إدارة ترمب، تصنيف بعض المؤسسات على أنها "منظمات إرهابية محلية"، وهو إجراء يمكن تنفيذه عبر أمر تنفيذي من الرئيس. إلا أن خبراء قانونيين خارج الإدارة حذروا من غياب الأساس القانوني الواضح لمثل هذا التصنيف، إذ إن وزارة الخارجية تحتفظ بقائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، بينما لا توجد جهة حكومية مسؤولة عن تصنيف المنظمات الإرهابية المحلية.

أ.ف.ب
النصب التذكاري المؤقت لشارلي كيرك أمام مقر منظمة "تورنينج بوينت يو إس إيه" في 18 سبتمبر 2025 في مدينة فينيكس بولاية أريزونا

وفي تطور لافت، رفعت إدارة ترمب في 16 سبتمبر دعوى قضائية ضد صحيفة "نيويورك تايمز" ومؤلفي كتابين ينتقدان الرئيس، متهمة إياهما بالتشهير غير القانوني، وطالبت بتعويض قدره 15 مليار دولار.

أوباما يحذر من أزمة غير مسبوقة

لا بد من الإشارة إلى أن التحقيقات لم تجد أي صلة بين المؤسسات اليسارية أو الجماعات الناشطة والمتهم الذي تم توقيفه في ولاية يوتا بتهمة اغتيال تشارلي كيرك. ورغم ادعاءات المحافظين بأن اليسار الأميركي مسؤول عن معظم أعمال العنف السياسي في البلاد، فإن ثلاث دراسات حديثة– من بينها واحدة صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وأخرى عن معهد "كاتو" المحافظ الذي لا يدعم الحزب الديمقراطي– أظهرت أن غالبية أعمال العنف السياسي في الولايات المتحدة مصدرها جماعات يمينية متطرفة.

أثارت ردود الفعل العاطفية والحادة عقب اغتيال تشارلي كيرك تساؤلات واسعة في الأوساط الأميركية حول ما إذا كانت البلاد تتجه نحو حرب أهلية جديدة

وفي 16 سبتمبر، حذر الرئيس السابق باراك أوباما من أن البلاد بحاجة إلى وحدة وطنية في أعقاب مقتل كيرك، مشددا على أن تبرير ترمب لأفعال المتطرفين اليمينيين واستهدافه الحصري للمتطرفين اليساريين يفاقم الانقسام الداخلي. وأكد أن التوترات السياسية والاجتماعية التي أعقبت اغتيال كيرك تسببت في أزمة سياسية غير مسبوقة في التاريخ الأميركي.

أما حاكم ولاية بنسلفانيا، جوش شابيرو، الذي يتوقع أن يترشح للرئاسة في عام 2028، فقد صرح في 15 سبتمبر بأن على قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي أن يدينوا جميع أشكال العنف السياسي، رافضا بذلك موقف ترمب الذي يحمّل اليسار المتطرف وحده مسؤولية العنف.

حدود حرية التعبير في الولايات المتحدة

ينص التعديل الأول للدستور الأميركي على منع الكونغرس من إصدار أي قانون يقيّد حرية التعبير، إلا أن إدارة ترمب ستسعى في الأشهر المقبلة إلى إعادة تعريف هذه الحرية ووضع حدود جديدة لها. ويتفق خبراء القانون على أن التعديل الأول يضمن حتى الخطاب الكريه أو المرفوض من غالبية المجتمع، ما دام لا يحرض على العنف بشكل مباشر. لكن التحريض على العنف يعد غير قانوني وفق شروط محددة. فبموجب قرار المحكمة العليا الصادر عام 1969، لا يعتبر الخطاب المحرض على العنف جريمة إلا إذا تضمن هدفا محددا– كشخص أو مؤسسة– وزمانا محددا لتنفيذ الفعل. وقد سمح ذلك القرار لأعضاء من جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية بالدعوة إلى العنف ضد الأميركيين السود بشكل عام دون مساءلة قانونية.

أ.ف.ب
مواطنة تزور النصب التذكاري المؤقت لشارلي كيرك أمام مقر منظمة "تورنينج بوينت يو إس إيه" في مدينة فينيكس، أريزونا، في 18 سبتمبر 2025

اليوم، يصر كثيرون من اليسار الأميركي على أن انتقاد آراء تشارلي كيرك المثيرة للجدل لا يرقى إلى مستوى التحريض على قتله. أما الإشادة باغتياله، فرغم أنها تعتبر سلوكا مرفوضا أخلاقيا من قبل غالبية الأميركيين، فإنها تبقى قانونية بحسب خبراء القانون. وفي حال مضت إدارة ترمب في خطواتها الرامية إلى سحب الإعفاءات الضريبية من المنظمات اليسارية أو تصنيفها كمنظمات إرهابية، فإن ردود الفعل السياسية والقانونية ستكون سريعة وحادة. وقد تراهن الإدارة على الأغلبية المحافظة في المحكمة العليا لتحقيق غلبة قانونية في هذا المسار.

هل تتجه الولايات المتحدة نحو حرب أهلية جديدة؟

أثارت ردود الفعل العاطفية والحادة عقب اغتيال تشارلي كيرك تساؤلات واسعة في الأوساط الأميركية حول ما إذا كانت البلاد تتجه نحو حرب أهلية جديدة.

فالنائبة الجمهورية البارزة مارجوري تايلور غرين جدّدت دعوتها إلى تقسيم الولايات المتحدة إلى دولتين: واحدة للولايات "الحمراء" ذات الأغلبية الجمهورية، وأخرى للولايات "الزرقاء" ذات الأغلبية الديمقراطية. لكن الجغرافيا، وتداخل المجتمعات الحمراء والزرقاء داخل معظم الولايات، إلى جانب انتصار الرئيس أبراهام لينكولن في الحرب الأهلية عام 1865، تجعل من هذا السيناريو شبه مستحيل حتى الآن. كما أن احتمالات ظهور ميليشيات حمراء وزرقاء لا تزال ضعيفة.

من المرجح أن يستوحى مزيد من أعمال العنف من قبل أفراد غير مستقرين نفسيا، سواء عبر تفجيرات أو إطلاق نار، في الأسابيع والأشهر المقبلة

وفي مقال نشر في 14 سبتمبر في مجلة "جاكوبين" اليسارية، أكد الكاتبان بن بورغيس وميغان داي أن ظهور ميليشيات مسلحة سيضر باليسار الأميركي، لأن المحافظين أكثر تفوقا في القوة المسلحة، ما يعني أن أي مواجهة عنيفة ستصب في صالحهم. ورغم أن الولايات المتحدة قد تتجنب سيناريوهات مشابهة للجزائر أو سوريا في الوقت الراهن، فإن التراجع الحاد في مركزية الخطاب السياسي، وغياب المبادرات العابرة للانقسام الحزبي، يفاقم الأزمة. ومن اللافت أن سبعة فقط من أصل 213 نائبا ديمقراطيا في مجلس النواب حضروا مراسم تأبين كيرك في مبنى الكابيتول في 15 سبتمبر.

وتؤجج وسائل التواصل الاجتماعي هذا الانقسام. فالنشطاء من كلا الطرفين ينشرون تعليقات استفزازية لجذب المتابعين وزيادة التفاعل، إذ بات ذلك مصدر دخل لكثيرين. وقد توقفت شركات مثل "ميتا" و"إكس" عن مراقبة هذا النوع من المحتوى، نظرا لزيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون على منصاتها، وارتفاع عائدات الإعلانات. وغدا هؤلاء المؤثرون على المنصات الرقمية فاعلين رئيسين في صياغة الخطاب السياسي الأميركي، وبعضهم– مثل المؤثرة المحافظة لورا لوومر– يمارس تأثيرا مباشرا على سياسات ترمب.

وبفعل اللغة المتعالية والهجمات العنيفة على وسائل التواصل، من المرجح أن يستوحى مزيد من أعمال العنف من قبل أفراد غير مستقرين نفسيا، سواء عبر تفجيرات أو إطلاق نار، في الأسابيع والأشهر المقبلة. ولا تلوح في الأفق أي بوادر لتحالف سياسي يجمع اليمين واليسار لصياغة ميثاق وطني يحدد السلوك المقبول في الحياة السياسية الأميركية، ويعزل الخطاب المتطرف.

يبقى أنه في ظل غياب قواعد متفق عليها، وانعدام الالتزام بتحسين الخطاب العام، فإن الأزمة السياسية في الولايات المتحدة مرشحة لمزيد من التفاقم.

font change

مقالات ذات صلة