لبنان... السلاح واستحالة إحياء معادلة آفلة

ليس من قبيل الصدف أن تجري همسا وعلنا، وتحت القصف الإسرائيلي، أحاديث عن "الصيغة"

رويترز
رويترز
الرئيس اللبناني جوزيف عون وعقيلته يصلان لحضور الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، 23 سبتمبر 2025

لبنان... السلاح واستحالة إحياء معادلة آفلة

دخل لبنان دائرة المراوحة من جديد والتي لن يخرجه منها إلا حدث دراماتيكي آخر شبيه بالعملية الإسرائيلية الموسعة ضد "حزب الله" منذ عام بالتمام، ولكنها عملية مستبعدة نسبيا أمام تقدم احتمال تجدد الهجوم الإسرائيلي-الأميركي ضد إيران، والذي ستتوقف عليه الإجابة عن سؤال ما إذا كان النظام الإقليمي الجديد يحتمل إيران الراهنة، أم إن أحد شروطه هو قيام إيران جديدة، وكل ذلك يحدد مصير "حزب الله" وليس مواقف أمينه العام ورئيس كتلته النيابية وهي جزء من المراوحة اللبنانية.

تلك المراوحة التي كان أحدث مؤشراتها كلام المبعوث الأميركي توماس باراك عن أن الحكومة اللبنانية لا تفعل إلا الكلام، وكأن الإدارة الأميركية وفريقها للشرق الأوسط ولبنان لا يعلمون حقيقة الأوضاع في لبنان وأن الجيش غير قادر على جمع سلاح "حزب الله" أو نزعه، وأنه لا يمكن توفير أي غطاء سياسي من أي جهة كان لمثل هذا الإجراء مهما ارتفع سقف التصريحات وعلت الأصوات وبثت الدعاية الداعمة للسلطة الجديدة في لبنان، والتي لا تعمل كعقل واحد وكجسم واحد، مثل سائر السلطات التي تعاقبت على حكم لبنان ولم تحكمه بالفعل، وأقله منذ عام 1969 تاريخ توقيع اتفاقية القاهرة التي أتاحت حرية الحركة للمنظمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية بغطاء مصري أمنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل وقت قصير من وفاته.

العامل الأساسي في المشهد اللبناني الراهن هو تمتع إسرائيل بحرية حركة في الأجواء اللبنانية تقصف أينما تشاء ومن تشاء دون أدنى رادع لا من سلاح "حزب الله" ولا من أميركا

لكن ثمة فارق أساسي بين ذاك التاريخ واليوم، وهو أنه وكما أتاح اتفاق القاهرة حرية الحركة للمنظمات الفلسطينية فإن اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أتاح حرية الحركة لإسرائيل، في مسار انقلابي على مرحلة بأكملها لا في لبنان وحسب بل في المنطقة بأسرها امتدت لنحو 55 عاما. لكن مع ذلك فإن كلام باراك غير دقيق لناحية أن الأمور في لبنان لا تقاس بالأفعال وحسب بل بالكلام أيضا وهو ما يصطلح على تسميته بالسردية، إذ إن قرار الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة ليس قرارا تفصيليا بل هو أيضا انقلاب على مرحلة بأكملها كان سلاح "حزب الله" يحظى فيها بغطاء رسمي فقده الآن وإن كان يحاول الالتفاف على الواقع الجديد، ولكنه هو أيضا مغلول اليدين وينتظر متغيرات إقليمية لمصلحته لا يبدو أنها ستأتي، في ظل   ابتعاد الاتفاق بين إيران وأميركا أكثر من أي وقت مضى، وحتى لو كان هناك احتمال ضئيل لمثل هذا الاتفاق فهو سيشمل تقليم أظافر إيران الإقليمية حكما، وهو ما سيطبق على "حزب الله" قبل غيره.

رويترز
يسير الناس على طول شارع في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في بيروت، لبنان، 22 سبتمبر 2025

إذن العامل الأساسي في المشهد اللبناني الراهن هو تمتع إسرائيل بحرية حركة في الأجواء اللبنانية تقصف أينما تشاء ومن تشاء دون أدنى رادع لا من سلاح "حزب الله" ولا من أميركا الراعية الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار. لا بل إن واشنطن وعلى لسان باراك نفسه قد تنصلت لمرتين حتى الآن من ضمان عدم تنفيذ إسرائيل هجمات في لبنان، مرة خلال زياراته المكوكية إلى لبنان عندما قال إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تملي شيئا على إسرائيل، والمرة الثانية أمس الاثنين، وبطريقة غير مباشرة، عندما قال إن "حزب الله" يعيد بناء قوته وإنه "عدونا وإيران عدوتنا ونحن بحاجة إلى قطع رؤوس هذه الأفاعي ومنع تمويلها". وهذا كلام ينطوي على ضوء أخضر أميركي لإسرائيل لتواصل فعل ما تفعله في لبنان، خصوصا أن باراك قال إن أميركا لن تتدخل لمواجهة "حزب الله" سواء من خلال "قواتنا أو القيادة المركزية الأميركية". وهو ما يعني أن التدخل هو من جانب إسرائيل كما يحصل كل يوم منذ 27 نوفمبر الماضي.

أوساط قريبة من "حزب الله" تتحدث عن أن استمرار هذا الوضع سيؤدي في نهاية المطاف إلى إحباط في بيئة "الحزب"، ولكنه إحباط خال من أي معنى سياسي ما دام الجميع مسلم بالوضع القائم

لكن الموقف الإسرائيلي معروف والموقف الأميركي أيضا، وكلاهما في وضع مريح في لبنان، مع الأخذ في الاعتبار تسليم واشنطن أمر لبنان إلى إسرائيل، أي إنها لن تنخرط فيه كما لو أنه أولوية مطلقة بالنسبة إليها. غير أن السؤال هو عن موقف "حزب الله" الذي يتصرف على قاعده أنه قادر حتى الآن على تحمل تكلفة الهجمات الإسرائيلية المتواصلة ضده، ولكن إلى متى؟ وهل يمكنه الاستمرار في تبرير عدم قيامه بأي رد تحت حجة الالتزام بوقف إطلاق النار وتحميل الحكومة اللبنانية مسؤولية وقف الهجمات الإسرائيلية؟

أوساط قريبة من "حزب الله" تتحدث عن أن استمرار هذا الوضع سيؤدي في نهاية المطاف إلى إحباط في بيئة "الحزب". ولكنه إحباط خال من أي معنى سياسي ما دام الجميع مسلم بالوضع القائم كما لو أنه قدر محتوم أو أنه أقل وطأة من عملية إسرائيلية موسعة جديدة. لكن هذا التفكير اليائس لا يطرح أسئلة سياسية وحسب بل أسئلة أخلاقية أيضا. فإذا كان "حزب الله" يظن أنه قادر على تحمل أعباء الهجمات الإسرائيلية، فبأي حق يحمّل هذه الأعباء للمدنيين، كما حصل عندما سقطت عائلة بكاملها كانت بجوار عنصر في "حزب الله" استهدفته مسيرة إسرائيلية؟

أي أسئلة من هذا النوع ستواجه حكما بتهمة تبرئة إسرائيل من إجرامها، ولكن هذا الدفاع لا ينم عن دافع أخلاقي مقابل بقدر ما ينم عن تجنب الإجابة وتسويفها وإغراق الأسئلة الملحة ببحر من الأدبيات الفارغة. والأدهى أن كل هذه الاتهامات تنم عن محاولات مستمرة للهيمنة على الفضاء العام السياسي والإعلامي، والتي لم يسلّم بها "حزب الله" على الرغم من هزيمته التي يواصل نكرانها بينما تزداد وضوحا. والأدهى أيضا أن نائبا في "حزب الله" عجز عن فتح ملف فساد واحد في لبنان بعدما وعد بقلب الطاولة على الفاسدين يتحدث الآن عن "إسرائيل الكبرى" بوصفها تهديدا حقيقيا للبنان تنبغي مواجهته. فمن يفشل في تفكيك واقع بسيط نسبيا، مثل سائر السياسيين اللبنانيين، يريد تفكيك واقع معقد كـ"إسرائيل الكبرى" تتداخل فيه خلفيات تاريخية واستراتيجيات دولية ودعايات سياسية، وفوق ذلك كله قوة تكنولوجية صاعدة فضحت "حزب الله"، بل المنطقة بأكملها.

إذا كان رفض "حزب الله" تفكيك سلاحه جنوبي الليطاني بخلاف ما وافق عليه في اتفاق وقف إطلاق النار، هو الذريعة التي تتمسك بها تل أبيب لمواصلة قصفها في لبنان، فما ذريعة "حزب الله" للتمسك بسلاحه

تجاوزا، فإذا كان رفض "حزب الله" تفكيك سلاحه جنوبي الليطاني بخلاف ما وافق عليه في اتفاق وقف إطلاق النار، هو الذريعة التي تتمسك بها تل أبيب لمواصلة قصفها في لبنان، فما ذريعة "حزب الله" للتمسك بسلاحه إذا كان غير قادر على استخدامه الآن بينما إسرائيل تقصف داخل الأراضي اللبنانية؟ طبعا "حزب الله" لا يجد نفسه مضطرا للإجابة عن هكذا سؤال، فهو عوض أن يجيب على أسئلة لبنانية ملحة من هذا النوع، يذهب لطرح مبادرات ذات طابع إقليمي لا يمكن فهمها، في السياق الحالي، إلا بوصفها امتدادا لسياسة إيرانية، بما يدفع إلى السؤال عما إذا بقيت أي هوامش لبنانية لـ"الحزب" بعدما اغتيل أمينه العام السابق حسن نصرالله، وهو سؤال كان وليد جنبلاط قد سبق الجميع إلى طرحه.

أ ف ب
أشخاص يتفقدون حطام سيارة أُصيبت في اليوم السابق بغارة إسرائيلية بطائرة مسيرة، في بنت جبيل، جنوب لبنان، في 22 سبتمبر 2025. وقُتل خمسة أشخاص على الأقل في الغارة التي وقعت في 21 سبتمبر

كل ذلك يمثل المعضلة اللبنانية الراهنة، في بلد معلق على حبال الهواء، من شماله إلى جنوبه، بين الفقر والقصف والخواء السياسي من جانب "حزب الله" وخصومه على حد سواء، وذلك في ظل فوضى إقليمية عارمة ليست سوى نتيجة لـ"الفوضى الخلاقة" التي مثلت عنوان الاستراتيجية الأميركية لعقود خلت، ولكنها وصلت إلى ذروتها الآن، وما الأحداث بعد السابع من أكتوبر 2023 إلا محاولة أميركية وإسرائيلية مشتركة لضبط هذه الفوضى بعدما خرجت عن السيطرة. ولذلك هناك صعوبة كبيرة بل استحالة للعودة إلى الوراء، لا من قبل "حزب الله" ولا من قبل إيران، ولا من قبل أي طرف في المنطقة يفضل العودة إلى الوضع السابق. خصوصا أن أي قوة في المنطقة لا تمتلك أدوات هذه العودة في ظل التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي. علما أن الاتفاق الدفاعي السعودي-الباكستاني هو من العلامات الرئيسة للوضع الإقليمي الجديد وليس العكس.

ومرة أخرى فإن أي كلام من هذا النوع يواجه بتهم الاستسلام للأجندات الأميركية والإسرائيلية، ولكن أصحاب هذه التهم التي كان النظام الأسدي السوري مدرسة فيها، لا يجيبون عن سؤال كيف سيواجهون هذه المخططات بعدما تبين أنهم مخترقون حتى العظام ومن جانب إسرائيل قبل غيرها. أما بالنسبة إلى السلاح فليس من قبيل الصدف أن تجري همسا وعلنا، وتحت القصف الإسرائيلي، أحاديث عن "الصيغة" في لبنان، أي حصص الطوائف في تركيبة السلطة، وهذه المرة من خلال الربط بين سلاح "حزب الله"، وحصة الكتلة الشيعية في النظام السياسي... وهذا يحدد وظيفة السلاح ويجيب عن سؤال الذريعة التي يتمسك بها "حزب الله" للاحتفاظ بسلاحه ما دام لا يستطيع استخدامه ضد إسرائيل!

font change