السودان... بلد الاحتمالات المخيفة 

رئيسان وحكومتان وعاصمتان

إيرين بلاسكو
إيرين بلاسكو

السودان... بلد الاحتمالات المخيفة 

الإخفاقات في مسار إنهاء الحرب في السودان تتوالى، إخفاقات لم ينجُ منها حتى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يسعى للفوز بجائزة نوبل للسلام. والفشل المتكرر وإطالة عمر الحرب وضعا البلد الأفريقي الغني بالموارد الطبيعية أمام سيناريوهات مفتوحة على خيارات مريرة وخطيرة، والتي من بينها أن لا يكون السودان كما كان في خريطة العالم قبل اندلاع حرب 15 أبريل/نيسان 2023، التي دخلت عامها الثالث بخطى حثيثة.

والمفارقة أنه في كل صباح خلال الشهور الماضية، يضاف عنصر جديد للأزمة يدفعها بعيدا عن الحل، ويقربها من أن تصبح أزمة دائمة ومنسية، بمستقبل قاتم، والنموذج الأفضل لما سبق ما جرى في يوليو/تموز الماضي عندما وجد السودانيون أنفسهم محكومين بحكومتين لكل منهما رئيس سيادة ورئيس وزراء وعاصمة، الأولى في أقصى شرق البلاد في بورتسودان والثانية في أقصى غرب البلاد في نيالا. وكلتا الحكومتين تدعي الشرعية، ومع كل هذا الحراك تظل الحرب هي هاجس السودانيين الأكبر، وينتظرون المخلص منها بعد أن عجزت الإرادة الداخلية عن ذلك، إرادة متحاربين وقوى سياسية ومجتمع مدني.

في المفاوضات السابقة في "جدة-1" و"جدة-2" التي عقدت في 2023، وفي سويسرا والمنامة في 2024 لم تتوصل المفاوضات إلى نتائج بينما فشل اجتماع واشنطن بشأن الأزمة السودانية في أن ينعقد

آخر محطات الفشل

في وقت متأخر من مساء 29 يوليو/تموز 2025 تلقى قطاع واسع من السودانيين خبر إلغاء اجتماع الرباعية بإحباط كبير وبما يشبه الصدمة، والرباعية تضم المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات العربية والولايات المتحدة الأميركية، وسبب الصدمة التعويل الكبير على الدول الأربع في حل الأزمة وهي دول ذات نفوذ وتأثير كبير على المشهد السوداني، كل من زاويته وعلاقته مع طرف من أطراف الحرب. لذا كان ظن المراقبين أن اجتماع الرباعية في واشنطن سيكون المحطة الأخيرة للأزمة أو على الأقل بداية حقيقية للحل، وهذا اليقين استند إلى معطيات موضوعية ورغائبية في آن واحد، في مقدمة الموضوعي سياسة ترمب التي اتبعها في حسم الحروب في العالم، وخاصة إيقافه للحرب بين إسرائيل وإيران، وما جرى في النزاع بين الهند وباكستان وبين أرمينيا وأذربيجان، وطريقة التعامل مع ملفات شائكة في غزة والحرب الأوكرانية–الروسية.

 أما التدخل الأميركي الذي أسهم في إنهاء النزاع الطويل بين الكونغو ورواندا فقد نظر إليه السودانيون على أنه اهتمام من إدارة ترمب بالشأن الأفريقي وبالذات عندما سأل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو مساعده للشؤون الأفريقية مسعد بولس بعد توقيع وثيقة الحل بين الكونغو ورواندا عن الملف التالي الذي يشغل بال إدارته ويجيب مسعد بطريقة دراماتيكية بأنه "السودان". كذلك جاء اجتماع الرباعية في واشنطن بعد إهمال طويل للملف السوداني على مستوى العالم والإقليم.

إيرين بلاسكو

أما الرغائبي فينحصر في رغبتهم بعدم تمدد الصراع، الذي بات مهددا لوجودهم في رقعة جغرافية واحدة فضلا عن المعاناة التي خلفها وصنفت على أنها الأولى عالميا في هدر كرامة الإنسان. وفي المفاوضات السابقة في "جدة-1" و"جدة-2" التي عقدت في 2023، وفي سويسرا والمنامة في 2024 لم تتوصل المفاوضات إلى نتائج بينما فشل اجتماع واشنطن بشأن الأزمة السودانية في أن ينعقد.

عمدت "قوات الدعم السريع" على تأمين ظهر قواتها والحفاظ على خطوط الإمداد الغربية التي تعول عليها بشكل كامل في مدها بالسلاح والمقاتلين معا

الجيوش... تموضع سياسي

من المهم النظر إلى تطورات المعارك الأخيرة بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" على الأرض، والتي بدأت تتماشى مع ترتيبات سياسية لا يمكن إغفالها، وخاصة بعد خروج "قوات الدعم" من ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم في منتصف مارس/آذار 2025، وأشار مراقبون وخبراء عسكريون وقتها إلى سيطرة الجيش على ولايات الوسط الحيوية على أنها قاصمة وسطرت نهاية "قوات الدعم". إلا أنه وبعد أسابيع قليلة تبين أن "قوات الدعم" أعادت تموضع قواتها في الأقاليم الغربية، في إقليم دارفور تحديدا وأجزاء واسعة من كردفان، وسيطرت على الحدود الغربية ونقاط حدودية في الجنوب الغربي، وأمن الحدود الشمالية الغربية بعد أن دحرت قوات الجيش والقوات المشتركة التي تقاتل إلى جانبه من منطقة المثلث التي تربط بين السودان ومصر وليبيا.

وباختصار، عمدت "قوات الدعم السريع" على تأمين ظهر قواتها والحفاظ على خطوط الإمداد الغربية التي تعول عليها بشكل كامل في مدها بالسلاح والمقاتلين معا، وسرعان ما أشعلت "قوات الدعم" المناطق الفاصلة بين أقاليم غرب السودان وأقاليم الوسط وتحولت إلى مناطق عسكرية ساخنة، تكبد فيها الجيش والقوات المشتركة (قوات مكونة من جيوش الحركات المسلحة الدارفورية تقاتل إلى جانب الجيش) خسائر فادحة، وباتت مهددة للمدن في شمال كردفان ومدن وسط وشمال السودان مستفيدة من حماية ظهر قواتها.

وفي المقابل نشط الجيش في بسط سيطرته على وسط السودان والإقليم الشمالي والشرقي، وعمل على إعادة مظاهر الاستقرار في العاصمة الخرطوم والمدن الكبرى التي كانت في قبضة "قوات الدعم". ووفقا لهذا التموضع العسكري بات ينظر إليه على أنه مقدمة لتقسيم السودان غربا تحت سيطرة "قوات الدعم" حيث نفوذه الاجتماعي والقبلي، وشرقا تحت سيطرة الجيش حيث سيطرة الحكومات المركزية تاريخيا.

خضعت حكومة "تأسيس" بقيادة محمد التعايشي إلى محاصصات قبلية وجهوية مستندة إلى التشكيلات العسكرية المقاتلة إلى جانب "الدعم السريع"

وزادت مخاوف هذا التقسيم للدرجة التي ينظر فيها الكثيرون على أنه واقع لا فكاك منه بعد إعلان "قوات الدعم" حكومة أطلق عليها حكومة "تأسيس" بقيادة قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقائد الحركة الشعبية "شمال" التي تسيطر على أجزاء واسعة من جنوب كردفان نائبا له، واختيار رئيس وزراء لها هو القانوني محمد حسن التعايشي من أبناء دارفور.

وفي المقابل أعلن قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن تشكيل حكومة مدنية أطلق عليها اسم "حكومة الأمل" ورئيس وزرائها هو كامل إدريس خبير المنظمات الدولية من أبناء الولاية الشمالية.

حكومات تحت سلطة الجيوش

المشترك بين "حكومة الأمل" برئاسة كامل إدريس تحت سلطة الجيش، و"حكومة تأسيس" برئاسة محمد حسن التعايشي تحت سلطة "قوات الدعم" أن ولادتهما كانت شديدة التعثر، وكلاهما إدريس والتعايشي لم يتمكن من إكمال تشكيل الوزارة بعد شهور من تسميته رئيسا للوزراء.

وقطعاً المشترك الأبرز بين الحكومتين، أنهما تحت قيادات عسكرية لها الكلمة العليا في المشهد ولها طموح سياسي واقتصادي غير محدود يصعب معه ترك الأمور في هذه اللحظة للمدنيين منفردين مهما كانت درجة ولائهم، وتجلى هذا بشكل مباشر في حكومة كامل إدريس منذ لحظة تشكيل الوزارة، إذ فرض الجيش وزراء الدفاع والداخلية وتمسكت الحركات المسلحة التي جاءت إلى السلطة بعد اتفاق سلام جوبا الذي أبرم خلال الفترة الانتقالية وتقاتل اليوم إلى جانب الجيش، تمسكت بالمناصب التي كفلها لها اتفاق السلام، وأفشلت الحركات وعد كامل إدريس بتشكيل الوزارة من "تكنوقراط" لهم كفاءة علمية وعملية وتخصص، عندما فرضت وزراء لا علاقة لهم بالحقائب التي تولوها.

غيتي
ناجون من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة "قوات الدعم السريع"، يستريحون قرب بلدة طويلة في إقليم دارفور، السودان في 13 أبريل 2025

وفي الواقع خرج الخلاف إلى السطح بين إدريس والحركات المسلحة وتداولته وسائل الإعلام ولكنه انتهى لصالح الحركات التي لوحت بالانسحاب من المعارك حال لم تنفذ مطالبها، ومصادر عليمة أكدت أن الخلاف حسم بتدخل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وبسبب بيئة الحرب التي تشكلت فيها الحكومة يعجز كامل إدريس لشهور عن إكمال الوزارات وخاصة وزارة الخارجية، وتراجع عن وزير الثروة الحيوانية بعد تعيينه الأمر الذي أظهر الحكومة مرتبكة قبل مباشرة مهامها.

وفي المقابل، خضعت حكومة "تأسيس" بقيادة محمد التعايشي إلى محاصصات قبلية وجهوية مستندة إلى التشكيلات العسكرية المقاتلة إلى جانب "الدعم السريع" وعلى ثقل أبناء القبائل في أرض المعركة، وتجلى ذلك في تحالف القيادة الذي أعلن برئاسة قائد "الدعم السريع" محمد حمدان حميدتي وسمي قائد جيش الحركة الشعبية عبد العزيز آدم الحلو نائبا له، ويصنف جيش الحركة الشعبية أكبر الجيوش المتحالفة مع "الدعم السريع" وفضلا عن ذلك فإن الحركة الشعبية ذات تأثير سياسي يفوق تأثير "قوات الدعم". من واقع تبنيها خطاب التهميش من وقت مبكر ومطالبتها بحكم علماني ينهي التمييز الديني بين السودانيين ويعترف بالتنوع الأفريقي العربي في البلاد.

التطورات الميدانية والسياسية في حرب السودان تكرس لتقسيم وتشظي البلاد يوما بعد يوم، وفعليا وصل الأمر إلى إدارتين متصارعتين على النفوذ والشرعية

الشرعية وشبح التقسيم

منازعة حكومة الأمر الواقع في بورتسودان الشرعية هي السبب الرئيس وراء تشكيل حكومة "تأسيس" في مناطق سيطرة "قوات الدعم". واستفادة "تأسيس" من أخطاء إدارية وقعت فيها حكومة بورتسودان قبل تشكيل حكومة رئيس الوزراء المعين كامل إدريس، عندما استبدلت العملة في محاولة حرمان أفراد "قوات الدعم" من التمتع بالأموال التي نهبت من الخرطوم في شهور الحرب الأولى، لكنها أهملت المواطنين في مناطق "قوات الدعم". ولم تحرص على وصول العملة الجديدة إليهم، بل وحذرت من تبادل العملة بين المنطقتين خلال فترة استبدال العملة التي حددها البنك المركزي، ومنعت أيضا إصدار أوراق ثبوتية لمجموعات قبلية من دارفور وفشلت في إجراء امتحانات الشهادة القومية للطلاب في مناطق سيطرة "قوات الدعم" وميزت الطلاب في مناطقها بأن مضوا في دراستهم.

وفي الحقيقة، فإن احتكار الجيش بقيادة البرهان الحديث باسم حكومة السودان في المحافل الإقليمية والدولية وخاصة في غرف المفاوضات أمر مقلق لقيادة "قوات الدعم" ومؤيديه من الحركات المسلحة والقوى السياسية التي انضمت إلى تحالف "تأسيس" ويظهر ذلك كلما كانت هناك دعوة إلى مفاوضات، وتشكلت "تأسيس" للمنازعة في الشرعية في المقام الأول، وخاصة أن كلا من الجيش و"قوات الدعم" كانا شركاء في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الذي قوض حكومة الفترة الانتقالية، وحكما عبر انقلاب عسكري فاقد للشرعية.

ومن الواضح أن الطريق ليس سهلا أمام حكومة "تأسيس" التي تعمل على تشكيل حكومة من العدم خلافا لحكومة "الأمل" بقيادة كامل، الذي وفر له الجيش غطاء معقولا لكون أنه الجيش الرسمي، ويحظى بدرجة من التأييد من بعض دول الإقليم، وبالذات من الدولة المتمسكة بدعم مؤسسات الدولة الرسمية، ومع ذلك لن تعجز "تأسيس" عن فرض وجودها في الواقع استنادا إلى سلاح "الدعم السريع" وفي مناطق سيطرته، ودورها المفصلي والحتمي في إيقاف الحرب وإحلال السلام كطرف حقيقي في المعركة على الأرض.

المجتمع الدولي وتدارك الخطر

التطورات الميدانية والسياسية في حرب السودان تكرس لتقسيم وتشظي البلاد يوما بعد يوم، وفعليا وصل الأمر إلى إدارتين متصارعتين على النفوذ والشرعية، وتتجه الأوضاع للخروج عن سيطرة المتحاربين،  في ظل إخفاقات متوالية للمجتمع الدولي وضعف إرادة في تدارك الخطر الذي سيلقي بظلال سالبة على المنطقة والسلم والأمن العالميين في وقت ليس بالبعيد وفقا لتسارع الأحداث، وبذكر الإرادة الدولية يظل منبر جدة التفاوضي منفردا بتحقيق اتفاق وإن كان لم يجد حظه في التنفيذ، وهزم اتفاق المنامة بسبب السرية التي اكتنفته، وغاب ممثلو الجيش في مفاوضات سويسرا التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية.

هناك إجماع على أهمية الحراك الداخلي الفاعل من السودانيين أنفسهم وخاصة من القوى المدنية الداعمة لوقف الحرب ووحدة السودان، والعودة للحكم المدني الديمقراطي

أما مجموعة الرباعية فقد ظهرت تباينات في رؤية الدول المكونة لها في أطراف التفاوض وتسمياتهم ومصاحبة التفاوض السياسي وإدارة مرحلة ما بعد الحرب مع عملية وقف إطلاق النار، وأول ما ظهر الخلاف في مؤتمر لندن بشأن السودان في 16 أبريل/نيسان 2025 بدعوة من وزارة خارجية المملكة المتحدة وحضور أوروبي وأفريقي عالي المستوى ومشاركة دول الرباعية.

أ.ف.ب
احتفال في بلدة صالحة، جنوب أم درمان، بعد يومين من استعادتها من "قوات الدعم السريع"، السودان في 22 مايو

ولم يفلح المؤتمر في إصدار بيان ولم يحدث اختراق محسوس رغم الحضور الدولي الرفيع، وشهدت قضية السودان تجاهلا في ظل احتدام المعارك في مناطق شمال كردفان واحتدام حصار الفاشر، إلى أن تمت الدعوة إلى مؤتمر الرباعية في واشنطن والذي عول عليه السودانيون كثيرا.

في المقابل، تسبب إلغاؤه المفاجئ والغامض بإحباط عام في حلول المجتمع الدولي، على الرغم من أن السفير المصري في واشنطن تحدث عن مساعٍ لإقامة المؤتمر مرة أخرى في سبتمبر/أيلول، إلا أن هناك إجماعا على أهمية الحراك الداخلي الفاعل من السودانيين أنفسهم وخاصة من القوى المدنية الداعمة لوقف الحرب ووحدة السودان، والعودة للحكم المدني الديمقراطي بعد أن انحازت قوى سياسية إلى طرفي الحرب في حكومتي "الأمل" و"تأسيس".

وهذا ما يستوجب التحرك نحوه عاجلا حتى لا يستعصي حل الأزمة السودانية وتلحق بأزمات تطاولت في المنطقة وتفقد الأطراف في الرباعية وفي غيرها مصالحها في البلد الغني بالموارد والذي يحتل موقعا جيوسياسيا بالغ الأهمية.

وفي حال استمرت حالة ضعف الإرادة الدولية في حل الأزمة وتكررت الخيبات والاجتماعات، سيكتب التاريخ أن صراع المصالح والنفوذ الإقليمي والدولي وضع بلدا اسمه السودان في مهب الريح وتحت احتمالات التشظي المخيفة.

font change