"عودة" توني بلير... هل يضيف بعض الواقعية لخطط ترمب في غزة؟https://www.majalla.com/node/327546/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D9%86%D9%8A-%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%B1-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%B6%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%B7-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9%D8%9F
إذ تتصاعد الضغوط الدولية لوقف الحرب في قطاع غزة، برز اسم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في صدارة المقترحات السياسية، بعدما كشفت تقارير صحافية عن مبادرة يقودها لتولي إدارة انتقالية في قطاع غزة عقب انتهاء المعارك، في إطار خطة تحظى بدعم شخصيات مقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
بحسب صحيفة "التلغراف" ومجلة "الإيكونوميست"، عرض بلير (72 عاما) ترؤس حكومة انتقالية في غزة على أن تُسلَّم الإدارة في النهاية إلى السلطة الفلسطينية، التي كانت تدير القطاع حتى عام 2006. وتنص الخطة، حسب التقارير، على أن المرحلة الانتقالية لن تشمل أي تهجير للفلسطينيين، بل تقوم على إنشاء هيئة مؤقتة باسم "السلطة الانتقالية الدولية لغزة" تشرف عليها الأمم المتحدة لعدة سنوات قبل نقل الحكم إلى السلطة الفلسطينية بعد إدخال إصلاحات جوهرية عليها.
وأفادت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" بأن "السلطة الانتقالية" ستُعتبر "السلطة السياسية والقانونية العليا لغزة خلال المرحلة الانتقالية". ويفترض أن تضم ممثلا فلسطينيا واحدا على الأقل، إلى جانب مسؤولين أمميين وخبراء اقتصاديين عالميين، و"تمثيلا قويا لأعضاء مسلمين"، فيما قالت "الإيكونوميست"، إن الفكرة استندت إلى تجارب سابقة في تيمور الشرقية وكوسوفو، مع احتمال أن تتخذ "السلطة الانتقالية" من مدينة العريش المصرية مقرا لها. كما تنص الخطة على إعادة توحيد الضفة الغربية وغزة قبل تسليم الأراضي للسلطة الفلسطينية، وسط خطط من حكومة بنيامين نتنياهو لضم الضفة لـ"وأد" مشروع "حل الدولتين" بعد تنامي الاعترافات الدولية بدولة فلسطين وتعهد ترمب أمام قادة عرب بمنع حصول ذلك.
كيف بدأ الحديث عن عودة بلير؟ في 27 أغسطس/آب، شهد البيت الأبيض اجتماعا ضم الرئيس ترمب ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، بمشاركة صهر الرئيس جاريد كوشنر. وكان الهدف المعلن للاجتماع بحث الوضع في غزة. وأكد مسؤولون في البيت الأبيض لوكالة "رويترز" أن الجلسة تناولت مختلف جوانب الملف، من تكثيف إيصال المساعدات الغذائية وأزمة الرهائن إلى مستقبل القطاع بعد الحرب.
وذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" (3 سبتمبر/أيلول) أن بلير– الذي أمضى أشهرا في إعداد خطة لغزة ما بعد الحرب– قال لترمب إن سكان القطاع "يتوقون لقيادة جديدة ويحلمون بأن تصبح غزة دبي القادمة". على أن الصحيفة لم تفصح عن مصادرها، واللقاء جرى بطبيعة الحال خلف أبواب مغلقة.
أما صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية فكانت قد ذكرت في وقت سابق من يوليو/تموز أن موظفين من "معهد توني بلير" شاركوا في مشروع قادته مجموعة "بوسطن للاستشارات" بهدف تحويل غزة إلى مركز تجاري إقليمي بعد النزاع. بلير كان قد دعا منذ 2006 إلى تنمية غزة، لكن من دون أن يطالب بإبعاد الفلسطينيين عنها. ولهذا يؤكد "معهد توني بلير" أن موظفيه لم يكتبوا أو يصوغوا أو يؤيدوا أي خطة تنطوي على ترحيل سكان القطاع.
من المنصف القول إن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي سبق له أن جرّ بلاده إلى حرب العراق غير القانونية، يواجه انتقادات واسعة. كما أن فترته اللاحقة كمبعوث لـ"اللجنة الرباعية" في الشرق الأوسط اعتُبرت على نطاق واسع فاشلة
المفاجئ، في المقابل، أن "مجموعة بوسطن للاستشارات" حرصت بدورها على التبرؤ من أي خطط لتفريغ القطاع من سكانه، وهي نفسها التي أسهمت في إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي تسببت في مقتل مئات الفلسطينيين الجائعين أثناء اصطفافهم في طوابير المساعدات. وفي يونيو/حزيران أنهت المجموعة عقدها مع المؤسسة. وفي 10 يوليو/تموز، كتب مديرها التنفيذي كريستوف شفايتسر إلى "فايننشيال تايمز" نافيا أن تكون شركته قد صاغت خطة لإعادة توطين الفلسطينيين أو تقاضت أموالا مقابل ذلك.
"لا صحة لأي من هذه المزاعم. وينبغي أن نوضح أن قلة قليلة من موظفينا قد تورطت في هذا العمل، ولم يكن عليهم فعل ذلك. بل إننا أُبلغْنا من الشريك الرئيس صراحة بعدم القيام بأي نشاط يتعلق بإعمار غزة. المشروع كان خارج معايير عملنا المقبولة. ولكن جرى تجاهل التعليمات، ونفذ العمل سرا على أي حال. وقد فتحنا تحقيقا في مايو/أيار كشف عن نمط من المخالفات لدى الشريكين المعنيين، فجرى إنهاء خدمتهما".
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس خلال لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في عمان، 13 يوليو 2025
أما الرئيس الأميركي، على خلاف آخرين سعوا جاهدين إلى النأي بأنفسهم عن مثل هذه المخططات، لم يكلّف نفسه أي قدر من التحفظ. ففي فبراير/شباط، كشف عن مقطع مصمم بتقنية الذكاء الاصطناعي يصور رؤيته لـ"ريفييرا غزّة". تزدان بناطحات سحاب متلألئة وتمثال ذهبي عملاق يجسد صورته. وبينما كان يسترسل في التأمل، وصف غزّة بأنها "كانت على الدوام سيئة الحظ"، وأن مجرد وجودها "لم يكن أمرا جيدا"، مؤكدا أنه لا ينبغي أن يُعاد بناؤها أو يُعاد شغلها من قبل "الأشخاص أنفسهم الذين عاشوا هناك، وقاتلوا هناك، وماتوا هناك، وعاشوا حياة بائسة هناك". ورغم ارتباك عباراته وتكرارها، كان المغزى جليا: سكان القطاع الحاليون لن يكونوا جزءا من أي عملية إعادة إعمار. لأنهم سيكونون قد أبيدوا أو أجْلُوا.
وذكر ترمب أن جميع من تحدث إليهم "يحبون فكرة أن تمتلك الولايات المتحدة تلك القطعة من الأرض، وتطورها، وتنشئ آلاف الوظائف فيما سيكون أمرا رائعا في منطقة رائعة فعلا". لقد كانت هذه كلمات رجل عقارات بالفطرة، وكلماته تعبر عن ذلك تماما. وقد وصفت صحيفة "هآرتس" الفكرة بأنها "خطة ترمبية للثراء السريع يعتمد على جرائم الحرب والذكاء الاصطناعي والسياحة".
أما جاريد كوشنر، صهر ترمب، فأحد العارفين بعالم العقارات، ويقال إنه على علاقة جيدة بتوني بلير، ويشاركه أسلوبه الباهت الخالي من المضمون. فعندما تمت مقابلته في منتدى بكلية هارفارد كينيدي، تحدث عن الإمكانات "الثمينة" للممتلكات المطلة على الواجهة البحرية في غزة، واقترح أن تنقل إسرائيل المدنيين من القطاع إلى صحراء النقب جنوب البلاد، بعد تسويتها بالجرافات، تمهيدا لتطويرها.
أما الشخصية العقارية الثالثة خلف هذا الحديث الحماسي عن "غزة التي تشبه الخليج" فهو صديق ترمب في رياضة الغولف والمبعوث الأميركي الحالي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي أعلن أن الولايات المتحدة تعد خطة "شاملة للغاية" لليوم التالي بعد الحرب. وفي مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز"، قال إنه يعتقد أن الحرب في غزة يمكن أن تنتهي خلال الأشهر الأربعة المقبلة، مضيفا: "سوف ننهي هذا الأمر بطريقة أو بأخرى، ولكن قبل نهاية هذا العام بالتأكيد".
فما الذي تفكر فيه هذه "الترويكا العقارية"؟ في 2 سبتمبر/أيلول 2025، ذكرت صحيفة "إندبندنت" أن خطة إعادة إعمار غزة بعد الحرب ستتضمن دفع مبلغ خمسة آلاف دولار للفلسطينيين في القطاع مقابل مغادرتهم "طوعا".
ترمب خلال استقباله نتنياهو على مأدبة عشاء في البيت الأبيض، واشنظن في 7 يوليو 2025
ويقترح "صندوق غزة للتعمير والتسريع الاقتصادي والتحول"، المعروف اختصارا بـ"غريت"، تقديم مبالغ مالية لمليوني شخص يعيشون حاليا في القطاع مقابل إعادة توطينهم في دول أخرى أو مناطق آمنة، ضمن صفقة تشمل أيضا منحهم إعانات تغطي إيجار السكن لمدة أربع سنوات إضافة إلى تموين غذائي لسنة واحدة.
وبعد رحيل السكان، يقترح الصندوق الذي ستديره الولايات المتحدة إزالة الأنقاض وبناء ما بين ست إلى ثماني "مدن ذكية وحديثة مدعومة بالذكاء الاصطناعي"، تتضمن مجمعات سكنية زجاجية متعددة الطوابق، وحدائق عامة، و"منتجعات عالمية" تمتد على طول الشاطئ المتوسطي، إلى جانب مصانع للسيارات الكهربائية ومراكز بيانات. ولا تكتمل الصورة– بالطبع– من دون ملاعب غولف.
ولن ينفذ المشروع بتمويل مباشر من الحكومة الأميركية، بل من خلال استثمارات مشتركة من القطاعين العام والخاص، مع احتفاظ إسرائيل بـ"حقوقها التي تشمل تلبية احتياجاتها الأمنية" فيما يخص غزة، على أن يتولى مواطنو دول ثالثة وشركات عسكرية وأمنية خاصة "غربية" الإشراف على الأمن الداخلي إلى حين تدريب قوة شرطة "محلية" تكون مؤهلة لتسلم المهمة.
ووجّهت صحيفة "الغارديان" البريطانية انتقادا لاذعا للخطة، بلغ حد السخرية الصريحة، حين وصفت المقترح بأنه "خيال جامح" وكتبت أن "المخطط الذي يحمل العنوان الفرعي "من وكيل إيراني مدمر إلى حليف إبراهيمي مزدهر" هو نتاج أيدٍ تفتقر إلى أي معرفة مباشرة بغزة، ولا تمتلك فهما لسياسات الشرق الأوسط، ولا تقديرا لحجم العقبات الهائلة الكامنة في محاولة تحويل هذا الجيب المنكوب إلى مركز سياحي وتكنولوجي بمليارات الدولارات، سيتحول لا محالة– إن تحقق– إلى منافس لإسرائيل".
رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في إحدى جلسات الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس، في 22 يناير 2025
وأضافت الصحيفة: "لكن التفاصيل الصغيرة هي التي تحمل الإدانة الأكبر، فالخطة لا تعترف بأي سيادة مستقلة لغزة، ولا تميز بينها وبين إسرائيل أو مصر، ما يعكس تجاهلا لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ووفق الخطة، ستحتفظ إسرائيل بحقوق شاملة، ولكنها غامضة، في غزة (لتلبية احتياجاتها الأمنية). لن تكون هناك دولة فلسطينية، بل مجرد كيان فلسطيني يدمج في اتفاقيات إبراهام التي يرعاها ترمب". ("الغارديان"- 1 سبتمبر)
ويقال إن مخطط "صندوق غريت" قد وُضع منذ أبريل/نيسان الماضي، بمشاركة إسرائيليين عملوا مع الولايات المتحدة ومع "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة من إسرائيل، والتي توزع الغذاء في القطاع حاليا. ويدّعي معدو الخطة أنهم استلهموا تصميمها من إعادة تشكيل باريس في القرن التاسع عشر على يد جورج-أوجين هوسمان، الذي هدم مساحات واسعة من قلب العاصمة الفرنسية لفتح شوارع طويلة ورحبة. كان هدفه تحديث المدينة، لكنه سعى أيضا لتسهيل مراقبتها والسيطرة على ثوراتها المتكررة، إذ جعلت هذه الشوارع العريضة بناء المتاريس أكثر صعوبة.
ولكن لدى واضعي مخطط "غريت" خطة أفضل للتعامل مع "المتمردين" من خطة هوسمان، وهي ببساطة إزالتهم. وفي ذلك قال فيليب غرانت، رئيس منظمة "ترايال إنترناشيونال" السويسرية: "إن هذه الخطة في جوهرها مخطط للترحيل الجماعي متنكر في ثوب التنمية. والنتيجة؟ حالة نموذجية لجرائم دولية على نطاق هائل: نقل قسري للسكان، هندسة ديموغرافية، وعقاب جماعي".
ومؤسسة "ترايال" واحدة من خمس عشرة منظمة حذرت في وقت سابق من أن المقاولين الخاصين الذين يعملون في غزة بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية يواجهون خطر "المساهمة أو التورط في جرائم بموجب القانون الدولي، بما في ذلك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية"، وهو ما قد يعرضهم لمسؤولية قانونية في عدة ولايات قضائية.
ووفق رئيسها، فيليب غرانت، فإن "المتورطين في التخطيط وتنفيذ مثل هذا المخطط– بما في ذلك الشركات الكبرى– قد يواجهون مسؤولية قانونية لعقود قادمة."
ومن المنصف القول إن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي سبق له أن جرّ بلاده إلى حرب العراق غير القانونية، يواجه انتقادات واسعة. كما أن فترته اللاحقة كمبعوث لـ"اللجنة الرباعية" في الشرق الأوسط اعتُبرت على نطاق واسع فاشلة.
من الإيجابي أن البيت الأبيض استعان بتوني بلير. فهو يمتلك خبرة عميقة في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تفتقر إليها إدارة ترمب، ويدرك أن الطريق الوحيد للخروج من هذا الوضع يمر عبر التعاون مع الدول العربية، وهو ما يستلزم تقديم أفق سياسي للفلسطينيين
ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أنه يستحق بعض حسن الظن. فقد أشاد اللورد ريكتس، الرئيس الأسبق للجنة الاستخبارات المشتركة خلال ولاية بلير، بجهوده قائلا: "من الإيجابي أن البيت الأبيض استعان بتوني بلير. فهو يمتلك خبرة عميقة في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تفتقر إليها إدارة ترمب، ويدرك أن الطريق الوحيد للخروج من هذا الوضع يمر عبر التعاون مع الدول العربية، وهو ما يستلزم تقديم أفق سياسي للفلسطينيين".
واللافت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت– المعروف بانتقاده الشديد لحرب إسرائيل في غزة وعدم تردده في اتهام حكومتها الحالية بارتكاب جرائم حرب– كرر هذا الموقف. إذ قال لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن بلير وكوشنر "يمكن أن يكونا مفيدين جدا، وداعمين، وعارفين بخفايا الأمور، ربما أكثر من معظم المستشارين الآخرين الذين يعملون مع الرئيس ترمب حاليا، بسبب نقص خبرة هؤلاء".
وتُظهر مراجعة سريعة لموقع "معهد بلير" بشأن غزة أنه يلتزم بدعم "حل الدولتين" ويركز على تحسين أوضاع الفلسطينيين. كما أجرى المعهد في مايو/أيار استطلاعا لآراء الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، أظهر أن سكان غزة، عندما طُلب منهم تخيّل مستقبل منطقتهم واختيار الدول التي يفضلون أن تشبهها، اختاروا الإمارات بنسبة 27 في المئة، تلتها تركيا بنسبة 15 في المئة، ثم سنغافورة بنسبة 14 في المئة، والسعودية بنسبة 12 في المئة.
هذا السجل قد يساعد في تحسين صورة بلير لدى بعض المراقبين الذين يتبنون الرؤية المتفائلة للورد ريكتس. غير أن التاريخ يذكّر بأن توقعات مشابهة رافقت دور بلير قبيل غزو العراق.