في اليوم العالمي للترجمة... أي مستقبل ينتظر المترجم البشري؟

بين دقة الخوارزمية وروح الإنسان

Lina Jaradat
Lina Jaradat
اليوم العالمي للترجمة

في اليوم العالمي للترجمة... أي مستقبل ينتظر المترجم البشري؟

مع تسارع التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية الكبرى، لم يعد قطاع الترجمة في منأى من التأثيرات التقنية التي تغير طبيعة العمل وفرصه، لا بل كان هذا القطاع في صدارة القطاعات التي ألقت التقنيات الجديدة بظلالها عليها. ويحتدم الجدال اليوم في شأن ما إذا كانت هذه الثورة التقنية مجرد محطة تطورية جديدة من محطات الترجمة الآلية التي بدأت على نطاق محدود في سبعينات القرن العشرين، وما برحت تتطور، أم أنها هذه المرة تمثل تهديدا وجوديا لدور المترجم البشري.

قبل فترة قصيرة، نظم "معهد اللغويين المجازين" في المملكة المتحدة، ندوة حضرها نحو 300 مترجم عبر الإنترنت، انقسمت آراؤهم في استطلاع للرأي بين من رأوا في هذه الأدوات فرصة لزيادة الإنتاجية والنهوض بالقطاع، وبين من أعربوا عن توجسهم في شأن مستقبلهم المهني في ظل هذا التحول المتسارع.

كما اشتكى عدد من المترجمين من تراجع فرص العمل وتنامي الضغوط على الأجور، إذ يجدون أنفسهم أمام مساومات غير مسبوقة من العملاء الذين يقترحون إدماج هذه الأدوات لتوفير الوقت والتكلفة. ينطبق هذا بشكل خاص على شريحة المترجمين المستقلين، الذين يشكلون النسبة الكبرى من العاملين في المجال.

على الجانب الآخر، يؤكد كثيرون أن للمترجم البشري دورا لا يمكن الاستغناء عنه، انطلاقا من خبرته الثقافية وقدرته على صوغ النصوص بروح وحساسية قد تعجز عنهما الخوارزميات. كما يثير آخرون مسألة حماية البيانات في مجالات حساسة، فضلا عن الطابع الذي "يخلو من الروح" للترجمة الآلية، خصوصا حين يتعلق الأمر بالنصوص الأدبية كالشعر والرواية والمسرح.

"موت المؤلف" يقصد تحرير النص من سطوة المؤلف المباشرة وليس إلغاء دوره الإبداعي، بينما يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى "موت فعلي" للمؤلف وذاتيته الإبداعية – كاظم جهاد


انطلاقا من هذه الإشكاليات، التمسنا آراء كوكبة من المترجمين العرب في شأن هذه التحولات الجذرية من خلال محاور عدة: تأثير الذكاء الاصطناعي المباشر على عملهم اليومي، وتجاربهم الشخصية مع هذه الأدوات، مقارنة بالترجمة البشرية. كما تناولنا التأثير المهني والاقتصادي من حيث تغير طبيعة الطلب وضغوط الأسعار، فضلا عن الجوانب الثقافية والأدبية المتعلقة بقدرة الآلة على تحسس الروح الأدبية والأبعاد الثقافية ودقائقها. وأخيرا، حاولنا أن نستشرف معهم مستقبل المهنة والمهارات اللازمة لبقاء المترجمين فاعلين في هذا العصر.

 REUTERS/Dado Ruvic/Illustration/File Photo
رسالة "الذكاء الاصطناعي" مع لوحة مفاتيح وأيادٍ روبوتية في صورة توضيحية، 27 يناير 2025

كاظم جهاد: في "جائحة" الذكاء الاصطناعي

يتناول المترجم العراقي المقيم في فرنسا كاظم جهاد إشكالية الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في الترجمة والكتابة، في سياق الإشكالية العامة للتكنولوجيا التي توقف عندها مفكرون كبار مثل مارتن هايدغر وجاك دريدا وبول فيريليو، مما يعطي الأزمة بعدا فلسفيا يتجاوز الجانب التقني المحض، بحسب ما يقول. ويسلط الضوء على أن العينات المولدة آليا في مختلف أشكال الكتابة، بما فيها الشعر والترجمة، تكشف عن نواقص كبيرة تفرض تدخلا بشريا حاسما للتدقيق والتنقيح.

في التحليل الأدبي، يلاحظ جهاد أن النصوص المولدة تعيد إنتاج الكليشيهات والصورة النمطية، بينما تفتقر النصوص التحليلية إلى العمق والدقة، متكئة على التعابير الجاهزة والمعالجات التقريبية. وهذا يقوده إلى التساؤل الجوهري عن إمكان الثقة بهذه النصوص في المجالات الإبداعية التي تتطلب "ذاتية مخصوصة ولا-وعيا إبداعيا"، ويقودنا من ثم إلى التساؤل الذي يطرحه مشيرا إلى أن المترجم بدوره يضفي حساسيته الفريدة على النص مع احترامه لخصوصية المؤلف الأصلي. يقول جهاد: "ألا يمكننا قول الشيء نفسه عن المترجم أيضا، الذي كلما ترجم، مهر "جسد" اللغة بحساسيته الخاصة في الوقت نفسه الذي يسعى فيه إلى التقاط خصوصيات مؤلف النص الأصلي، ما يدعى "غرابته"؟".

من حق المترجم اختيار الأدوات والإستراتيجيات التي يجدها مناسبة لعمله دون تدخل من أحد – بثية الإبراهيم


ويستحضر جهاد مفهوم "موت المؤلف" لرولان بارت، موضحا أن بارت قصد به تحرير النص من سطوة المؤلف المباشرة وليس إلغاء دوره الإبداعي، بينما يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى "موت فعلي" للمؤلف وذاتيته الإبداعية.

أما في الجانبين التربوي والمعرفي، فيحذر جهاد من "جائحة" الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الأوساط الأكاديمية، إذ أصبح الطلبة يستخدمونه بشكل متزايد في إعداد الأبحاث والترجمات، مما يهدد التأسيس المعرفي الحقيقي. ويؤكد جهاد أن القيمة تكمن في الجهد الذهني الذي يبذله المتعلم، لا في النتائج الجاهزة.

ويخلص كاظم جهاد إلى أن الخسارة على مستوى عمق الأفكار وأصالة التعبير تفوق بكثير المكاسب الوقتية، داعيا إلى تأمل عواقب هذه الظاهرة على الهوية الإبداعية والمعرفية للإنسان.

بثينة الإبراهيم: أداة بحث متطورة

تبدو المترجمة السورية المقيمة في الكويت بثينة الإبراهيم متفائلة بحذر تجاه الذكاء الاصطناعي، مشيرة إلى أنها استعانت به في نطاق محدود جدا لا يتعدى كونه أداة بحث متطورة، أشبه باستخدامها لمحرك "غوغل" في البحث عن معلومات أو فهم عبارات بلغات قديمة كاللاتينية. وتوضح أن هذا الاستخدام يقتصر على المرحلة التمهيدية للترجمة، حيث تساعدها هذه الأدوات في الحصول على خلفية سريعة عن الموضوع، لكنها تعود دائما إلى المصادر البشرية والمراجع المعتمدة للتحقق من الدقة.

shutterstock
كاتبة شابة تعمل على حاسوبها المحمول في منزلها أثناء عملية إبداعية.

وتؤكد بثينة الإبراهيم أنها لم تلحظ أي تأثير للذكاء الاصطناعي على عملها في الترجمة الأدبية، إذ لا يزال الإقبال كبيرا على الترجمات البشرية. كما تشير إلى أن دور النشر التي تتعامل معها لم تفرض عليها استخدام هذه الأدوات أو تمارس أي ضغوط أسعار مرتبطة بها، بل إن بعضها يصر صراحة على خلو الأعمال المقدمة من أي استخدام للترجمة الآلية، حرصا على الجودة والأصالة.

الترجمة البشرية قائمة على الانزياح عن النص الأصلي وليس المطابقة الحرفية. وهذا ما يجعل الترجمة الأدبية البشرية المجال الأكثر صمودا أمام الغزو الآلي – محمد آيت حنا 


وتستبعد الإبراهيم أن تحل الآلة محل الإنسان في الأعمال الإبداعية، مستشهدة بتجربتها الأخيرة في "تهشيم اللغة العربية" لتناسب صوت شخصية روائية، معتبرة أن مثل هذه المغامرات اللغوية لا يستطيع الذكاء الاصطناعي خوضها. وتصف الترجمة الحاسوبية بأنها "باردة" وتتعامل مع النص كمعادلة رياضية، وتضيف: "الترجمة الأدبية تحتاج إلى قلب ينبض باللغة، وأذن موسيقية تلتقط إيقاع النص، وهذا ما تفتقر اليه الآلة تماما".

وتختم بثينة برسالة مختصرة لزميلاتها وزملائها في اليوم العالمي للترجمة: "طوبى لكم!"، مؤكدة أن إتقان اللغة يبقى سلاح المترجم الأهم في كل العصور، وأن التحدي الحقيقي ليس في منافسة الآلة، بل في تطوير الذات والغوص في أعماق اللغة لإنتاج ترجمات تليق بالأعمال الإبداعية.

محمد آيت حنا: البشر هم المؤولون الأعظم

يقدم المترجم المغربي محمد آيت حنا رؤية متوازنة لتأثير الذكاء الاصطناعي، معتبرا إياه أداة مساعدة جدا في المهام المساندة، من قبيل نسخ النصوص المصورة والمقارنة بين النصوص الأصلية والمترجمة، مما يوفر وقتا كبيرا كان يستهلك في أعمال روتينية. ويشير إلى أن هذه الأدوات أصبحت تشكل "عضوا جديدا في فريق العمل" لا غنى عنه للإسراع في إنجاز المهام التحضيرية وما بعد الترجمة.

shutterstock
عدسة مكبرة تركز على كلمة "ترجمة " محاطة بلغات عالمية مختلفة، ترمز للتعدد اللغوي وتطبيقات الترجمة بالذكاء الاصطناعي.

لكنه يميز بين المستويين الشخصي والعام: فبينما يساهم الذكاء الاصطناعي في تطوير الممارسة الترجمية على المستوى الفردي، يشكل تهديدا وجوديا للمهنة جمعاء إذا تشبع السوق بترجمات آلية. "فالتهديد واقعي وملموس، عدد المترجمين يتناسل والأعمال الترجمية تتوالد، ولو طبع القارئ مع هذه الترجمات، واقتنعت بها دور النشر، نستطيع أن نقول لمهنة المترجم السلام"، ويضيف أن أكبر خطر هو "تطبيع القارئ مع لغة الآلة" مما قد يؤدي إلى فقدان الحساسية اللغوية تدريجيا.

الآلة تظل عاجزة عن مجاراة المترجم البشري في مجالات مثل الأدب والنقد والفلسفة، خاصة عند الترجمة إلى العربية، بسبب ضحالة قاعدة البيانات الثقافية المتاحة للآلة – حسام موصللي


ويحذر آيت حنا من الطبيعة "الخداعة" للذكاء الاصطناعي، ذلك أنه ينتج نصوصا براقة تخفي افتقارها للفهم التأويلي، معتبرا أن الترجمة البشرية قائمة على الانزياح عن النص الأصلي وليس المطابقة الحرفية. وهذا ما يجعل الترجمة الأدبية - في نظره - المجال الأكثر صمودا أمام الغزو الآلي، لأنها "ضرب من إعادة الخلق وليس النقل الآلي".

ويشير آيت حنا إلى انقسام محتمل في سوق العمل بين مترجمين معتمدين ومترجمي ذكاء اصطناعي، متوقعا اختفاء فعل الترجمة التقليدي لتحل محله نصوص تترجم آليا عند تأليفها. وينتهي إلى نظرة فلسفية تستحضر فكرة أن حتى هذه المحاورة قد تكون من إنتاج الذكاء الاصطناعي، في إطار تحول ثقافي أشمل "يجب أن نكون واعين بأخطاره وأبعاده".

ويتمنى آيت حنا سنة سعيدة لزملائه الذين يصفهم بـ"المؤولين الأعظم للنصوص!" موجها إليهم النصيحة بالتكيف مع الأدوات الجديدة مع الحفاظ على مشاريعهم التأويلية الفريدة، معتبرا أن كل مترجم يمثل "نسخة غير قابلة للتقليد". ويختتم بالقول: "علينا أن نتعامل مع هذه الأدوات كما نتعامل مع النار: نستخدمها لطبخ طعامنا، لا لحرق بيوتنا".

حسام موصللي: الذكاء الاصطناعي عاجز أمام الفلسفة والأدب

يقدم المترجم السوري المقيم في السويد حسام موصللي رؤية دقيقة لتأثير الذكاء الاصطناعي، مؤكدا أن تأثيره يتفاوت بحسب مستوى تعقيد النص. فيذكر أن الأدوات تفيد في النصوص الإجرائية أو القانونية، حيث يتحول دور المترجم إلى "مشرف" يصحح ويراجع، لكنها تعجز تماما أمام النصوص الفلسفية أو الأدبية المعقدة، بل إن إحدى هذه الأدوات نصحته ذات مرة بالاستعانة بـ"مترجم بشري" لترجمة نص فلسفي كثيف.

ويشير موصللي إلى أن هذه الأدوات سيف ذو حدين: قد تسرع العمل لكنها تزيد ضغوط الأسعار، خاصة في ظل غياب تنظيم مهني قوي في العالم العربي. كما يؤكد أن الطلب على الترجمة البشرية تراجع وتغيرت طبيعته، ما انعكس سلبا على الدخل والفرص. وقد لاحظ تحولا ملحوظا في طلبات العملاء الذين أصبحوا يفضلون النصوص المترجمة آليا ثم مراجعتها بشريا بأسعار مخفضة.

دور المترجم قد ينحصر في "التحرير الثقافي" الذي تعجز عنه الآلة، خاصة في المجالات الإبداعية كترجمة الشعر، حيث تبقى البلاغة والإحساس حكرا على الإنسان – نوف الميموني

وفي الجانب الثقافي، يعبر موصللي عن قلقه من أن يؤدي الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي إلى تحويل العقل البشري نفسه إلى آلة، مفتقدا الأصالة. ويؤكد أن الآلة تظل عاجزة عن مجاراة المترجم البشري في مجالات مثل الأدب والنقد والفلسفة، خاصة عند الترجمة إلى العربية، بسبب ضحالة قاعدة البيانات الثقافية المتاحة للآلة وعدم قدرتها على فهم السياقات التاريخية والاجتماعية المعقدة.

REUTERS/Robert Pratta
معهد بول بوكوز – طالب يستخدم مترجم إلكتروني

وفي رؤيته للمستقبل، يتوقع موصلي أن يتحول دور المترجم إلى "مشرف" على الترجمة أكثر من كونه منفذا مباشرا لها. وينصح زملاءه بالتمسك بقيمة المهنة النبيلة والسعي نحو التنظيم الجماعي، مستذكرا كيف كان المترجمون يكافؤون بوزن كتبهم ذهبا في عهد هارون الرشيد، داعيا إلى إحياء هذا التقدير لمهنة كانت ولا تزال جسرا بين الحضارات.

نوف الميموني: الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل المهنة

تقدم المترجمة السعودية نوف الميموني رؤية واقعية لا تتفق مع مزاعم طمأنة الخبراء، فترى أن جميع المهن – ومنها الترجمة – تتأثر لا محالة بالتقدم التقني، خاصة مع قدرة الآلة اليوم على إخراج ترجمة كتاب كامل في دقائق. وتؤكد أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة جامدة، بل هو نظام يتعلم ويتطور مع كل معالجة للنصوص، مما يجعله قادرا على إتقان الترجمة في المستقبل القريب، خاصة في المجالات التقنية والعلمية ذات اللغة الموحدة.

وتتنبأ الميموني بأن دور المترجم قد ينحصر في "التحرير الثقافي" الذي تعجز عنه الآلة، خاصة في المجالات الإبداعية كترجمة الشعر، حيث تبقى البلاغة والإحساس حكرا على الإنسان. لكنها تذكر بأن هذا الاستثناء لا ينطبق على مجالات أخرى واسعة كالترجمة الطبية والعلمية والقانونية، التي قد تشهد تحولا جذريا لصالح الآلة، ما لم يسارع المترجمون إلى تطوير مهاراتهم في هذه التخصصات.

دور النشر والمؤسسات الثقافية الكبرى لا تزال تعتمد بشكل أساسي على المترجم البشري، خاصة في مجالات الشعر والرواية التي يعجز فيها الذكاء الاصطناعي – عماد الأحمد

وتشير إلى أن أكبر تحد يواجه المهنة هو "وهم الكفاءة" الذي تخلقه الترجمة الآلية، حيث تبدو النصوص سليمة ظاهريا لكنها تفتقر إلى الدقة والعمق. وتنصح المترجمين الشباب بعدم الاكتفاء بالترجمة السطحية، والغوص في التخصصات الدقيقة التي تتطلب فهما ثقافيا وعلميا عميقا، كما تحثهم على تعلم أدوات الذكاء الاصطناعي ليس كمنافس، بل كمساعد يمكن توظيفه لتحسين الجودة والإنتاجية.

عماد الأحمد: المترجم البشري سيغدو ذواقا ثقافيا في المستقبل

ينظر المترجم السوري عماد الأحمد إلى الذكاء الاصطناعي على أنه "فرصة هائلة" تحمل تأثيرا كبيرا على المهنة، مؤكدا أن التأقلم مع الأدوات الجديدة هو شعار المترجم الذكي. ويرى أن هذه الأدوات تسهل العمل عبر اختصار الوقت والجهد، لكنه يحذر من مغبة الإغفال عن المراجعة الدقيقة، لأن "إغماضة عين واحدة" كفيلة بتغيير المعنى كله. ويضيف: "لقد أصبحت عملية المراجعة والتدقيق أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق، فالأخطاء التي ينتجها الذكاء الاصطناعي غالبا ما تكون خفية وتتطلب وعيا لغويا حادا لاكتشافها".

ويشير الأحمد إلى تحول جذري في سوق العمل، حيث أصبحت معظم طلبات الترجمة تشترط الترجمة الآلية ثم التنقيح، مما أدى إلى تراجع هائل في الطلب على الترجمة البشرية الخالصة. ويلاحظ أن هذا التحول لم يقتصر على النصوص التقنية فحسب، بل بدأ يمتد إلى مجالات كانت حكرا على المترجم البشري. وفي المجال الثقافي، يفرق الأحمد بين سوق الترجمة التجارية وسوق الأدب، مؤكدا أن دور النشر والمؤسسات الثقافية الكبرى لا تزال تعتمد بشكل أساسي على المترجم البشري، خاصة في مجالات الشعر والرواية التي يعجز فيها الذكاء الاصطناعي عن التقاط المستويات النصية المختلفة والانزياحات الدلالية التي تشكل روح العمل الإبداعي.

وينتهي الأحمد إلى توقع تحول المترجمين المتمرسين إلى "ذواقة" في المستقبل، ناصحا زملاءه بعدم معاداة الذكاء الاصطناعي بل الاستفادة القصوى من أدواته، مع التمسك بحب المهنة التي يصفها بأنها "قدرنا". ويؤكد أن المترجم المدرب جيدا سيتمكن من استخدام هذه الأدوات لصالحه، حيث ستوفر له الوقت الذي يمكنه استثماره في تطوير مهاراته اللغوية والثقافية، مما يخلق تميزا نوعيا يصعب على الآلة محاكاته.

shutterstock
رجل من جنوب آسيا يتحدث إلى تطبيق مترجم صوتي على الهاتف.

كاصد محمد: أقبل الأيدي التي أثرت العالم

يصف المترجم والكاتب العراقي المقيم في إيطاليا كاصد محمد تجربته مع الذكاء الاصطناعي بالمحدودة والمفيدة، معتبرا إياه "محرك بحث عملاقا" يساعده في الحصول على المعلومة بسرعة، خاصة في تحليل الجمل الصعبة أثناء الترجمة من الإيطالية. وهو لا يرى فيه تهديدا للمهنة حتى الآن، لأنه يفتقر الى القدرة على إنتاج ترجمة عالية الجودة، قائلا: "فاقد الشيء لا يعطيه". ويوضح أن الاستخدام الأمثل لهذه الأدوات يكون في إطار مساعد للبحث والاستكشاف، وليس كبديل من العمل الإبداعي للمترجم.

العامل الحاسم الذي ستحتفظ به الترجمة البشرية هو "الخبرة الإنسانية" التي لا يمكن الآلة محاكاتها – كاصد محمد

ويلاحظ محمد أن تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل لم يصل بعد إلى مجال الترجمة الأدبية، الذي لا يزال في منأى من هذه الضغوط، مشيرا إلى أنه لم يواجه أي طلب من العملاء لاستخدام هذه الأدوات. ويعزو ذلك إلى طبيعة الجمهور المتلقي للأعمال الأدبية المترجمة، الذي يبحث عن بصمة المترجم وأسلوبه المميز، وهو ما تفتقر اليه الترجمة الآلية الجاهزة التي تنتج نصوصا متشابهة تخلو من الخصوصية.

ويؤكد كاصد أن العامل الحاسم الذي ستحتفظ به الترجمة البشرية هو "الخبرة الإنسانية" التي لا يمكن لاآلة محاكاتها. ويستشهد بترجمته لكتاب "ما إذا كان هذا إنسانا" للكاتب بريمو ليفي، حيث استحضر ذاكرته الشخصية لأيام الجوع في العراق خلال فترة الحصار، معتبرا أن مثل هذه التجارب الإنسانية العميقة هي التي تنقل النص بصدق وجمالية. ويضيف: "الترجمة الحقيقية هي عملية استيعاب للنص ثم إعادة إبداعه بلغة أخرى، وليست مجرد نقل حرفي للكلمات."

ويختم برسالته إلى زملائه المترجمين في يوم الترجمة العالمي: "أقبل الأيدي التي أثرت العالم بكل ما هو جميل"، معتبرا أن هذه اللمسة الإنسانية ستظل سر بقاء المترجم. وينبه إلى أهمية الحفاظ على الهوية الإبداعية في عصر الآلات، فالتمسك بالأصالة والخصوصية سيكونان السلاح الأقوى في مواجهة المد التقني.

font change