"حماس"... بداية النهاية

هل اتخذت الحركة قراراها بنفسها وبقناعة؟

"حماس"... بداية النهاية

استمع إلى المقال دقيقة

"فرحة عارمة في قطاع غزة بعد إعلان ترمب عن اتفاق غزة"، ليست مجرد جملة عابرة في شريط قناة إخبارية، ولا عنوانا يمر كأي خبر عاجل، بل هي خلاصة لحظة إنسانية نادرة، اختزلت مشاعر شعب بأكمله، ذاق ويلات الحرب على مدى عامين، وعاش تحت الأنقاض، بين ركام البيوت والمستشفيات والمدارس، في واحدة من أطول وأعنف الحروب التي عرفتها المنطقة.

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دخلت غزة في دوامة جحيم غير مسبوقة، فقرار حركة "حماس" بشن العملية آنذاك، بدا ارتجاليا بكل المقاييس، منفصلا عن الواقع، غير محسوب النتائج، ولا يستند إلى أي تصور لما بعد الضربة، كانت مقامرة مفتوحة بشعب كامل، ونيابة عن المحور، في لحظة غلبت عليها الشعارات، وغابت عنها أبسط الحسابات السياسية أو الإنسانية.

النتائج كانت كارثية أكثر من 67 ألف قتيل، وما يقارب 170 ألف جريح، ودمار طال أكثر من 90 في المئة من البنية التحتية، وتفكك كامل للمنظومات المدنية والخدمية، وتحول السكان إلى لاجئين داخل وطنهم المحاصر.

لكن الواقع على الأرض يقول إن العملية كانت بداية النهاية لحركة "حماس" نفسها، عسكريا وتنظيميا وسياسيا، قياداتها في مرمى التصفيات، شبكاتها مدمرة، حضورها الشعبي في أدنى مستوياته، ومشروعها تحول إلى عبء ثقيل في نظر الداخل الفلسطيني... قبل الخارج.

على المستوى الإقليمي، كانت لحظة السابع من أكتوبر الشرارة الأولى في بداية انهيار ما يعرف بـ"محور المقاومة". "حزب الله" تلقى ضربات غير مسبوقة، طالت بنيته، وقدراته، وقياداته وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصرالله، أما إيران الداعم المركزي لـ"المحور"، فقد وجدت نفسها للمرة الأولى في مرمى نيران مباشرة داخل أراضيها، فيما خسرت نفوذها في أكثر من ساحة.

أما الصورة الأكبر فهي في سوريا، فبينما كانت أنظار العالم مشدودة إلى غزة ولبنان، سقط نظام الأسد، وتولى المعارضون قيادة البلاد، مستفيدين من لحظة نادرة، وظروف متشابكة، وإفادة من توقيت الهجوم أدى إلى سقوط النظام خلال 11 يوما. وما جرى هناك لم يكن بدفع من إسرائيل، بل رغما عنها، فوجود نظام جديد بهذه التركيبة في دمشق لم يكن ضمن حساباتها، وهو الأمر الذي يمثل تحديا استراتيجيا طويل الأمد، ومع ذلك وجد النظام الإيراني نفسه يفقد أحد معاقله المهمة... سوريا، في لحظة أعيد فيها رسم الخرائط بطريقة غير متوقعة.

لحظة الانفراج- ولو جزئيا- لم تكن نتيجة نصر عسكري لـ"حماس" مثلا، ولا هزيمة حاسمة لإسرائيل، بل ثمرة اتفاق رعته قوى دولية، وأجبرت الأطراف على قبوله

في خلفية هذا المشهد، لا يمكن إغفال ما شهدته الأسابيع الأخيرة من تحركات دبلوماسية متسارعة تقودها السعودية وفرنسا، بهدف الدفع نحو "حل الدولتين" والاعتراف بدولة فلسطينية في المحافل الدولية، وهو ما شكل ضاغطا حقيقيا على الأطراف الدولية الفاعلة، وساهم- بشكل مباشر أو غير مباشر- في تهيئة الأرضية لهذا الاتفاق.

نعود إلى غزة، إلى الشوارع التي امتلأت بالمواطنين بعد إعلان الاتفاق، إلى المشهد الذي ربما لم يشهده القطاع منذ عقدين، الفرحة لم تكن تأييدا لحركة ما، ولا ثناء على صفقة، بل كانت ببساطة تنفسا بعد اختناق، وزفرة حياة بعد طول موت، كانت الفرحة صوت الناس البسطاء، الذين سرقت منهم طفولتهم وشبابهم وبيوتهم باسم المقاومة، ثم باسم المعركة، ثم باسم الصمود.

ذلك المشهد الشعبي يجب أن لا يقرأ كحدث منفصل، بل كوثيقة إدانة تاريخية لما جرى، لأنه يوضح ضمنا أن "حماس" لم تكن قطعا تمثل الغزيين حين قررت، ولم تفكر في مستقبلهم حين اختارت، وأن مغامرتها لم تكن إلا خطيئة كبرى بحق من ادعت أنها تدافع عنهم.

لحظة الانفراج- ولو جزئيا- لم تكن نتيجة نصر عسكري لـ"حماس" مثلا، ولا هزيمة حاسمة لإسرائيل، بل ثمرة اتفاق رعته قوى دولية، وأجبرت الأطراف على قبوله بعد استنزاف مهول، وهذا وحده كافٍ لإعادة تقييم سرديات "الانتصار" المزعومة.

تُطرح في هذه اللحظة تساؤلات تستحق التوقف طويلا عندها: هل اتخذت "حماس" قراراها بنفسها وبقناعة، أم إنها مجرد ضحية لحسابات خاطئة؟

فرحة غزة ليست دليلا على نجاح الاتفاق، بل هي مرآة للوعي الفلسطيني المتراكم. وعي يقول إن أكبر الهزائم ليست تلك التي تأتي من الخارج، بل التي تزرع من الداخل باسم الكفاح، وتدار بمنطق المغامرة، وتفرض على الناس كقدر لا مفر منه.

وفي المحصلة، تُطرح في هذه اللحظة تساؤلات تستحق التوقف طويلا عندها: هل اتخذت "حماس" قرارها بنفسها وبقناعة، أم إنها مجرد ضحية لحسابات خاطئة؟ أم إنها كانت أداة في معركة أكبر منها؟ وهل نحن أمام نهاية مرحلة، أم بداية مسار جديد، يعيد رسم المعادلة في المنطقة وفقا لمعايير العقل والواقع لا الحماسة والشعارات؟

الأكيد أن غزة تستحق أكثر من ذلك، وتلك الفرحة العابرة رغم رمزيتها، لن تكون كافية ما لم تتحول إلى سياسة، ورؤية، وقرار، يعيد الاعتبار للناس، لا للشعارات.

font change