"ليون الأفريقي" لأمين معلوف نموذجا لأدب ما بعد الاستشراق

شرق العرب هو المشرق بينما الغرب هو المغرب

غلاف النسخة العربية من رواية "ليون الأفريقي"

"ليون الأفريقي" لأمين معلوف نموذجا لأدب ما بعد الاستشراق

إذا كان الاستشراق، تعريفا، على الأقل كما يختزله العامة، يتلخص في كيفية فهم وقراءة الباحثين والأدباء والمبدعين الغربيين للشرق وثقافاته، في زمن ذهب فيه هؤلاء إلى الشرق مستعمرين ومستكشفين وحالمين، فربما لن تكتمل الصورة إلا لو حاولنا من الزاوية الأخرى للرؤية أن نتعرف الى الكيفية التي رأى فيها "الشرقيون المغتربون" شرقهم الذي رحلوا عنه في مراحل زمنية تالية إلى الغرب، هجرة أو لجوءا أو اختيارا.

يعد أمين معلوف، الكاتب الفرنسي من أصل لبناني، واحدا من أبرز رواد أدب "ما بعد الاستشراق". فقد جعل من فكرته المحورية، "هوية واحدة وانتماءات عدة"، حجر الزاوية في مشروعه الأدبي والفكري. لم تكن هذه الفكرة مجرد عنوان لرواياته، بل تحولت إلى ما يشبه الأيديولوجيا التي دافع عنها في شخصياته الروائية وفي لقاءاته المتعددة. فبالنسبة إلى معلوف، لا يعني تعدد انتماءات الإنسان أو حتى تناقضها صراعا في الهوية، بل يمثل ثراء وتكاملا. الأهم من ذلك، أن معلوف لم يتبن هذه الفكرة نظريا فقط، بل تجسدت في حياته قبل أن يكتب عنها.

تآكل الحدود الثقافية

حين انتخب معلوف أمينا عاما للأكاديمية الفرنسية( 2023)، لم يكن هذا التكريم مجرد جائزة تمنح لكاتب مرموق. بل كان إقرارا ضمنيا بأن الحدود الثقافية التي طالما حكمت العلاقة بين الشرق والغرب بدأت تتآكل. فمعلوف، الذي طالما كتب عن الترحال والتعددية الهوياتية، أصبح اليوم رمزا للجسور لا للجدران. هذا المنصب الرفيع هو بمثابة اعتراف رسمي بتأثير كتاب "ما بعد الاستشراق" الذين استطاعوا بإنتاجهم الفني والفكري ايصال صوت مختلف، وأن يغيروا نظرة المجتمعات التي يعيشون فيها من خلال إعادة تشكيل الوعي الغربي بالآخر.

ولد أمين معلوف في قرية عين القبو الجبلية في لبنان، لكن نشأته حملت في طياتها تأثيرات ثقافية متنوعة. فجده لأمه كان تاجرا كبيرا في القاهرة حيث نشأت أمه وحيث تزوج والداه. وكانت جدته لأمه تركية مما أضفى بعدا آخر على خلفيته. وعلى الصعيد الديني، نشأ معلوف في كنف عائلة مسيحية شهدت تنوعا بين الكاثوليكية من جهة الأم والبروتستانتية من جهة القسم الأكبر من عائلة الأب، وهو ما يبرز انفتاحا مبكرا على تعددية المعتقدات.

نموذج العائلة الشرقية المتعددة الانتماءات هذا، كان الأساس الذي انطلق منه معلوف في نتاجه الأدبي. فأعماله الروائية تتأثر بشكل كبير بحياته الشخصية والعائلية

نموذج العائلة الشرقية المتعددة الانتماءات هذا، كان الأساس الذي انطلق منه معلوف في نتاجه الأدبي. فأعماله الروائية، على الرغم من احتوائها على بعد تاريخي راسخ، تتأثر بشكل كبير بحياته الشخصية والعائلية. فآثار هذه العائلة الكبيرة لم يتم تجاوزها بعناصر جديدة، بل تستمر في تشكيل إبداعه والطريقة التي يبني بها سردياته وشخصياته، مما يمنح حكاياته تفردا خياليا وواقعيا في آن. وقد أتاح له المجال الواسع للشخصيات والحيوات الغريبة في رواياته، أن يربط بعض التفاصيل والأحداث بعناصر موروثة في الذاكرة، كلما أمكن ذلك.

غلاف النسخة الفرنسية من رواية "ليون الأفريقي"

أمين معلوف و"ليون الأفريقي"

فإذا نظرنا إلى روايته "ليون الأفريقي"، وهي اولى رواياته والأكثر رواجا على مستوى التلقي العربي والغربي، لوجدنا آثار عائلته بين سطور الرواية. على سبيل المثل، فإن الامتداد العائلي الواسع الذي ينسبه المؤلف الى شخصية ليون لم يرد ذكره في المصادر التاريخية التي تتناول هذه الشخصية تحديدا. فلم يذكر عن شخصية ليون سوى بعض سطور محدودة للغاية. وهو ما يستدعي التأمل في إمكان تأثر أمين معلوف في تصوير هذه البنية الأسرية بنموذج عائلته. إن حضور كل من السرد القصصي والمعرفة التاريخية في محيطه العائلي الخاص، يبدو أنه أسقط بشكل أو بآخر على ديناميكية أسرة ليون الأفريقي.

يقدم أمين معلوف الأب في صورة شخصية جليلة وقوية التأثير، بينما تضطلع الأم بدور الراوية التي تعمل على بناء أسس الوعي التاريخي لدى ابنها، حيث تسرد عليه تاريخ الأندلس وسير الممالك والأسر الحاكمة. ويرجح أن تصوير أمين معلوف لتلك الحوارات الحميمة بين الأم والابن داخل الرواية حول الأحداث التاريخية، يستقي مادته من استرجاعه ذكريات مماثلة جمعته بوالدته، إديث. حيث ذكر مرات أنها كانت تهوى قراءة كتب التاريخ وأنها كانت تقص عليه ما تقرأه.

أمين معلوف وكريستيان جامبيه في الأكاديمية الفرنسية

من ناحية أخرى، يجسد الكاتب مشهدا حيا للتعايش الديني المتنوع، ويتضح ذلك بشكل خاص في "كتاب غرناطة"، أول أجزاء رواية "ليون الأفريقي"، حيث تتجاور النماذج الاجتماعية الإسلامية والمسيحية واليهودية في نسيج اجتماعي واحد وفي مساحة جغرافية حميمة. وينخرط ليون في تفاعلات شخصية مع أم تنتمي إلى الديانة الإسلامية، وخادمة مسيحية، وصديقة للعائلة يهودية. مع ذلك، لا تغفل الرواية عن استعراض تجليات أخرى للدين، لا سيما حينما يقترن بممارسات السلطة أو مظاهر التطرف. إذ تستعرض الرواية ضعف إيمان خلفاء غرناطة، والنزعة التوسعية للسلاطين العثمانيين، والطابع التدميري للمسيحية، ممثلة في محققي الإسبان. كما تقدم نماذج إنسانية متباينة داخل المؤسسة الدينية، كالأخت الراهبة التي تتبنى الفتاة اليهودية مادلين سعيا لإنقاذها من المصير المأسوي الذي كان ينتظر اليهود في الأندلس، وفي المقابل، الراهبة التي تمارس التعذيب ضدها انطلاقا من تعصب ديني.

لم يكتف معلوف بتقديم هذا التنوع في الشخصيات المفترض وجودها في هذا الظرف التاريخي، والتي نعاصرها في مجتمعات الشرق الأوسط، بل نسجها من لحم ودم واستغرق في وصف تفاصيل العلاقات والمشاعر المتباينة للشخصيات بما يتناسب مع الموروث الاجتماعي والثقافي لكل فئة مما يمثلها الأبطال.

ابتعاد عن الصور النمطية

كما أن تمثيل المرأة في الرواية ذو أهمية قصوى ويبتعد عن الصور النمطية المعتادة في تمثيلات الجزء الأكبر من الاستشراق الأدبي الكلاسيكي. ويحظى حضور الجارية بمكان في السرد، لكنه ليس مهيمنا ولا يستبعد حضور أدوار نسائية أخرى. ففي مشهد تبوح فيه والدة ليون بمشاعرها له، يلخص الكاتب تعقيد وجود زوجة وجارية تعيشان تحت سقف واحد، وهو وضع يتكرر غالبا في بيوت العائلات المسلمة في تلك الحقبة التاريخية.

يجسد الكاتب مشهدا حيا للتعايش الديني المتنوع، حيث تتجاور النماذج الاجتماعية الإسلامية والمسيحية واليهودية في نسيج اجتماعي واحد وفي مساحة جغرافية حميمة


هذا الحوار  يدور في الصفحة الأولى من الفصل الأول، وفيه تشرح والدة ليون الطريقة التي كان زوجها، والد حسن/ليون، يعتاد أن يناديها بها. تقول: "عندما كان يتحدث عني كان يقول باحترام 'الحرة'، أو 'العربية'" (ليون، ص. 13). نلاحظ أن أمين معلوف نسخ الكلمات العربية بحروف لاتينية متبوعة بترجمة فرنسية. في هذا المثل، كلمة "arabiya" المكتوبة باللاتينية لا تمثل صعوبة كبيرة للقارئ الفرنسي - فهي قريبة جدا في الكتابة وترتيب الحروف من الكلمة الفرنسية ولها المعنى نفسه. وعلى الرغم من هذا الوضوح، اختار معلوف ذكر الكلمتين جنبا إلى جنب مع وضع كلمة "arabiya" بين علامتي تنصيص.

نلاحظ أنه عنون هذا القسم الأول من الفصل الأول بـ"عام سلمى الحرة" – وهو اسم أمه- دون وضع "الحرة" بين علامتي تنصيص، ودون إضافة ترجمة فرنسية للكلمة.

هناك استخدام آخر للكلمات العربية بحروف لاتينية، يتمثل في أسماء أشهر التقويم الإسلامي مثل رمضان وشعبان. يذكر المؤلف الاسمين مرات عدة في النص، وفي كل مرة يضعهما بخط مائل دون شرح أو ترجمة. علاوة على ذلك، هو لا يكتب هذين الاسمين باتباع الكتابة الشائعة في الفرنسية، Ramadan و Chaaban، بل يضيف حرف "e" في نهاية الاسم ليكتب: ramadane و chaabane كأنه يبتغي تعريف القارئ الفرنسي بالنطق السليم لبعض المفردات العربية.

كذلك قدم معلوف أسماء بعض المهن العربية مثل "المحتسب" التي كتبها بحروف لاتينيه يتبعها تعريف فرنسي وجيز ضمن متن النص ذاته، وليس في حاشية سفلية، حيث كتب: المحتسب، رئيس التجار.

هذه التقنية في تقديم الكلمات العربية من خلال ترجمتها أو شرحها بإيجاز، تدعونا إلى التأمل في طبيعة الراوي الذي اختاره أمين معلوف لسرد هذه الحقبة من تاريخ الشرق. يبدو أن الراوي يدرك أنه يسرد باللغة الفرنسية، ولكن بما أنه هو نفسه عربي ومسلم وشرقي، فمن الطبيعي أن تتداخل بعض المفردات العربية في النص الفرنسي. وقد ينظر إلى ذلك على أنه تناقض مع "قواعد" تحرير النص. ومع ذلك، فإن الراوي واع لأبعاد هذا الإدماج، إلى درجة أنه عندما يذكر كلمات بلغة أخرى غير اللغة "الرسمية" للسرد، يلجأ إلى ترجمة هذه الكلمات العربية أحيانا. وفي الوقت نفسه، يمارس نوعا من السلطة عندما لا يترجم تلك الكلمات أو حين يكتب كلمات مثل رمضان وشعبان على طريقته الخاصة.

أمين معلوف في منزله في بورت جواييفيل.

تقديم الشرق

انطلاقا من فرضية أن أدب أمين معلوف يندرج ضمن تيار ما بعد الاستشراق، يصبح من الضروري التمعن في مفهوم "الشرق" لديه. بمعنى آخر، كيف يقدم هذا الشرق، وهل يستخدم مصطلح "الشرق" نفسه، وما الدلالة التي يمنحها إياه؟

تكشف قراءة تحليلية لرواية "ليون الأفريقي" أن أمين معلوف يصور الشرق باعتباره مركز العالم المتصل ببقية أرجائه عبر روابط سياسية وتجارية. وتغدو هذه المنطقة الجغرافية هي المنطقة المحورية وفقا لمعلوف، وهو الانطباع العام الذي يخرج به القارئ بعد الانتهاء من الرواية. ولكن كيف ينجح في خلق مثل هذا الانطباع؟

يتحقق ذلك من خلال البناء المتعمق للسرد والشخصيات. فبادئ ذي بدء، يختار راويا "شرقيا" للتحدث عن "الشرق"، من خلال سرد حكايته الخاصة (المنغمسة في التاريخ الرسمي للشرق). ويمثل هذا "الشرقي" الراوي والمؤلف نفسه، أي الشخص الذي يعبر عن رؤاه الخاصة من خلال الراوي. وكما أسلفنا، فقد صاغ أمين معلوف جزءا كبيرا من سياق شخصيته متخذا نفسه نموذجا. وهكذا يتجلى الانتماء والتعاطف الذي يكنه أمين معلوف تجاه الشرق.

تكشف قراءة تحليلية لرواية "ليون الأفريقي" أن أمين معلوف يصور الشرق باعتباره مركز العالم المتصل ببقية أرجائه عبر روابط سياسية وتجارية


يجوب هذا الراوي/الشخصية الرئيسة مدن حوض البحر الأبيض المتوسط وسواحله، مصادفا أوضاعا سياسية متنوعة، وقادة سياسيين، وعسكريين، وحتى معارك. والزخم الذي يضفيه الكاتب على الأحداث والشخصيات يجعل القارئ يغفل وجود أجزاء أخرى من العالم. فالصحراء، والبحر الأبيض المتوسط، ومختلف بلدان شمال أفريقيا التي جال فيها ليون، ليست سوى أبطال مكونين للبطل الجوهري الذي هو شرق أمين معلوف. ويلجأ إلى الوصف التفصيلي والعميق للأماكن والأحداث بل والعادات. وهكذا، تبدو الشخصيات حقيقية وقوية في مجملها، دون أن تخلو من لحظات إنسانية، وقلق، وخوف، وضعف.

أمين معلوف يصل إلى قصر الإليزيه

وعليه، يقدم أمين معلوف نوعا من إعادة الاعتبار حينما يصور شخصيات ذات هويات إنسانية ثرية ومتنوعة، شخصيات حقيقية تتجاوز القوالب النمطية. فالمشاهد المتعاقبة التي تشكل السرد مستمدة من الحياة الواقعية لأناس تلك المنطقة. ومشاهد الولائم على سبيل المثل، سواء كانت احتفالا بمناسبات دينية كإفطار رمضان، أو احتفاء بطقوس دينية/اجتماعية مثل مشهد ختان ليون نفسه، تعرض بعناية وتفصيل دون مبالغة.

في الواقع، نحن أمام شرق يتحدث عن نفسه، لا يرى نفسه بالنسبة الى الغرب بل بالنسبة الى تمثيلات مختلفة لذاته. وهو يتبنى دلالات مصطلحي الشرق والغرب كما يفهمها العرب والمسلمون، ففي عمل معلوف، شرق العرب هو المشرق، بينما الغرب هو المغرب.

font change

مقالات ذات صلة