السودان... صراع الموارد والثروات المنهوبة

يسعى الطرفان المتقاتلان لكسب الاعتراف الدولي عبر السيطرة على المقدرات الاقتصادية والاستراتيجية

بيتر رينولد
بيتر رينولد

السودان... صراع الموارد والثروات المنهوبة

تحتدم الحرب الأهلية في السودان للسنة الثالثة على التوالي بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، وهي مجموعة شبه عسكرية منشقة، من دون أي أمل في التوصل إلى حل سلمي. ويدفع هذا السجال الجانبين المتحاربين إلى التقاتل على توسيع النفوذ أملا في كسب الشرعية.

وقد أعلن كل من القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع" تشكيل حكومة في الأشهر الأخيرة، إذ يسعى الطرفان المتناحران لكسب الاعتراف الدولي بعد أن تسبب النزاع في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية وجرائم الحرب في العالم، وبعد أن وصلت الجهود الديبلوماسية لإنهاء القتال –لا سيما تلك التي تقودها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر- إلى طريق مسدود.

ويقول أندرياس كريغ، المحاضر الأول في كلية الدراسات الأمنية بجامعة "كينغز كوليدج" في لندن: "الشرعية والموارد وجهان لعملة واحدة في الحرب السودانية". ويضيف في حديث إلى "المجلة" أن "القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لا تستطيعان دعم الحكومة بشكل موثوق به من دون السيطرة على الموارد التي تمول المجهود الحربي وتوفر الغذاء للسكان، وتدعم شبكات الولاء. ومن يستطيع عمليا إثبات وجود اقتصاد فاعل -من طريق صادرات النفط، أو مبيعات الذهب، أو الفوائض الزراعية، أو إيرادات الجمارك- سيمتلك حجة أقوى للحكم".

تحتدم الحرب الأهلية في السودان للسنة الثالثة على التوالي بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، وهي مجموعة شبه عسكرية منشقة، من دون أي أمل في التوصل إلى حل سلمي. ويدفع هذا السجال الجانبين المتحاربين إلى التقاتل على توسيع النفوذ أملا في كسب الشرعية.

من وجهة نظر اقتصادية بحتة، تسيطر قوات الدعم السريع على أثمن الموارد الطبيعية في البلاد، في حين يسيطر الجيش على الموانئ، والمؤسسات، والبنية التحتية التي تسمح بوصول تلك الموارد إلى الأسواق الدولية

أندرياس كريغ، محاضر في كلية الدراسات الأمنية بجامعة "كينغز كوليدج" في لندن

وقد أعلن كل من القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع" تشكيل حكومة في الأشهر الأخيرة، إذ يسعى الطرفان المتناحران لكسب الاعتراف الدولي بعد أن تسبب النزاع في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية وجرائم الحرب في العالم، وبعد أن وصلت الجهود الديبلوماسية لإنهاء القتال – لا سيما تلك التي تقودها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر- إلى طريق مسدود.

ويقول أندرياس كريغ، المحاضر الأول في كلية الدراسات الأمنية بجامعة "كينغز كوليدج" في لندن: "الشرعية والموارد وجهان لعملة واحدة في الحرب السودانية". ويضيف في حديث إلى "المجلة" أن "القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لا تستطيعان دعم الحكومة بشكل موثوق به من دون السيطرة على الموارد التي تمول المجهود الحربي وتوفر الغذاء للسكان، وتدعم شبكات الولاء. ومن يستطيع عمليا إثبات وجود اقتصاد فاعل -من طريق صادرات النفط، أو مبيعات الذهب، أو الفوائض الزراعية، أو إيرادات الجمارك- سيمتلك حجة أقوى للحكم".

الموانئ والزراعة في الشرق، والذهب والنفط في الغرب

يسيطر الجيش، الذي لا يزال له اليد العليا حتى الآن، على ساحل البحر الأحمر الحيوي، والمنتجات الزراعية، والخدمات العامة، والبنية التحتية لنقل النفط، وسدود الطاقة الكهرومائية التي تولد معظم كهرباء السودان، والمساعدات الدولية، والعاصمة الخرطوم.

بيتر رينولد

وفي دارفور وكردفان، تسيطر "قوات الدعم السريع" على معظم ذهب السودان وثروته الحيوانية، والصمغ العربي - وهو مادة تُجمع من أشجار الأكاسيا وتُستخدم أساسا في صنع المرطبات، ومنتجات أخرى. والسودان هو مصدر لنحو 80 في المئة من الصمغ العربي في العالم.

ويقول كريغ: "من وجهة نظر اقتصادية بحتة، تسيطر قوات الدعم السريع على أثمن الموارد الطبيعية في البلاد، في حين يسيطر الجيش على الموانئ، والمؤسسات، والبنية التحتية التي تسمح بوصول تلك الموارد إلى الأسواق الدولية".

على الرغم من أن أصول قوات الدعم السريع تحقق إيرادات كبيرة، فإن سيطرة القوات المسلحة السودانية على الموانئ والمؤسسات المالية والأراضي الزراعية والبنية التحتية للدولة توفر لها أساسا استراتيجيا أقوى

هيلين أباتوني موزونغو، محللة الأمن في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في شبكة تقييم الأخطار والتبادل

تتقاتل القوات المسلحة السودانية، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، و"قوات الدعم السريع"، بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، على إمدادات النفط في السودان. وقد تكون السيطرة على هذه الإمدادات نقطة تحول حاسمة في المواجهة بين الطرفين.

ويكشف كريغ: "يعتمد الاعتراف بأي من الطرفين على الشرعية والسلوك والقانون الدولي بقدر اعتماده على السيطرة على الموارد. لكن إذا طال أمد الجمود فسيصبح النفط أداة قوية بيد الجهة التي تسيطر عليه لتقديم نفسها بأنها الحكومة 'القادرة' في السودان. في الوقت الحاضر، لا تزال الشرعية بالمعنى الدولي في يد القوات المسلحة السودانية، التي تحتفظ بمقعد السودان الرسمي في الأمم المتحدة وتحتفظ بمظهر جهاز الدولة".

دعم دولي للجيش

من الواضح أن القوات المسلحة السودانية تحظى بدعم سياسي دولي أكبر بكثير من الدعم الذي تحظى به "قوات الدعم السريع". فقد زودت إيران الجيش أسلحة وطائرات مسيرة، وهو ما رجح كفته في وقت كانت "قوات الدعم السريع" تحقق تقدما في المعارك وتسيطر على مزيد من الأراضي في ثالث أكبر دولة في أفريقيا، بما في ذلك العاصمة الخرطوم.

.أ.ف.ب
منجم ذهب تابع لشركة أرياب في الصحراء السودانية، 800 كيلومتر شرق العاصمة الخرطوم، 3 أكتوبر 2011

وقد توج ذلك الدعم الخارجي القوي بانتصارات حديثة للقوات المسلحة السودانية. ففي مارس/آذار، استعادت السيطرة على الخرطوم، وأحكمت قبضتها على الولاية التي تحمل اسمها بعد ذلك بوقت قصير. كما انتزع الجيش من "قوات الدعم السريع" ولاية الجزيرة، وهي مصدر رئيس لعائدات التصدير والمركز الزراعي الرئيس الذي يمد معظم السودان بالأغذية.

وتقول هيلين أباتوني موزونغو، محللة الأمن في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في شبكة تقييم الأخطار والتبادل "رين" (RANE)، في مقابلة مع "المجلة": "على الرغم من أن أصول قوات الدعم السريع تحقق إيرادات كبيرة، فإن سيطرة القوات المسلحة السودانية على الموانئ والمؤسسات المالية والأراضي الزراعية والبنية التحتية للدولة توفر لها أساسا استراتيجيا أقوى".

السودان هو ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ويهرب هذا المعدن الثمين عبر حدود دارفور مع ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى

يخطّط الجيش لنقل حكومته من بورتسودان على البحر الأحمر، وهي شريان رئيس للتجارة، إلى الخرطوم، في السنة الجارية، وتلك خطوة رمزية لضمان تفوقه. ثمة شكوك تحيط بتلك الخطوة بعد أن تحولت المدينة إلى أنقاض.

تهريب الذهب من دارفور

تعد ولاية غرب دارفور، باستثناء الفاشر التي يشتد القتال حولها وتتزايد فيها أخطار المجاعة، من أهم الأراضي الخاضعة حاليا لسيطرة "قوات الدعم السريع". وقد أحكمت هذه القوات قبضتها على مناجم الذهب في شمال دارفور منذ عام 2017، بعد سنوات من الفظائع التي ارتكبت في حق المدنيين في الإقليم، والتي يعتقد أنها أودت بحياة مئات الآلاف وأدت إلى تشريد الملايين.

في عهد الرئيس السابق عمر البشير، عانت دارفور من حملة الأرض المحروقة التي شنت على من ينتمون إلى العرقية نفسها التي ينحدر منها المتمردون. فقد استهدفت "قوات الدعم السريع"-التي كانت تُعرف آنذاك بمليشيات الجنجويد- بعض المجتمعات المحلية ووجهت إليها ضربات جوية متواصلة.

.أ.ف.ب
سوداني يعمل في خط انتاج منجم ذهب في الصحراء السودانية، شمال شرق العاصمة الخرطوم، 3 أكتوبر 2011

في أبريل/نيسان 2019، اشترك البرهان وحميدتي في إطاحة البشير، وأنهيا حكمه الديكتاتوري الذي دام 30 عاما. لكن أحدهما انقلب على الآخر في الشهر نفسه بعد ثلاث سنوات. ويعتقد أن تهريب الذهب قد استخدم لتمويل الحرب منذ ذلك الحين.

السودان هو ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ويهرب هذا المعدن الثمين عبر حدود دارفور مع ليبيا وتشاد وجمهورية  أفريقيا الوسطى. وتتهم "قوات الدعم السريع" بتهريبه إلى الخارج من طريق الأسواق الدولية.

وتتهم القوات المسلحة السودانية بعض الدول بتقديم الدعم إلى "قوات الدعم السريع" مباشرة ومن طريق حلفائها الإقليميين، بمن فيهم خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا، وكينيا. لكن الجانبين نفيا تلك الاتهامات وقالا إنهما لا يدعمان تلك الجماعة.

إن تعزيز قوات الدعم السريع سيطرتها على كردفان سيوسع قاعدتها المالية ونفوذها السياسي، وهو ما سيعزز على الأرجح هياكلها الحكومية الموازية، ويعمق حالة الجمود ويضعف مطالبة القوات المسلحة السودانية بالسلطة الوطنية

هيلين أباتوني موزونغو، محللة الأمن في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في شبكة تقييم الأخطار والتبادل

وكان الجيش السوداني قد أعلن في يونيو/حزيران أن مقاتلين تابعين للقائد الليبي شاركوا في القتال إلى جانب "قوات الدعم السريع". كما استضافت كينيا، في وقت سابق من السنة الجارية، اجتماعا وقعت خلاله الجماعة ومؤيدوها ميثاقا يعلنون فيه ما يسمى بحكومة الوحدة لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتهم.

كردفان... النفط والأهمية الاستراتيجية

تقع كردفان بين ولاية الخرطوم التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية ودارفور التي تسيطر عليها "قوات الدعم السريع". وقد تحولت إلى ساحة معركة ساخنة في الأشهر الأخيرة مع سعي الخصمين للاستيلاء على تلك الولاية الغنية بالنفط. وتسيطر "قوات الدعم السريع" حاليا على مناطق في شمال وغرب وجنوب كردفان.

إذا انتصرت القوات المسلحة السودانية في كردفان، فإن ذلك سيجعلها في موقع قوي لتهديد معاقل "قوات الدعم السريع" في دارفور. في المقابل، إذا سيطرت "قوات الدعم السريع" على الولاية، فإنها ستقترب من استعادة السيطرة على الخرطوم.

.أ.ف.ب
قطع من الذهب جمعت في منجم تابع لشركة أرياب في الصحراء السودانية، شمال شرق العاصمة الخرطوم، 3 أكتوبر 2011

وتقول موزونغو "إن تعزيز قوات الدعم السريع سيطرتها على كردفان -وهي تسيطر على معظمها بالفعل- سيوسع قاعدتها المالية ونفوذها السياسي، وهو ما سيعزز على الأرجح هياكلها الحكومية الموازية، ويعمق حالة الجمود ويضعف مطالبة القوات المسلحة السودانية بالسلطة الوطنية".

كما أن السيطرة على كردفان تعني الاستيلاء على قسم كبير من إمدادات النفط في السودان. ويقول كريغ من جامعة "كينغز كوليدج" في لندن: "من المؤكد أن السيطرة على حقول النفط في كردفان ستحدث تغيرا في ميزان القوى من الناحية العملية. فالنفط لا يزال أهم مورد استراتيجي للسودان لأنه لا يوفر الوقود للاستهلاك المحلي فحسب، وإنما يدر أيضا رسوم عبور من جنوب السودان، الذي يعتمد اقتصاده اعتمادا شبه كامل على ضخ النفط الخام شمالا عبر خطوط الأنابيب السودانية".

النسيج الاجتماعي في السودان أكثر تعقيدا من نظيره في ليبيا، لوجود شبكات قبلية وميليشيات عرقية وتحالفات متغيرة تجعل الانقسام الواضح بين الشرق والغرب غير محتمل. يواجه السودان خطر التفكك إلى إقطاعيات متعددة

أندرياس كريغ، محاضر الأول في كلية الدراسات الأمنية بجامعة "كينغز كوليدج" في لندن

ينقل خط أنابيب عبر السودان ما يزيد على 150 ألف برميل إلى ساحل البحر الأحمر. ويضيف كريغ: "كل من يمكنه ضمان تدفق النفط دون انقطاع إلى بورتسودان سيحظى بموقع تفاوضي أقوى، على الصعيدين المحلي والإقليمي. وقد تترجم هذه السيطرة على المدى المتوسط إلى الطويل إلى مزيد من النفوذ الديبلوماسي. وستضطر الدول المجاورة، مثل جنوب السودان، والمستثمرون الدوليون، مثل الصين، إلى التعامل مع أي سلطة تحافظ على استمرار إنتاج النفط. ويذكر ذلك بتجربة ليبيا، حيث أدت السيطرة على محطات النفط في الشرق إلى إجبار التجار الدوليين في النهاية على التعامل مع الإدارة الانفصالية في بنغازي".

السودان بلا أمل... هل يتكرر المشهد الليبي؟

تخضع ليبيا منذ اطاحة الزعيم معمر القذافي وقتله في عام 2011، لحكم إدارتين: واحدة في طرابلس تعترف بها الأمم المتحدة، وأخرى في بنغازي.

   وتسيطر كل حكومة على أصول مختلفة. وإذا حافظت الحكومتان المتنازعتان في السودان على حالة الاستقطاب لمدة طويلة، فسيخلق الانقسام وضعا مماثلا، وهو سيناريو يجعل الانتقال السياسي والتعافي الاقتصادي شبه مستحيل. وتقول موزونغو من شبكة "رين": "إذا لم يحقق أي من الجانبين انتصارا حاسما، فسيترسخ هذا التقسيم للموارد والأراضي ويؤدي إلى تعايش حكومتين متنافستين لسنوات".

.أ.ف.ب
دخان حريق يتصاعد من سوق المواشي في الفاشر، عاصممة ولاية شمال دارفور السعودانية، 1 سبتمبر 2023

أودت الحرب في السودان بحياة عشرات الآلاف، وشردت ما يزيد على 12 مليونا، وجعلت أكثر من 30 مليونا معتمدين على المساعدات الغذائية. كما تركت الاقتصاد في حالة يرثى لها. ولا مفر من حدوث مزيد من التدهور إذا استمر الواقع القائم مدة طويلة بما يشبه المعضلة في ليبيا.

ويرى كريغ: "أن النسيج الاجتماعي في السودان أكثر تعقيدا من نظيره في ليبيا، لوجود شبكات قبلية وميليشيات عرقية وتحالفات متغيرة تجعل الانقسام الواضح بين الشرق والغرب غير محتمل. وبدلا من نشوء دولتين متماسكتين، يواجه السودان خطر التفكك إلى إقطاعيات متعددة، يعتمد كل منها على موارد مختلفة وداعمين خارجيين".

"في هذا المعنى، قد لا يعكس التشبيه بليبيا عمق الأزمة السودانية: فالسودان لا يواجه حكومتين متوازيتين فحسب، وإنما أيضا احتمال حدوث فوضى طويلة الأمد تستنزف فيها الموارد أمراء الحرب المتنافسين"، كما يقول.

font change