قيادة مصر المحتملة لـ "قوة الاستقرار" في غزة محفوفة بالمخاطر

لا خيار أمامها سوى المضي قدما

"المجلة"
"المجلة"

قيادة مصر المحتملة لـ "قوة الاستقرار" في غزة محفوفة بالمخاطر

تبدو مصر المرشحة الأوفر حظا، لقيادة القوة الدولية المعنية بتثبيت الاستقرار في قطاع غزة، ضمن المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخاصة بالقطاع.

بالنسبة للقاهرة، فإن الانخراط في هذه القوة، التي يُتوقع أن تضم أيضا وحدات من دول عربية وإسلامية أخرى، بل وتولي قيادتها، خطوة اضطرارية تمليها اعتبارات أمنية واقتصادية وجيوسياسية متشابكة.

ستشكل هذه القوة المدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا، والمزمع أن تنال تفويضا من مجلس الأمن الدولي، ركيزة رئيسة في جهود إعادة الإعمار المنتظرة، عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس"، ومن المقرر أن تضطلع بمهام أساسية، تشمل الإشراف على الأمن، في المناطق التي تنسحب منها القوات الإسرائيلية داخل غزة، ونزع سلاح الجماعات المسلحة وعلى رأسها "حماس"، إضافة إلى تسهيل تشكيل حكومة فلسطينية انتقالية. وهذه الأخيرة نقطة خلاف حادة بين القاهرة وتل أبيب، حيث ترفض إسرائيل رفضا قاطعا أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة ما بعد الحرب، كما عبّر عنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو دون مداراة.

وسيعزز تولّي مصر قيادة القوة مكانتها بوصفها لاعبا إقليميا محوريا، وهو الدور الذي تجلى خلال الاجتماع الذي عُقد في القدس يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول، وجمع رئيس جهاز المخابرات المصرية بنائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، إلى جانب مفاوضي وقف إطلاق النار الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، في محاولة لاحتواء مساعي نتنياهو الرامية إلى تثبيت خطة ترمب بشأن غزة.

كشفت الاشتباكات، التي وقعت في مدينة رفح جنوب غزة في 19 أكتوبر، بين مسلحين يُعتقد أنهم تابعون للحركة والقوات الإسرائيلية المتمركزة هناك، عن تراجع قدرة القيادة العليا لـ"حماس" على ضبط مقاتليها

غير أن هذه القيادة، يمكن أن تضع القاهرة في مواجهة سلسلة من المخاطر ذات الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، آخذين في الحسبان تاريخ غزة المضطرب، وهشاشة الأوضاع الداخلية في مصر، وتعقيدات المشهد الإقليمي المتشابك.

رويترز
مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، مصر 30 أبريل 2023

تورط طويل الأمد

من المرجح أن ينشأ فراغ أمني في غزة، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، وتفكيك ترسانة "حماس". وقد يدفع هذا الفراغ، قوة تثبيت الاستقرار– ولا سيما الوحدات المصرية، التي يُتوقع أن تشكل عماد هذه القوة– إلى خوض عمليات مفتوحة، ضد جماعات مسلحة، تشمل فلول "حماس" وربما فصائل جديدة قد تظهر لاحقا.

وقد بدأت بالفعل ملامح الفوضى، التي تعقب الحروب في الظهور، إذ باشرت "حماس" بتصفية حسابات مع عائلات، يُشتبه في تعاونها مع إسرائيل خلال الحرب. وكشفت الاشتباكات، التي وقعت في مدينة رفح جنوب غزة في 19 أكتوبر، بين مسلحين يُعتقد أنهم تابعون للحركة والقوات الإسرائيلية المتمركزة هناك، عن تراجع قدرة القيادة العليا لـ"حماس" على ضبط مقاتليها، في عدد من مناطق القطاع. فالهجوم لم يكن بأمر من القيادة المركزية، بل نُفذ بمبادرة من عناصر ميدانية، تصرفت خارج نطاق التوجيهات التنظيمية، ما عكس حالة من الانفلات الميداني، وتآكل الانضباط الداخلي داخل الحركة.

تشير دلائل عدة، إلى أن الحركة قد تعتمد نموذج "حزب الله" في الاحتفاظ بالسلاح، والعمل من الظل دون تولي الحكم المباشر

وعقب تلك الاشتباكات، التي أسفرت عن قتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي، سارعت "حماس" إلى إعلان أنها لم تتواصل مع المقاتلين في تلك المنطقة منذ مارس/آذار، في محاولة واضحة للتنصل من المسؤولية، وإثبات عدم تورطها في خرق وقف إطلاق النار. ويُرجَّح أن يتسع نطاق الفراغ الأمني في غزة مع مرور الوقت، لا سيما إذا جرى نزع سلاح "حماس" بالكامل، وهو احتمال يثير شكوكا واسعة.

تشير دلائل عدة، إلى أن الحركة قد تعتمد نموذج "حزب الله" في الاحتفاظ بالسلاح، والعمل من الظل دون تولي الحكم المباشر. وهذا يعني أن مهمة القوة، قد تتحول من دور مؤقت، إلى تورط طويل الأمد ومكلف، خاصة إذا اضطرت إلى مواجهة "حماس" أو التدخل لوقف التصفيات بين الفصائل الفلسطينية، أو احتواء تدخلات إسرائيلية محتملة.

أ ف ب
في هذه الصورة الجوية، يسير الناس وسط الدمار في مدينة غزة شمال قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025، بعد يوم من سريان وقف إطلاق النار

مخاوف من انتقال الفوضى إلى سيناء

يضاعف قربُ غزة من شبه جزيرة سيناء، الواقعة شمال شرقي مصر، والمتاخمة أيضا لإسرائيل، من حجم المخاطر، فالاضطراب في الأراضي الفلسطينية، قد يغذّي هجمات عابرة للحدود ينفذها متطرفون، بمن فيهم عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان ناشطا في سيناء، قبل أن تقضي عليه القوات المسلحة والشرطة المصرية في عام 2021.

وقد تكشف مثل هذه الهجمات المحتملة، عن وجود خلايا نائمة للتنظيم في سيناء، وهو ما يمكن أن يعقّد جهود مصر في مكافحة الإرهاب، ويعرّض قواتها للخسائر.

وقد دفعت هذه المخاوف القاهرة، إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات في سيناء خلال العامين الماضيين، منذ اندلاع الحرب في غزة، من بينها نشر المزيد من القوات المصرية في أنحاء المنطقة، ولا سيما على طول الحدود المشتركة مع غزة التي تمتد لمسافة 12 كيلومترا. وقد فتح هذا الانتشار العسكري، الباب أمام توترات مع تل أبيب، التي تتهم مصر بانتهاك معاهدة السلام الموقّعة عام 1979، ولا سيما القيود التي تضعها على عدد القوات المسموح بها في تلك المنطقة.

وفي الوقت ذاته، فإن امتداد العنف من غزة إلى سيناء، سيؤدي حتما إلى رد فعل شعبي غاضب، تجاه انخراط مصر الأمني والعسكري، في مرحلة ما بعد الحرب. وكان المصريون قد أظهروا تعاطفا قويا مع القضية الفلسطينية خلال الحرب، فيما عمّقت أزمة غزة الانقسامات المجتمعية، وعزّزت من صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

غير أن تولّي مصر قيادة قوة تُصنّف بأنها منحازة للغرب، وتعمل على نزع السلاح، فذلك سيكون برأي البعض "تعاونا" مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، ما قد يثير احتجاجات أو اضطرابات، ويزيد من تعقيد المشهد بالنسبة للقاهرة، التي لا تبدي تسامحا كبيرا مع المظاهرات أو مع توظيف القضية الفلسطينية، من قبل جماعات مثل جماعة "الإخوان المسلمين"، وقد يعيد ذلك إحياء تحديات أيديولوجية، تهدد استقرار النظام المصري بشكل عام.

عبء مالي متزايد

وثمة مصدر آخر للقلق، ففي حال فشلت القوة في تحقيق أهدافها، فسيحول ذلك الفشل مصر إلى كبش فداء، بحكم كونها الدولة القائدة لهذه القوة، ما سيُلحق ضررا بمكانة القاهرة في العالم العربي، وعلى الساحة الدولية، ويفرض ضغوطا اقتصادية إضافية على مصر، التي لا تزال تعاني من تبعات الحرب في غزة. وقد تجلّت هذه التبعات في خسائر حادة، لحقت بقطاع السياحة، وتراجع ملموس في عائدات قناة السويس– خامس أكبر مصدر للعملات الأجنبية في البلاد بعد الصادرات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحويلات المصريين في الخارج، وقطاع السياحة.

ولا تزال مصادر تمويل قوة تثبيت الاستقرار في غزة غير واضحة، وإن كان من المتوقع أن تأتي من جهات مانحة إقليمية ودولية. ولكن إذا كان على مصر المساهمة في هذا التمويل، ولو من خلال تغطية نفقات قواتها المشاركة في القوة، فإن ذلك سيزيد من الضغوط على ميزانية الجيش، المثقلة أصلا بعمليات سيناء، ويحوّل الموارد عن قطاعات حيوية مثل خدمة الدَّين والبنية التحتية والتعليم والصحة.

وقد يقدّم المانحون الدوليون دعما مؤقتا، لكن تراجع الاهتمام العالمي قد يترك مصر، وحيدة، تتحمّل تكاليف متصاعدة لإعادة الإعمار، أو لتأمين الخدمات اللوجستية. ولسوف يزيد هذا من ترسيخ المخاوف السائدة في القاهرة، من احتمال حدوث نزوح جماعي للفلسطينيين إلى سيناء.

المخاوف لم تُدفن بعد

وعلى الرغم من أن الخطة الجديدة للرئيس ترمب لإنهاء الحرب في غزة، قد طوت فعليا مشروعه السابق القائم على السيطرة على القطاع المنكوب، وتهجير سكانه إلى مصر والأردن، فإن المخاوف من التهجير لا تزال حيّة، على الأقل داخل مصر. ولسوف تثير  إمكانية إعادة فتح معبر رفح الحدودي بين سيناء وغزة، دعوات تطالب مصر باستيعاب جزء من سكان غزة مؤقتا في سيناء، إلى حين إعادة إعمار القطاع، وجعله صالحا للسكن، وسيثقل تدفّق اللاجئين من غزة إلى سيناء، كاهل الموارد المصرية، ويزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية.

هذا يعني تحقق أسوأ كوابيس مصر: اضطرارها إلى فتح أبوابها أمام سكان غزة. فإذا ما حدث ذلك، فإن أزمة غزة ستقع بالكامل في حضن مصر، ما سيجعلها مضطرة إلى التعامل معها بمفردها.

لا خيار أمام مصر، سوى المضي قدما، على الرغم من كل هذه التحديات؛ إذ إن وجود غزة آمنة وصالحة للعيش، يخدم أولًا المصالح الأمنية القومية لمصر، قبل أن يخدم الهدف الأوسع المتمثل في قيام دولة فلسطينية مستقلة

وبالنظر إلى كل هذه المعطيات، يمكن القول بثقة إن قيادة مصر لقوة تثبيت الاستقرار في غزة، رغم ما قد تمنحه من نفوذ دبلوماسي، وتدفّق محتمل للمساعدات، تبقى محفوفة بمخاطر جسيمة تفوق المكاسب المحتملة في بيئة إقليمية ودولية عالية المخاطر.

ومع ذلك، لا خيار أمام مصر، سوى المضي قدما، على الرغم من كل هذه التحديات؛ إذ إن وجود غزة آمنة وصالحة للعيش، يخدم أولًا المصالح الأمنية القومية لمصر، قبل أن يخدم الهدف الأوسع المتمثل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، حيث يُعدّ القطاع جزءًا لا غنى عنه منها.

font change

مقالات ذات صلة