العراق والشرق الأوسط الجديد... ضرورة الابتعاد عن مشاريع "المحاور"

الدولة الفاعلة لا التابعة

المجلة
المجلة
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستقبل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال قمة حول غزة في شرم الشيخ، 13 أكتوبر2025

العراق والشرق الأوسط الجديد... ضرورة الابتعاد عن مشاريع "المحاور"

ما إن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن مؤتمر السلام في الشرق الأوسط الذي احتضنته مصر في شرم الشيخ، حتى بدأت سجالات العراقيين تتصاعد بشأن دعوة العراق إلى المؤتمر وحضوره. خصوم الحكومة والطبقة السياسية كانوا ينتظرون عدم توجيه الدعوة إلى العراق حتى يعدونها كحجة لعدم الاهتمام بالحضور العراقي الدبلوماسي في محيطه الإقليمي.

في حين كانت سجالات أخرى تركز على أن الحكومة والقوى السياسية التي تقف خلفها، هي الآن تكشف عن تناقض مواقفها، كيف يحضر العراق مؤتمر السلام برعاية الرئيس ترمب الذي يمكن عدها تمهيدا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهناك قوى سياسية في العراق ترفع لواء المقاومة وتعلن صراحة انتماءها لمحور المقاومة الذي تقوده إيران!

حكومة بغداد تقف حائرة بين التعامل وفق ما تمليه مصلحة العراق، وتحقيق مكاسب لشخص رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وكيفية التماهي مع تناقضات مواقف قوى الإطار التنسيقي التي يجاهر بعضها بانتمائه لـ"محور المقاومة" ويعلن استعداده للدخول في الحرب ضد إسرائيل. حتى وإن كانت هذه المواقف خطابات إعلامية فقط.

في الجانب الآخر، يطرح المراقبون والمعارضون لقوى الإطار التنسيقي وحكومته، الأسئلة بشأن موقفهم من اتفاق سلام يرتكز على حل الدولتين، والذي يترتب عليه الاعتراف بإسرائيل "كدولة". وهناك قانون شرعه البرلمان العراقي يجرم التطبيع مع "الكيان الإسرائيلي".

الدعاية الانتخابية للقوى السياسية لا تحمل شعاراتها ولا خطاباتها مواقف صريحة وواضحة بشأن التوجه نحو الشرق الأوسط الجديد. رغم أن أغلبها يرفع عنوان "العراق القوي"، و"عراق مقتدر"، إلا أن الحديث عن رؤية أو موقف تجاه ما يراد أن يكون عليه موقف العراق من الشرق الأوسط الجديد لا يتم الحديث عنه هذه الأيام.

وهنا تشتغل فرضيات محددة، إذ ربما لا يمتلك بعض الفاعلين السياسيين بُعد نظر يُمكنهم من قراءة التفاعلات الإقليمية وكيف يمكن أن يكون للعراق دور فيها، أو كيف تنعكس على أرضه؟ وقد يعتقد آخرون أن قوة حضورها في المشهد السياسي المرتهن بنتائج الانتخابات قد يكون بوابة لعصمتهم من طوفان الشرق الأوسط الجديد الذي يريد أن يُنهي كيانات ترفع سلاحا موازيا للدولة وتعمل تحت ظل الدولة. أو احتمالية رهانهم على عامل الزمن الذي قد يحمل متغيرات تغير بوصلة الاهتمام عن الشرق الأوسط.

لكن، ملامح خرائط الصراع بعد مرور سنتين على السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم تعد قائمة على توازن الردع الذي خططت له إيران طوال عشرين عاما. ولا إسرائيل باتت مثل السابق تريد أن تحافظ على أمنها من خلال تأمين حدودها الجغرافية. وإنما يبدو أن لعبة الردع باستخدام فائض القوة وفتح أكثر من جبهة في المعركة والتحول نحو رؤية جديدة لتحقيق أمن إسرائيل بمواجهة كل سلاح يمكن أن يهدد وجودها وكيانها، بدأت تستهوي بنيامين نتنياهو بأن يلعب دور شرطي منطقة الشرق الأوسط الجديد.

إيران في المقابل تريد أن تحافظ على ما تبقى من مناطق نفوذها في لبنان والعراق واليمن. ولذلك هي تؤكد حضورها في تلك البلدان. ولكن نبرة حديثها هذه المرة تشير إلى علاقات ومصالح مشتركة، وابتعدت عن الصوت العالي الذي كان يصدح بوحدة الساحات والقرار يصنع في إيران، ولكنه يعلن في عواصم "محور المقاومة".

ملامح خرائط الصراع بعد مرور سنتين على السابع من أكتوبر، لم تعد قائمة على توازن الردع الذي خططت له إيران طوال عشرين عاما. ولا إسرائيل باتت مثل السابق تريد أن تحافظ على أمنها من خلال تأمين حدودها الجغرافية

أمام هذه التفاعلات الإقليمية، يقف الفاعلون السياسيون في العراق وهم لا يملكون خارطة طريق بشأن رسم سياسة واقعية وبخطوات واضحة. قد يراهن بعض الساسة على أن ما بعد 7 أكتوبر قد كتب شهادة وفاة لمحور المقاومة الذي تقوده إيران. الأمر الذي ستكون نتيجته انكفاء إيران داخل حدودها والتخلي عن استراتيجياتها السابقة لفرض نفوذها في المنطقة. ومن ثم، يمكن استغلال هذه التحولات لفك الارتباط عن إيران، والبدء برسم استراتيجية جديدة للتفاعل مع ترتيبات الشرق الأوسط الجديد.

لا مكان لإيران في رسم ترتيبات الشرق الأوسط الجديد

لا مكان لإيران في رسم ترتيبات الشرق الأوسط الجديد، يبدو أن هذا ما اتفقت عليه القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط. إذ إن هناك ثلاثة محاور هي من تحدد خرائط القوة والنفوذ، وتتصارع لفرض رؤيتها على رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد.

الرؤية الأولى تريد أن تكون بلدان المنطقة هي محور تكامل اقتصادي يربط بين الشرق والغرب، ونموذج للشراكة الفاعلة التي تجمع بين الصين والولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقبل أحداث 7 أكتوبر 2023 وعلى هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، أعلنت السعودية عن خطة تطوير ممر جديد للسفن والسكك الحديدية يربط الهند بالشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.

أ.ف.ب
أنصار حزب الله يلوحون بأعلام حزب الله وإيران والعراق خلال مراسم إحياء الذكرى السنوية الأولى لاغتيال إسرائيل حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 سبتمبر 2025

والرؤية الثانية تحاول فيها تركيا مع حليفتها قطر أن يكون لهما حضور فاعل في رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد، إذ تعمل تركيا بسياسة ملء الفراغ في سوريا ويكون لها حضور في مشروع ترتيب العلاقة بين إسرائيل و"حماس". ومن ثم، هذا المحور يريد أن يكون شريكا فاعلا ومؤثرا وفق الأجندة التي تريد تركيا تنفيذها في محيطها الإقليمي العربي.

الرؤية الثالثة ستطرحها الولايات المتحدة وإسرائيل. وتجمع بين توسيع اتفاقيات السلام بين تل أبيب ودول المنطقة، وسيتم إعادة تسويق الاتفاقية الإبراهيمية، باعتبارها الطريق نحو تحقيق السلام في الشرق الأوسط، ومن ثم الانتقال نحو الشراكات الاقتصادية التي يكون لأميركا وإسرائيل حضور فيها.

"الهلال الشيعي" و"وحدة الساحات" و"محور المقاومة". كل هذه العناوين لن يكون لها حضور في ترتيبات الشرق الأوسط الجديد، ولذلك على ساسة العراق التفكير جديا في مشاريع شراكة اقتصادية تعيد حضور العراق كدولة فاعلة وليس تابعة لسياسة المحاور التي تتصارع على النفوذ في المنطقة بأيديولوجيات دينية-طائفية.

"الهلال الشيعي" و"وحدة الساحات" و"محور المقاومة"، كل هذه العناوين لن يكون لها حضور في ترتيبات الشرق الأوسط الجديد

وليس مستغربا أن نشهد تناقضا في مواقف الكثير من العناوين السياسية بشأن علاقات وتوجهات السياسة الخارجية العراقية مما يؤثر سلبا عليها، إذ إن الكثير منها يعتقد أن بعض الدول الإقليمية ترفض الاعتراف بعناوينهم التي فرضوها على المجتمع العراقي بقوة السلاح أو النفوذ السياسي. ومن ثم تنعكس تلك المشكلة على توجهات الحكومة في رسم سياستها الخارجية وتتحول إلى قيود تعرقل خطوات تطور العلاقات الخارجية واتفاقات التعاون في المجالات الاقتصادية وحتى الأمنية.

أ.ف.ب
القادة في قمة السلام في شرم الشيخ، في 13 أكتوبر 2025

تبدو الفرصة اليوم سانحة أكثر من أي وقت مضى أمام العراق لتحويل الكثير من الشعارات السياسية التي ترفع في اللقاءات والمحافل الإقليمية والدولية، وتنادي بضرورة تطبيق مبدأ مصلحة العراق، وتدعو إلى أن يكون التعامل مع البيئة السياسية والخارجية وفق شعار "العراق أولا". لكن ذلك يبقى مرتهنا برؤية وسياسات القوى الفاعلة في استثمار فكر التعايش الإيجابي مع واقع العراق مهما كان شكل الحكومات أو القوى السياسية التي تقف خلفها. وإدراك القوى الإقليمية أن إقصاء العراق أو بقاءه كدولة فاشلة يؤدي إلى احتمالات معاكسة لما يريده محيطه الإقليمي، ويتم تحويله إلى ساحة لتهديد مصالحه.

وعلى العراق أن لا يظل يتعامل مع محيطه الإقليمي بمنطق ردود الفعل التي تعبر عن عدم وضوح في خطواته للتفاعل الخالي من أي أبعاد استراتيجية أو أفق لشراكة ممتدة. إذ لدى العراق الكثير من المقومات التي يمكن أن تشكل أساسا للتكامل والشراكة الاقتصادية، والقوى الإقليمية العربية تريد أن ترى عراقا مختلفا عن الماضي القريب.

ولكن لحد الآن لا نعرف ماذا تريد القوى الحاكمة في العراق، هل تريده عراقا فاعلا ومتفاعلا مع محيطه الدولي والإقليمي، أم أن يبقى ساحة لاستعراض هيمنة نفوذ القوى الإقليمية؟ وإجابة هذا السؤال يجب أن تكون هي البوصلة التي تحدد آفاق سياسة العراق الخارجية نحو البيئة الإقليمية والدولية.

font change