في فبراير/شباط 1972، حط ريتشارد نيكسون في بكين. مغامرة لرسم الأدوار وشرح الأحجام. لم تكن الزيارة رحلة بروتوكولية، بل عملية جراحية في جسد "الحرب الباردة". مهندس أميركي محافظ يدخل مختبر الثورة ليفحص "الشيوعي الأكبر"، في زمنٍ كان العداء بين العاصمتين جزءا من الخريطة الوراثية لكل منهما.
نيكسون كان يرتدي العباءة البرغماتية في السياسة الأميركية. قبطان يشم بوصلة الرياح. يركب العواصف بالفطرة ويقيس المسافات بالمسطرة، ويحوّل العواصف إلى أشرعة للإبحار. أدرك أن التوازن مع موسكو لا يُصنع في الكرملين بل في بكين، وأن السياسة فنّ إدارة الخصومة لا إشهارها. لا يخاف من المسافات البعيدة وطريق الحرير. يتعامل مع التناقض كفرصة لا كحفرة. بمصافحته لماو تسي تونغ، فتح شريانا جديدا في جسد "الحرب الباردة" وحقن العالم بجرعة وقائية أنهت مرحلة القطيعة بين الشرق والغرب.
أما ماو، فكان في خريف ثورته الطويلة. جسده متعب، ومبادئها ممدودة، والبلاد واسعة، لكن فكره يقظ وعيناه تلمعان. فهم أن الثورة التي لا تركب الرياح تهلك أبناءها وتدفن في فصول ميثاقها وتصدأ في مقابر التاريخ. رأى في زيارة نيكسون اعترافا متأخرا بالتنين الصيني، ونافذة يدخل منها الأوكسجين إلى بيتٍ فاضَ بالشعارات. ميزته أنه كان يعرف متى يستخدم الأيديولوجيا سيفا ومتى يضعها في الغمد ومتى يعلقها على الجدران. قاد الثورة بقبضة من حديد، وأدار التحوّل بأعصاب باردة. فالمصافحة لم تكن توبة عن الماضي ولا خضوعا للمستقبل، بل فتحٌ في جرح عميق ووضعٌ للضمادات الأولى على جروح البلاد المنهكة.
من ذلك اللقاء خرج العالم بوجهٍ جديد. انقشع ضباب "الحرب الباردة". وبدأت شرايين التجارة والسياسة تسري في أجساد مشرقية وغربية. مصافحة واحدة كفيلة بتغيير مسار العولمة قبل أن يُخترع اسمها. ولدت الصين الجديدة من رحم الواقعية الأميركية، وبدأت واشنطن وعينها على موسكو "السوفياتية"، تتعامل مع بكين كرقم لا يمكن تجاهله في المبارزة الكونية.
ترمب من طينة مختلفة. ليس من مدرسة الساسة والمؤسسات، بل من عالم الصفقات والتعريفات والضربات والمصافحات
نصف قرن مضى. نيكسون مضى وبقيت صورته. ماو مضى وبقيت شعاراته. الرياح تغيّرت والأشخاص تبدلوا والزعماء تداوروا. بقيت السجادة وتغير خياطوها وخيوطها. في واشنطن رئيس اسمه دونالد ترمب، وفي بكين زعيم اسمه شي جينبينغ. الأول وريثُ الإمبراطورية الإمبريالية التي بادرت إلى تلك المصافحة، والثاني امتداد الدولة الشيوعية التي مدت أيديها.
ترمب من طينة مختلفة. ليس من مدرسة الساسة والمؤسسات، بل من عالم الصفقات والتعريفات والضربات والمصافحات والتغريدات. يرى السياسة سوقا مفتوحة على المساومة. ميزته أنه يتحرك وسط العواصف بلا خوف، ويظن أن الرياح كلها في صالحه. رجل يخلط بين الغريزة والمصلحة، وبين الجرأة والحساب. أعلن الحرب التجارية على الصين، ورفع شعار "أميركا أولا"، لكنه اكتشف سريعا أن شرايين الاقتصاد العالمي تتفرع من بكين كما تتفرع من نيويورك، و"قلب العالم" ينبض من أحجار سور الصين و"طريق الحرير". لا يستطيع أن يفتح الشرايين من دون أن تنزف واشنطن نفسها ويتعب القلب الأميركي. ومع ذلك، يحاول أن يغيّر اتجاه الرياح، لا وجهتها فقط. يركب القوارب وسط العواصف. يتفنن بالتهديدات والتغريدات.
نيكسون وماو التقيا لكسر جدار العداء، وترمب وشي يقتربان لمحاولة إدارة الاعتماد المتبادل. الأولان أطلقا رياح الانفتاح والتبادلية، والآخران يواجهان عواصف التنافس والحمائية
أما شي جينبينغ، فيحمل في عقله حضارات بعيدة المدى وخطواته منقوشة على السور العظيم و يطوق العالم بـ "الحزام والطريق". يجلس على خريطة واسعة. بنى قوته على الصبر والانضباط، وجعل من الحزب أداة بناء لا سلطة حكم فحسب. يعرف أن العواصف تمر، وأن من يمتلك الجذور العميقة لا يخشى فتح النوافذ. ميزته أنه لا يرفع صوته، لكنه يحرّك اقتصاده كتيار هادئ يحفر ضفاف النهر. يدير الصراع مع واشنطن بمنطق الجرعات لا التغريدات، يقدّم التنازل الصغير ليفوز بالمكسب الكبير، ويشد خيوط اللعبة من دون أن يحرقها.
نيكسون وماو التقيا لكسر جدار العداء، وترمب وشي يقتربان لمحاولة إدارة الاعتماد المتبادل. الأولان أطلقا رياح الانفتاح والتبادلية، والآخران يواجهان عواصف التنافس والحمائية. في زمن نيكسون كانت الواقعية السياسية هي لغة النفوذ، وفي زمن ترمب أصبحت التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي هي أدوات المنافسة.
القمم الكبرى، منذ 1972 وحتى اليوم، ليست سوى محاولات متكرّرة لوضع ضمادات جديدة على جسد عالم لا يهدأ، وليست سوى جراحات مخدرة في مخاض مؤلم لولادة النظام العالمي الجديد
قمة 1972 كانت ضمادة لجروح "الحرب الباردة". وصفة لأمراض مزمنة. القمة المقبلة– إن تمت– قد تكون جراحة دقيقة في جسد النظام الدولي. في الأولى استخدمت أميركا الصين لتعديل التوازن مع موسكو، وفي الثانية تستخدم الصين أميركا لتأكيد أن مركز الجاذبية تحوّل شرقا. بين المصافحتين، تغيّر معنى القوة. لم تعد تُقاس بعدد الجيوش والصواريخ والدبابات، بل بالخوارزميات والمنصات والمسيرات، ومن يتحكم في شرايين التجارة والطاقة والمعرفة والذكاء الاصطناعي. القمة الأولى حددتها برقيات من أشهر. القمة المقبلة قد تُلغى في آخر لحظة، بتغريدة.
نيكسون قدّم تنازلا محسوبا عندما اعترف بمبدأ "صين واحدة". ترمب يلوّح بتايوان كورقة ضغط وإغراء. ماو استخدم الرموز ليكسر العزلة، وشي يستخدم الاقتصاد ليعيد تعريف القيادة. ومع ذلك، يجتمع الأربعة عند حقيقة واحدة، أن السياسة ليست حربا دائمة، بل حياكة للأدوار وتبديل للاتجاهات وركوب على العواصف.
من نيكسون وماو إلى ترمب وشي، تغيّرت الأزمنة وتبدّلت الأدوات، لكن الإيقاع بقي واحدا وإن اختلف العازفون. الصين ما زالت المرآة التي ترى فيها أميركا صورتها، وواشنطن ما زالت الشريك الذي تقيس به بكين مدى صعودها. التاريخ لا يشفى من جروحه، بل يتعايش معها ويداويها.
والقمم الكبرى، منذ 1972 وحتى اليوم، ليست سوى محاولات متكرّرة لوضع ضمادات جديدة على جسد عالم لا يهدأ، وليست سوى جرعات مخدرة في مخاض مؤلم لولادة النظام العالمي الجديد.