زهران ممداني والتغيير الجذري في نيويورك

زهران ممداني يتحدى الرأسمالية في عقر دارها ويتقدم نحو كرسي الحكم بالمدينة

رويترز/أ.ف.ب/ إدواردو رامون
رويترز/أ.ف.ب/ إدواردو رامون

زهران ممداني والتغيير الجذري في نيويورك

تقف الولايات المتحدة على موعد مع لحظة فارقة قد تحدث تغيرات تكتونية في جيولوجيا السياسة الأميركية العتيدة بعد فوز زهران ممداني بالترشح عن حزبه الديمقراطي لتولي منصب عمدة مدينة نيويورك، معقل الرأسمالية العالمية.

آية هذه اللحظة تتجلى في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني حين يخرج مواطنو مدينة نيويورك لاختيار، إما ممداني الشاب المسلم الثلاثيني الذي يتقدم السباق بفارق كبير، أو حاكم ولاية نيويورك السابق أندري كومو الذي يخوض السباق مستقلا بعد اعتماد منافسه من قبل حزبه. كيرتس سليوا الذي يشارك فقط لإثبات الوجود الجمهوري في لعبة هو الخاسر فيها لا ريب.

يقتحم ممداني الميدان ممتطيا صهوة موجة يسارية-اشتراكية جريئة تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في معقل الرأسمالية الأميركية بدعم من ملايين الأتباع من شباب جيل الألفية الطامحين إلى تغيير الواقع المألوف وقلبه رأسا على عقب.

وقد أذكى فوز ممداني بتمثيل "الحزب الديمقراطي" في هذه الانتخابات جذوة السباق وأحدث شروخا في صفوف حزبه، كما أثار حملة عنصرية ضارية مناهضة له في "الحزب الجمهوري"، فضلا عن مخاوف من مغادرة مليارديرات وأثرياء للمدينة، وتهديدات من الرئيس دونالد ترمب بقطع الدعم الفيدرالي عنها.

وأثارت تصريحات ممداني التي يجهر فيها بمعاداته للصهيونية ويندد بما وصفه "الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة" ويؤيد قيام دولة فلسطينية، ويهدد باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا وطئت قدماه مدينة نيويورك موجة من الذعر والاستياء لدى شيوخ حزبه ومن العداء والتشويه في صفوف الجمهوريين.

ممداني، عضو الجمعية النيابية لمدينة نيويورك والمنحدر من أب من أصول أوغندية يعمل أستاذا جامعيا، وأم أصولها هندية تعمل مخرجة سينمائية، سيكون أول مسلم يتبوأ هذا المنصب إذا فاز.

يقتحم ممداني ميدان السياسة معتليا موجة يسارية-اشتراكية جريئة تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في معقل الرأسمالية الأميركية بدعم من ملايين الأتباع من شباب جيل الألفية

ولا يملك منافسه الجمهوري، سليوا، من الأوراق التي تعزز فرصه سوى التقرب من الرئيس ترمب والإشادة ببرامجه على اعتبار أن هذه أقصر الطرق لنيل حظوة عند سكان نيويورك خشية فقدان الدعم الفيدرالي الذي يقدر بنحو 6.5 في المئة من ميزانية المدينة البالغة 116 مليار دولار والتي يعمل بها نحو 300 ألف عامل.

ويستخدم سليوا هذا الكارت لتحذير مواطني المدينة من مغبة انتخاب ممداني وما سيترتب عليه من صراع مع البيت الأبيض قد يحد من قدرة النجم السياسي الصاعد على تنفيذ أي من برامجه الاشتراكية الطموحة والهادفة إلى خفض كلفة المعيشة لقطاع كبير من قاطنيها.  

أما كومو فيستند على تاريخه في إدارة الولاية على مدى عشر سنوات حيث حقق إنجازات عديدة لكن عهده انتهى بفضائح تراوحت بين الفساد والتحرش الجنسي بنحو 11 سيدة.

ولم يخف ترمب رغبته في انتخاب كومو، إذ انتقد ممداني في أكثر من تصريح، واصفا إياه بـ"الشيوعي"، كما أن كومو  يعد من صقور الجمهوريين المتعصبين لإسرائيل وسياستها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

رويترز
حاكم نيويورك السابق والمرشح المستقل لمنصب عمدة مدينة نيويورك، أندرو كومو، يتحدث إلى وسائل الإعلام بعد حملته في كنيسة يونيون جروف المعمدانية في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، 2 نوفمبر 2025.

ويظل كومو يشكل تهديدا لا يستهان به لممداني، لاسيما إذا استجاب غريمه الجمهوري لنداءاته بالانسحاب من السباق. ويحظى كومو بدعم قطاع كبير من الجمهوريين والأثرياء الذين يرون أن ثمة خطورة في انتخاب ممداني بل ويهددون بمغادرة المدينة، كما يستبعدون أي فرص لفوز سليوا، ومن ثم يواصلون مطالبته بالانسحاب.

ولإدراك ما يعنيه فوز يساري اشتراكي مسلم برئاسة هذه المدينة، ينبغي معرفة أن إجمالي الناتج المحلي لمدينة نيويورك الكبرى في 2024 تجاوز تريليوني دولار، وسيكون عمدتها قائدا عاما لشرطة هي الأكبر بالولايات المتحدة حيث يبلغ تعداد أفرادها 33 ألفا تقودها مليارديرة تدعى جيكسيا تيش تخرجت من جامعة هارفارد. تيش التي أعلن ممداني أنه سيبقي عليها في منصبها معتدلة سياسيا ولا تشاطر ممداني الكثير من توجهاته لكنها خبيرة بدهاليز الرأسماليين في المدينة في حين تنقص ممداني تلك الخبرة وخطوط الاتصال وهو ما يشي برغبته في الإبقاء على شعرة معاوية في التعامل مع هذا العالم الضخم والغامض، وطمأنة أصحاب رؤوس الأموال بأن هناك سبيلا وسطا يمكن أن يسلكها لتحقيق برامجه دون أن يجور على مكاسبهم.

ويخوض ممداني الانتخابات على أجندة إصلاحات مغرقة في الطموح تتضمن توفير وسائل انتقال عامة مجانية، وتقديم خدمة رعاية أطفال مجانية، وتشغيل متاجر مدعومة ومملوكة للمدينة، وتجميد الإيجارات على الوحدات السكنية الخاضعة لتنظيم الإيجارات والتي تؤوي أكثر من مليون شخص، وبناء وحدات سكنية بأسعار في متناول الفقراء، والارتقاء بمستوى الأمان، وزيادة الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارا في الساعة بحلول عام 2030. 

التمرد على القوالب السياسية الجامدة

ليس ممداني سوى نتائج موجة تمرد على القوالب السياسية الجامدة والخيارات المحدودة التي انحصرت فيها الديمقراطية الأميركية لعقود من الزمن. هذه الموجة تشتد على مستوى البلاد بشكل خاص بين الأجيال الشابة، كما تعكس الشروخ التي أصابت جدران "الحزب الديمقراطي".

فحتى الآن، أحجمت قيادات الحزب التقليدية، وعلى رأسها زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر عن تأييد ترشح ممداني، بينما لحق زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب حكيم جيفريز بركب المؤيدين مؤخرا، فيما دعمته الجبهة التقدمية والقيادات الشابة بالحزب. واضطرت كاثي هوشول، حاكمة ولاية نيويورك الديمقراطية في النهاية إلى إعلان انحيازها لممداني. ويدعي الرافضون لممداني من الديمقراطيين أن تأييدهم له قد يضر مرشحي الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بالدوائر المتأرجحة. بيد أن فوز ممداني بهامش كبير في هذه الانتخابات من شأنه أن يهدم أصنام الحزب القديمة ويشجع على إحداث تحولات جذرية في هياكله.      

يدعي الرافضون لممداني من الديمقراطيين أن تأييدهم له قد يضر مرشحي الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بالدوائر المتأرجحة

على الجانب الآخر يسعى الجمهوريون جاهدين كي يجعلوا من ممداني، الذي وصفه ترمب بالشيوعي، عنوانا للتطرف اليساري في "الحزب الديمقراطي" مع اقتراب الانتخابات النصفية التي تجرى بعد عام. وقد وصف رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون دعم جيفريز لممداني بأنه "زلزال سياسي" ونجاح لحركة التمرد المتطرفة داخل "الحزب الديمقراطي" وإعلان نهاية الحزب.     

وإذا كان ممداني قد أذكى القاعدة التقدمية اليسارية داخل حزبه، فقد أدخل يديه في أعشاش الدبابير، سواء الجمهوريين أو الديمقراطيين، بتبنيه أجندة تتضمن زيادة الضرائب على الأثرياء لتمويل برامجه "الاشتراكية" وأيضا بجهره بانتقاده لإسرائيل ودعمه للفلسطينيين، وكلاهما من المحرمات عند صقور الحزبين. إلا أن استطلاعا أجراه "غالوب" مؤخرا كشف أن 66 في المئة من الديمقراطيين ينظرون بإيجابية إلى "الاشتراكية" مقابل 39 في المئة للأميركيين عامة.  

أ.ف.ب
أنصار ممداني، يحضرون فعالية انتخابية مع ممداني ومسؤولين منتخبين من مدينة نيويورك في الأول من نوفمبر 2025 في حي كوينز بمدينة نيويورك

ويذكر تسليم الديمقراطيين بترشح ممداني خشية فقدان القاعدة الشبابية الجارفة المؤيدة له والتعرض لانتكاسة انتخابية أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني من العام القادم، يذكر بمسيرة دونالد ترمب الذي أجبرت شعبيته واتساع جبهة صناديد الحزب على قبول زعامته في النهاية.

وقد ذهب منافسو ممداني في خطابهم العدائي والعنصري إلى أن صرح كومو بأن ممداني سيهتف جذلا وينتشي فرحا إذا ما وقع هجوم إرهابي خلال ولايته. لكنه ما لبث أن تراجع عن كلامه فيما بعد مع إصراره على أن ممداني يلعب دور الضحية بينما هو في الواقع يمارس ألاعيب سياسية ويتهاون في مناهضة "العداء للسامية".

وردّ ممداني بأن كومو والجمهوريين يتهمونه بذلك لأنه مسلم، مؤكدا أنه لم يتحدث يوما عن الجهاد ولم يدع يوما إلى "انتفاضة عالمية". بل حرص على مدّ أواصر الود مع الطوائف اليهودية في نيويورك وحظي بدعم وتأييد الكثير من المنظمات اليهودية الليبرالية، سيما تلك التي صدحت برفضها العدوان الإسرائيلي على غزة. لكنه لم يسلم من الهجمات الضارية والمستمرة من اليمين المسيحي المتطرف، واليهود الديمقراطيين بالكونغرس والجماعات الصهيونية من أمثال إيباك.

ورغم كتائب طرق الأبواب في حملته لحشد الناخبين والتي يزيد عدد المتطوعين فيها على الخمسين ألفا، لم يهمل ممداني الصوت اليهودي حتى بات مقبولا لدى الصهيونيين التقدميين، بعد أن أعلن على وسائل التواصل إقراره بفظاعة ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وإن كان قد قرن ذلك بوصف الرد الإسرائيلي بأنه إبادة جماعية. وتتسم الجاليات اليهودية في نيويورك بالتنوع من حيث المواقف السياسية من إسرائيل والفلسطينيين بقدر اختلافهم في الأجيال والطوائف.

مرشح عمدة مدينة نيويورك، زهران ممداني، في مركز ثقافي لكبار السن، حيث شارك في فنون التاي تشي ورقصات ثقافية أخرى في 31 أكتوبر 2025، في مدينة نيويورك

ويتمتع ممداني بالقبول لدى الكثير من شرائح المجتمع من شتى الأعراق، لكن أغلبية مؤيديه ينتمون إلى الشباب الساخط على تغول الرأسمالية واحتكار الثروة وفساد السلطة وتدهور الأوضاع الاقتصادية للطبقة المتوسطة. وقد سلكت حملته منهجا منضبطا نأى عن الصدام بين الثقافات أو الدخول في حرب كلامية مع الرئيس ترمب وركزت بالأحرى على البرامج التي تلمس أوتار المشاكل التي تعاني منها المدينة مع إضفاء روح من التفاؤل والإيجابية في إطلالتها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وعزز ضعف معارضيه ومنافسيه من فرص الصعود وسرقة الأضواء. فسلفه الديمقراطي إريك آدامز الذي يحكم المدينة حاليا ينتمي إلى يسار الوسط ويواجه اتهامات جنائية بالفساد حاول الترشح مرة أخرى إلا أن فرصه تلاشت بعد أن تدخل الرئيس ترمب ووافق على إسقاط هذه التهم عنه مقابل تعاونه مع حملته على المهاجرين بالمدينة. وما لبث آدامز في النهاية أن أعلن دعمه لكومو الذي لطخ تاريخه بالاستقالة مرغما من منصبه السابق كحاكم للولاية عام 2021 إثر اتهامات بالتحرش الجنسي. كما شق ممداني طريقه إلى القلوب بفضل الاستياء الذي يعم غالبية سكان نيويورك الذين تراجع رضاهم عن الخدمات التي تقدمها الحكومة إلى 27 في المئة نزولا من 44 في المئة من ذي قبل.  

بيد أن المعركة الحقيقية قد تشتعل فيما بعد فوز ممداني حيث سيتسلم ميزانية تعاني عجزا يتراوح ما بين 6 إلى 8 مليارات دولار، وسيواجه حربا شعواء من الرئيس ترمب الذي قلص بالفعل الدعم الفيدرالي للبرامج الاجتماعية والإنسانية مثل الرعاية الطبية وكوبونات الطعام وإعانات البطالة وتسببت سياساته في ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة. وتوجه الإعانات الفيدرالية بشكل أساسي إلى مجالات الإسكان والتعليم التي تقع في صلب برنامج ممداني.

وثمة مخاوف من أن يتعمد ترمب وثلة من الأثرياء المناوئين لممداني إفشاله وقطع الطريق على أي محاولات جامحة مماثلة من قبل الاشتراكيين للنخر في عظام الرأسمالية المتجذرة بالمدينة. وسيقع على عاتق ممداني مخاطبة مراكز القوى بالمدينة الغنية للتوصل إلى حلول وسط مع عدم التخلي عن وعوده الانتخابية أو خذلان جماهيره التي باتت تجد فيه الأمل للخلاص من قبضة الرأسمالية.

font change