"نووي إيران"... هل ترمم الفجوة بين ترمب وأجهزة الاستخبارات؟

توجس دفين بين الطرفين منذ انتخابات 2016

الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتجول في يوم فعالية "One Big Beautiful" في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 26 يونيو

"نووي إيران"... هل ترمم الفجوة بين ترمب وأجهزة الاستخبارات؟

ليست المرة الأولى التي تحدث فيها هذه الفجوة، بين أجهزة الاستخبارات الأميركية والرئيس، كما أنها ليست الأولى بين الرئيس الحالي دونالد ترمب وأجهزته.

فثمة جفاء مبيت، وتوجس دفين بين الجانبين، منذ أن انتهت تقارير هذه الأجهزة إلى أن روسيا تدخلت في الانتخابات، التي فاز فيها ترمب أمام هيلاري كلينتون عام 2016 بغية إضعاف فرص غريمته، مما ألقى بظلال من الشك، على شرعية انتخابه، وبث في نفسه شعورا بأن هذه الأجهزة، اختلقت ذلك التقرير إمعانا في تشويه انتصاره.

وخلال ولايته تلك لم يخف ترمب امتعاضه من هذه الأجهزة، التي اعتبرها جزءا من الدولة العميقة المسيسة للتخلص منه. ولم يتمكن من القيام بعملية التطهير الانتقامي، لهذه الأجهزة في ولايته الأولى، في ظل سيطرة الديمقراطيين على أغلبية مجلس النواب، إلى أن غادر منصبه.

وقد تحول انعدام ثقته فيها إلى نوع من العداء، الذي ظل يضمره حتى عاد إلى عرين السلطة في يناير/كانون الثاني 2025 لينفذ عملية طرد واسعة، شملت المئات من عناصر هذه الأجهزة الحساسة وقياداتها.

ثم عاد هذا العداء ليطفو مجددا، بعد تكذيب ترمب لتقارير الاستخبارات، بشأن البرنامج النووي الإيراني، فرغم شهادة تولسي غابارد، التي تحدى ترمب الكثير من الجمهوريين والديمقراطيين من أجل تعيينها مديرا لأجهزة الاستخبارات الثمانية عشر، بأن إيران ليست بصدد بناء سلاح نووي، وبأن المرشد الإيراني علي خامنئي لم يعط أمرا بذلك، رغم ارتفاع معدلات ودرجات التخصيب لليورانيوم، كذب ترمب هذا التقييم وقال: "إنه لا يكترث بما تقول" مؤكدا أن إيران باتت قريبة للغاية من الحصول على قنبلة نووية.

وتماهى ترمب في ذلك مع ادعاءات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ظل يردد منذ عام 2002 بأن طهران أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تصنيع سلاح نووي. وحاول مسؤولو الإدارة الأميركية التخفيف من حدة التضارب، بين تقييم الاستخبارات وتصريحات ترمب بقولهم: "إن تخصيب اليورانيوم يقرب إيران من حيازة سلاح نووي".

وصبيحة الهجوم على المنشآت النووية الرئيسة في فوردو ونطنز وأصفهان، ألقت غابارد باللوم على وسائل الإعلام، التي قالت: "إنها أساءت فهم شهادتها أمام الكونغرس في مارس/آذار الماضي، مؤكدة أنها وترمب على الموجة نفسها. وأوضحت أن الولايات المتحدة تراقب البرنامج الإيراني، وأن مخزون طهران من اليورانيوم المخصب عند أعلى مستوياته، وهذا غير مسبوق بالنسبة لبلد لا يمتلك أسلحة نووية".

كشف الجنرال إريك كوريلا، أن إيران أصبحت قادرة على إنتاج مواد تكفي للحصول على عشرة أسلحة نووية خلال ثلاثة أسابيع. لكنه لم يوضح الفترة التي يمكن أن تستغرقها للحصول على قنبلة نووية

في المقابل كشف الجنرال إريك كوريلا، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، أن إيران أصبحت قادرة على إنتاج مواد تكفي للحصول على عشرة أسلحة نووية خلال ثلاثة أسابيع. لكنه لم يوضح الفترة التي يمكن أن تستغرقها للحصول على قنبلة نووية. وقد أثارت كمية اليورانيوم التي باتت في حوزة إيران شكوك ترمب، في أن تكون لأغراض الاستخدام السلمي.

لكن تراجع غابارد عما ورد في إفادتها أمام الكونغرس، يعزز الشكوك بمدى طغيان الولاء على الشفافية في إدارة ترمب، لاسيما وأنها مرت بالكاد في مجلس الشيوخ، بسبب خبرتها الضئيلة في عالم الاستخبارات، أو في إدارة أجهزة بهذا الحجم وهذه الخطورة. وقد كشف السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، نائب رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، أنه لم يطلع على أي جديد يمكن أن يغير من تقييم القدرات النووية الإيرانية، وفقا لما أدلت به غابارد في مارس الماضي. وصرح رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، بأن لدى إيران من اليورانيوم، ما يكفي لإنتاج الكثير من الأسلحة النووية إذا أرادت. 

رويترز
صورة مصغرة مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد لوجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخريطة إيران تظهر في هذه الصورة التوضيحية الملتقطة في 23 يونيو

 وتصدر السجال بين الاستخبارات وترمب المشهد مرة أخرى، بعد أن أمر الأخير بضرب المنشآت النووية الثلاث في إيران عشية 22 يونيو/حزيران، وأعلن أنه تم تدميرها تماما، وتعطيل البرنامج النووي لإيران لعقود قادمة. وسبب هذا السجال ما نقلته "سي إن إن" و"نيويورك تايمز" عن تقارير أولية للاستخبارات، تؤكد أن الضربات لم تفعل أكثر من تعطيل البرنامج النووي لعدة شهور. كما ذكر التقرير أن إيران نقلت كميات كبيرة من اليورانيوم عالي التخصيب، من المواقع الثلاثة قبل الضربة، فضلا عن أن غالبية أجهزة الطرد المركزي خرجت سليمة.

لكن ترمب نفى ذلك، مصرا على أن إيران، لم تنقل أي كميات من اليورانيوم، أو أي أجهزة للطرد المركزي من المنشآت قبل استهدافها، نظرا لخطورة ذلك وثقل المنقولات. كما نفى وزير الدفاع بيت هيغسيث، وجود أي دليل على نقل هذه المواد.  

أما عن منشأة فوردو، الأهم بين هذه المواقع والمشيدة على عمق يصل إلى 90 مترا في منطقة جبلية وعرة، فأشار التقرير إلى أن مدخلها فقط، هو الذي انهار علاوة على بعض مكوناتها، بيد أن هيكلها لم يُدمر بالكامل.

واتهم ترمب وسائل الإعلام بتحقير الطيارين الأميركيين، والتقليل من شأنهم. وطالب "سي إن إن" بطرد مراسلها الذي نقل التقرير، وإلقائه "كالكلب في الشارع"، فيما نعت صحافيي "نيويورك تايمز" بـ"المرضى السيئين". وورد بالتقرير المنقول أن تقييم الرئيس (بأن المنشآت النووية الإيرانية قد سحقت بالكامل) مبالغ فيه.      

جاءت ردود ترمب الغاضبة، بعد أن زعم في البداية أن تقرير الاستخبارات المتداول من قبل وسائل الإعلام مزيف، وقبل أن يؤكد فريق الأمن القومي التابع للبيت الأبيض أنه حقيقي وصادر بالفعل، عن وكالة الاستخبارات الحربية.

وأعلنت كل من "سي إن إن" و"نيويورك تايمز" دعمهما لمراسليهما، وعزمهما مواصلة نشر كل ما يتعلق بالموضوع، وما يستجد من تقارير أخرى، قد تصدر عن أجهزة الاستخبارات. أما البيت الأبيض فدفع بأن النتيجة الطبيعية، لإلقاء أربع عشرة قنبلة، تزن الواحدة منها 30 ألف رطل على هدفها بدقة هي النسف الكامل.

وخلال مؤتمر صحافي في لاهاي، حيث عقدت قمة حلف "الناتو"، شبه ترمب قوة الضربات للمنشآت الإيرانية بالقنبلتين النوويتين، اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي نهاية الحرب العالمية الثانية. وقال إنها ستعطل البرنامج الإيراني لعقود، مؤكدا أن تقارير الاستخبارات لم تكتمل بعد. ورأى أن هذه الضربات قد ساعدت في وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، مثلما أنهت قنبلتا هيروشيما وناجازاكي الحرب العالمية الثانية. واستشهد ترمب أيضا بتقرير أعدته لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية، يشير في تقديره إلى أن البرنامج النووي الإيراني، قد تراجع لسنوات عديدة قادمة.   

وزير الدفاع بيت هيغسيث، اعتبر أن تسريب مثل هذا التقرير، المفترض أنه سري وأولي، يقتضي تحقيقا أمنيا، لافتا إلى أن المباحث الفيدرالية بصدد تقصي كيفية تسريبه. 

وتشكل هذه الضربات وما تلاها من وقف لإطلاق النار، نصرا سياسيا لترمب، الذي تعرض لانتقادات حادة من قبل أنصاره اليمينيين، بسبب ما رأوا أنه نكوص منه على وعوده الانتخابية، بعدم توريط البلاد في صراعات مسلحة في الخارج قد يعوق مسيرة "الماغا" (حركة اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى).

انتهت أجهزة الاستخبارات الأميركية في جميع تقاريرها التي وضعتها منذ عام 2007 إلى أن إيران تمضي قدما في تخصيب اليورانيوم، لكنها أبدا لم تصنع أي قنبلة نووية

وقد انتهت أجهزة الاستخبارات الأميركية في جميع تقاريرها التي وضعتها منذ عام 2007 إلى أن إيران تمضي قدما في تخصيب اليورانيوم، لكنها أبدا لم تصنع أي قنبلة نووية. وأثار ذلك مداولات كثيرة، حول برنامج التخصيب المدني، وأيضا حول أنشطة بناء القنبلة. وبدا من حالة الغموض التي التزمتها إيران إزاء برنامجها، أن استمرار الشكوك في أنها تمضي نحو امتلاك سلاح نووي، يخدم مصالحها أكثر مما لو امتلكته بالفعل، وهو النهج نفسه الذي تبناه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي كان قد تخلى بالفعل عن برنامجه للحصول على أسلحة دمار شامل في التسعينات، عقب حرب الخليج، لكنه لم يفصح عن ذلك بشكل شفاف سواء للولايات المتحدة أو للأمم المتحدة. وبدا أن غاية صدام من ذلك هي استمرار الإيحاء لدول المنطقة، خاصة إيران، بأنه لا زال يستحوذ على هذه الأسلحة.

ويرى خبراء أن واشنطن لم تفطن إلى هذا النمط من التفكير، ومن ثم أساءت حساباتها، وظنت أن صدام لا زال لديه برنامج لتصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وأوحى ذلك إلى أجهزة الاستخبارات، بوضع تقديراتها المزيفة التي انتهت إلى أنه لا يزال يحتفظ ببرنامجه، مما أعطى الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن المبرر لغزو العراق.

رويترز
صورة جوية لمجمع فوردو التقطت بعد تعرضه لقصف الطائرات الأميركية في 22 يونيو

لكن هذا الخطأ التاريخي، الذي تسبب في تداعيات واسعة النطاق على المنطقة عامة، وعلى العراق، وعلى سمعة الولايات المتحدة وأجهزتها الاستخباراتية، جعل الأخيرة تتحلى بالحذر الشديد في تقييماتها وتقاريرها، التي ترفعها إلى الرئيس منذ نهاية ولاية بوش، وحتى بداية عهد ترمب، رغم تعرضها لضغوط شديدة من إسرائيل.             

لكن ما لبث ترمب أن أعار أذنه لنتنياهو من أجل الإقدام على تدمير البرنامج النووي الإيراني، دون الإكتراث بتقارير الاستخبارات، التي يناصبها العداء بالفعل، بعد حملة التطهير التي أجراها في أروقتها، وطرد الكثير من عناصر مجلس الأمن القومي، الذين يمكن أن يكبحوا جماح قراراته.

وخلص تقرير عام 2011 الذي شاركت فيه جميع أجهزة الاستخبارات الأميركية كما سابقه الصادر عام 2007، إلى أن برنامج التخصيب الإيراني، قد تطور بعض الشيء بحيث يمكن طهران من إنتاج يورانيوم صالح للاستخدام العسكري. بيد أنه أكد أيضا أن إيران لم تحاول بناء قنبلة.

وحتى اليوم، لم تكن تقديرات الاستخبارات قد برحت مكانها، الذي انتهت إليه عام 2011، مع بعض التغييرات التي طرأت على اليورانيوم المخصب، الذي وصفته غابارد بأنه عند أعلى مستوى له من حيث الكم ودرجة التخصيب. إلا أنها أكدت في الوقت ذاته، أن إيران لم تقدم على تصنيع أي سلاح نووي، لأن المرشد الأعلى لم يأمر بذلك بعد. وسارعت غابارد بتبرير قرار ترمب بضرب المنشآت النووية، لكن أجهزة الاستخبارات لم تغير تقييمها. ورغم إصرار إسرائيل، وصقور المحافظين من الموالين لها على أن إيران يمكنها تصنيع سلاح نووي في أقرب وقت، ومن ثم ينبغي وأد هذه المحاولة في مهدها، تدفع أجهزة الاستخبارات الأميركية بأن لديها القدرة والإمكانات، التي تمكنها من رصد هذه المحاولات مبكرا، وضربها قبل أن تتمكن طهران من ذلك.

سرعة تدخل ترمب حالت دون تعرض إسرائيل لمزيد من الدمار، والمخاطرة بتوريط واشنطن في حرب طويلة الأمد، مما يعرض ترمب لانتقادات وخسائر سياسية

ولم يثر إقدام ترمب على ضرب منشآت إيران النووية غضب معارضيه الديمقراطيين، بقدر ما أغضبهم عدم مشاورته لهم أو إخطار الكونغرس بذلك مسبقا، وهو ما أسفر عن الإسقاط السريع لطلب محاكمته، بغية إقالته والذي رفضه جميع الجمهوريين، وعدد كبير من الديمقراطيين.       

وثمة اعتقاد لدى شريحة من المحللين، بأن سرعة تدخل ترمب قد حالت دون تعرض إسرائيل لمزيد من الدمار، والمخاطرة بتوريط واشنطن في حرب طويلة الأمد، مما يعرض ترمب لانتقادات وخسائر سياسية بين صفوف مؤيديه من أنصار "ماغا" الذين انتخبوه على أجندة إعلاء مصالح الولايات المتحدة أولا، وعدم خوض المزيد من الحروب في الخارج.

وفي ظل غموض وقف إطلاق النار، الذي أعلنه الرئيس ترمب من حيث بنوده ومدة سريانه وما سيلي ذلك، أعلن ترمب عن اجتماع مع الإيرانيين الأسبوع القادم. كما طالب ترمب بشكل مباشر، السلطات الإسرائيلية بوقف التحقيقات التي تنتظر نتنياهو في اتهامات بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، توطئة على ما يبدو، لتليين مواقفه بشأن التوصل إلى اتفاق لإنهاء الصراع مع طهران، وأيضا إلى وضع نهاية للحرب في غزة.

font change

مقالات ذات صلة