الانتخابات العراقية... الصدر يحوّل المقاطعة إلى "معركة شرعية"

استلهام التجربة البنغلاديشية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
ملصق لرجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر، يدعو فيه إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة في مدينة الصدر، شرق بغداد، في 29 أكتوبر 2025.

الانتخابات العراقية... الصدر يحوّل المقاطعة إلى "معركة شرعية"

غدا الثلاثاء في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يتوجّه العراقيون إلى صناديق الاقتراع في انتخابات تشكّل اختبارا حاسما لمستقبل النظام السياسي، لكن من دون مشاركة أحد أبرز القوى الشعبية في البلاد، التيار الصدري. فقرار السيد مقتدى الصدر بمقاطعة الانتخابات حوّل هذا الاستحقاق من مناسبة تنافسية إلى لحظة سياسية فارقة تُعيد طرح سؤال الشرعية والمشروعية داخل النظام العراقي. فالمقاطعة هذه المرة لا تأتي كرد فعلٍ مؤقت، بل كخيار استراتيجي يعبّر عن قناعة راسخة بأن النظام السياسي الحالي بلغ مرحلة العطب البنيوي، وأن الإصلاح من داخله أصبح مستحيلا.

مقاطعة التيار الصدري لا تعني الانسحاب من الحياة السياسية، بل تمثل خطوة لزعزعة شرعية النظام الانتخابي القائم

يأتي هذا التحول بعد سنوات طويلة من مشاركة التيار الصدري في العملية السياسية، من البرلمان إلى الوزارات، حيث حاول الدفع بإصلاحات اقتصادية وإدارية ومحاربة الفساد من داخل النظام. لكن بحسب خطاب الصدر، فإن كل محاولات الإصلاح اصطدمت بجدار المصالح والتحاصص وبقوى لا تريد التغيير. هذا الفشل دفعه إلى نقل معركته من داخل المؤسسات إلى خارجها، معلنا أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يُنجز في ظل نظامٍ فاسد، ميليشياوي، طائفي ومنفصل عن هموم الناس.

فقد أعلن الصدر مرارا أنه، هو وتياره، لن يشاركوا لا ترشحا ولا تصويتا، ودعا أنصاره إلى أن يتجاوز عدد المقاطعين عدد المشاركين، بهدف نزع الشرعية عن النظام القائم، ما قد يؤثر على نسب الإقبال، ويغيّر موازين القوى، ويثير تساؤلات حول شرعية نتائج الانتخابات.

أ.ف.ب
لوحات إعلانية انتخابية للمرشحين والكتل المتنافسة في الانتخابات البرلمانية العراقية في نوفمبر 2025

الصدر في بيانه الأخير وضع مجموعة من المبررات السياسية والفكرية لقراره. أبرزها أن تجربة "الإصلاح من الداخل" لم تنجح، وأن المقاطعة هذه المرة تمثل وسيلة سلمية للضغط على الطبقة السياسية وإحراجها أمام الرأي العام. كما طرح خطابا وطنيا يتجاوز المذهبية، مؤكدا أن الهدف ليس الانسحاب من الساحة الوطنية، بل إعادة تعريف دور التيار الصدري كمراقب ومُصلِح من خارج النظام السياسي التقليدي.

البعد السياسي والرمزي للمقاطعة

مقاطعة التيار الصدري لا تعني الانسحاب من الحياة السياسية، بل تمثل خطوة لزعزعة شرعية النظام الانتخابي القائم. فالصدر يسعى إلى أن يكون عدد المقاطعين أكبر من عدد المشاركين، ليوصل رسالة مفادها أن الشرعية الشعبية قد انتُزعت من العملية السياسية، وأن البرلمان المقبل لن يمثل الإرادة العامة للشعب. بهذا، تتحول المقاطعة من سلوك احتجاجي إلى أداة سياسية واعية تسعى لإحداث "صدمة إصلاحية" في البنية السياسية.

التيار الصدري الذي يمتلك قاعدة جماهيرية ضخمة وفاعلة في الشارع العراقي، قادر على التأثير في نسب الإقبال على التصويت. فكل تراجع في المشاركة يُضعف شرعية الانتخابات ويضع القوى التقليدية أمام أزمة تمثيل حقيقية. من هنا، تُقرأ المقاطعة كأداة ضغط غير مباشرة على الطبقة السياسية، ورسالة إلى المجتمع الدولي بأن النظام الحالي لم يعد قادرا على احتضان جميع المكونات الوطنية.

إذا أراد التيار الصدري أن يحوّل مقاطعته إلى أداة إصلاحية حقيقية، فعليه أن يتبنى نموذجا مشابها لتجربة بنغلاديش

ويرى الصدر أن النظام السياسي بعد عام 2003 أصبح رهينة لمعادلات الفساد والمحاصصة والارتهان الخارجي، وأن أي عملية انتخابية تُجرى دون معالجة هذه الجذور لن تفرز سوى نتائج تعيد إنتاج الوجوه نفسها والفشل نفسه. لذلك يدعو أنصاره إلى "مقاطعة الفساد بالإصلاح"، ويُحمّل القوى السياسية مسؤولية انهيار الثقة الشعبية، وتراجع الخدمات، وتآكل سيادة الدولة.

الخطاب الصدري لا يكتفي برفض المشاركة، بل يطرح بديلا إصلاحيا يقوم على تفكيك الميليشيات، وتسليم السلاح إلى الدولة، وتعزيز قدرات الجيش والشرطة، وترسيخ سيادة العراق، ومحاسبة المسؤولين الفاسدين، وتفعيل مؤسسات الأمن والعدالة، وتحرير القرار الوطني من التبعية الخارجية. في هذا السياق، تتحول المقاطعة إلى شكل من أشكال المقاومة السياسية، هدفها بناء دولة قوية لا تخضع لإملاءات الخارج ولا للابتزاز الداخلي.

دروس من تجربة بنغلاديش 1996

تُظهر تجربة بنغلاديش عام 1996 أن المقاطعة يمكن أن تكون وسيلة إصلاح ناجحة إذا تحولت إلى مشروع وطني منظّم. ففي تلك السنة، قاطعت المعارضة الانتخابات نتيجة فقدان الثقة في نزاهتها وشفافيتها، فانخفضت نسبة المشاركة إلى نحو 21 في المئة فقط، ما أدى إلى أزمة شرعية كبرى أجبرت الحكومة على الاستقالة بعد 12 يوما وتشكيل حكومة انتقالية محايدة أشرفت على انتخابات جديدة أكثر نزاهة. هذه التجربة أثبتت أن المقاطعة، عندما تكون جزءا من تحرك شعبي منظم وضغط سياسي مستمر، قادرة على فرض إصلاحات جوهرية.

أ.ف.ب
مقتدى الصدر يلقي كلمة في مدينة النجف جنوب العراق في الأول من مايو 2025.

نجاح المقاطعة في بنغلاديش لم يكن بسبب الامتناع وحده، بل نتيجة حراك شعبي منظم، وضغط جماهيري مستمر، ومطالب محددة قابلة للتنفيذ. بمعنى آخر، المقاطعة تحولت من موقف احتجاجي إلى أداة سياسية متكاملة تستند إلى دعم الشارع والضغط المؤسسي المتزامن. هذه التجربة تؤكد أن المقاطعة يمكن أن تكون ناجحة عندما تلتقي ثلاثة عناصر: وحدة القوى المقاطعة خلف هدف واحد، ووجود بديل سياسي واضح المعالم، وتفعيل الضغط الشعبي السلمي المتواصل.

إذا أراد التيار الصدري أن يحوّل مقاطعته إلى أداة إصلاحية حقيقية، فعليه أن يتبنى نموذجا مشابها لتجربة بنغلاديش. أي أن تكون المقاطعة مرحلة أولى من مشروع وطني واسع يهدف إلى فرض إصلاحات محددة، مثل حصر السلاح بيد الدولة وإنهاء نفوذ الميليشيات، ومحاسبة الفاسدين وتحرير القرار الوطني من التبعية الخارجية. 

السؤال الأكثر إرباكا الذي تطرحه هذه المقاطعة هو: ماذا لو نجحت؟ ماذا لو تحولت المقاطعة إلى زلزال سياسي حقيقي يهز أركان النظام؟

كما أن نجاح هذا النموذج يتطلب تحركا مجتمعيا واسعا يتجاوز التيار الصدري نفسه في هدف إصلاح النظام أي أن يحوّل المقاطعة من موقف احتجاجي إلى أداة ضغط إصلاحية جماعية، تجمع حولها التيارات الوطنية والقوى المدنية. حينها، يمكن أن تتحول المقاطعة إلى لحظة مفصلية تُجبر الطبقة السياسية على التراجع أمام الإرادة الشعبية، كما حدث في بنغلاديش، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الإصلاح السياسي الحقيقي في العراق.

من المعارضة إلى مشروع نزع الشرعية

غياب التيار الصدري عن الانتخابات سيترك فراغا كبيرا في الخريطة السياسية. فمن جهة، قد يفتح المجال أمام قوى أخرى لملء هذا الفراغ، خصوصا الفصائل الموالية لإيران التي تمتلك تنظيما محكما وقواعد تصويت ثابتة. ومن جهة أخرى، قد يؤدي انخفاض الإقبال إلى أزمة شرعية دستورية وأخلاقية للنظام الانتخابي، مما يضع الحكومة المقبلة أمام معضلة التمثيل الشعبي.

أ.ف.ب
أنصار مقتدى الصدر يرددون شعارات ويلوحون بالعلم الوطني أثناء مسيرتهم احتجاجًا على الضربات الإسرائيلية على إيران في الكوفة خارج مدينة النجف بوسط البلاد في 20 يونيو 2025

كما أن استمرار المقاطعة قد يُعيد إنتاج حالة الشارع المفتوح، أي تحويل الشارع إلى ساحة ضغط سياسي موازٍ للمؤسسات الرسمية. التيار الصدري أثبت في أكثر من مرة أنه قادر على تحريك الشارع، لكن هذا الخيار يبقى محفوفا بالمخاطر إذا لم يُترجم إلى مسار إصلاحي منضبط ضمن الأطر السلمية.

مقاطعة التيار الصدري ليست انسحابا سياسيا، بل إعادة تموضع في مواجهة منظومة يراها فاسدة ومنهارة. هي محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الشعب والدولة، وإجبار النظام السياسي على مواجهة فشله من دون غطاء شعبي. لكن نجاح هذا الخيار مرهون بقدرة التيار على تحويل المقاطعة من موقف احتجاجي إلى مشروع وطني شامل، وإقناع الشارع العراقي بأن الإصلاح لا يمر عبر صناديق اقتراع بلا ثقة، بل عبر إعادة بناء الدولة من أساسها. بهذا المعنى، فإن مقاطعة الصدر ليست نهاية المشاركة السياسية، بل بداية معركة جديدة لإعادة تعريف الشرعية في العراق بين السلطة والشعب، بين الفساد والإصلاح، وبين من يملك الدولة ومن يريد إنقاذها. 

لكن السؤال الأكثر إرباكا الذي تطرحه هذه المقاطعة هو: ماذا لو نجحت؟ ماذا لو تحولت المقاطعة إلى زلزال سياسي حقيقي يهز أركان النظام؟ حينها لن يكون التحدي أمام التيار الصدري هو كيف يهدم النظام القديم، بل كيف سيبدل حالة الاحتجاج والرفض هذه برؤية دولة جديدة قادرة على استيعاب تناقضات المجتمع العراقي وتحقيق ما عجزت عنه كل الحكومات المتعاقبة. النجاح في نزع الشرعية قد يكون أسهل من النجاح في بناء البديل، وهنا تكمن المفارقة الأعمق لمعركة الصدر، أن تحويل الرفض إلى مشروع دولة قد يكون اختبارا أصعب من تحدي النظام القائم ونزع شرعيته.

font change