يواجه العالم اليوم تحديا وجوديا لم يسبق له مثيل في تاريخه الحديث، تغير المناخ. فدرجات الحرارة ترتفع بوتيرة أسرع مما كانت عليه في أي فترة زمنية موثقة، والظواهر الجوية المتطرفة – من فيضانات وجفاف وحرائق غابات – باتت مشهدا متكررا في نشرات الأخبار. لكن ما يبدو في ظاهره أزمة بيئية هو في جوهره تحد حضاري شامل، إذ يعيد تشكيل مفهوم النمو الاقتصادي، ويختبر مدى استعداد الدول لتبني نموذج تنموي يوازن بين التطور الصناعي وحماية الكوكب. وفي هذا السياق، لم تعد معالجة الانبعاثات الكربونية قضية علمية فحسب، بل قضية سيادية واستراتيجية تتعلق بمستقبل الدول ومواردها وهويتها الاقتصادية.
خلال العقود الماضية، ارتبطت اقتصادات الخليج – وفي مقدمها السعودية – بالهيدروكربونات التي شكلت عمودها الفقري ومصدر قوتها العالمية. غير أن هذا الارتباط بدأ يعاد النظر فيه اليوم تحت ضغط الواقع المناخي الجديد، وفي ظل تطورات السوق العالمية للطاقة التي تميل نحو البدائل المتجددة. لم يعد العالم يقيس النفوذ فقط بما تحت الأرض، بل أيضا بما يزرع فوقها ويبتكر في مختبراتها ومشروعاتها الخضراء. وهنا برزت دول الخليج كمحور جديد في معادلة المناخ العالمي، لا بوصفها جزءا من المشكلة فحسب، بل كشركاء فاعلين في الحل.
لقد كانت السعودية – الدولة التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم – تدرك منذ وقت مبكر أن مكانتها الاقتصادية لا يمكن أن تبقى رهينة لنموذج يعتمد على الوقود الأحفوري وحده. فمع التحولات المتسارعة في أسواق الطاقة والضغوط الدولية للحد من الانبعاثات، كان من الضروري إعادة تعريف "الثروة" بمعناها الحديث، أي ثروة مستدامة تحمي البيئة وتستثمر في الإنسان. ومن هذا المنطلق جاءت"رؤية السعودية 2030"، التي وضع أسسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لتؤسس لحقبة جديدة من النمو القائم على التنويع الاقتصادي، وكفاءة الموارد، والابتكار في مجال الطاقة النظيفة.
وفي قلب هذه الرؤية، تبرز مبادرة السعودية الخضراء بوصفها الإطار البيئي الشامل الذي يجمع تحت مظلته جهود المملكة نحو تحقيق التنمية المستدامة. أطلقت المبادرة للمرة الأولى عام 2021 لتكون منصة وطنية لتنسيق السياسات والمشروعات البيئية، وتحديد المسار الذي تسير فيه البلاد نحو مستقبل منخفض الكربون. وهي ليست مبادرة رمزية أو دعائية، بل خطة علمية وعملية محددة بالأرقام والبرامج، تهدف إلى إعادة صوغ علاقة الإنسان السعودي ببيئته، وتوسيع نطاق المسؤولية البيئية من الحكومة إلى المجتمع بأسره.
محاور استراتيجية
ترتكز المبادرة على ثلاثة محاور استراتيجية كبرى، هي خفض الانبعاثات الكربونية، والتشجير، وحماية الأراضي والبحار. فمن حيث خفض الانبعاثات، تستهدف المملكة تقليصها بما يعادل 278 مليون طن سنويا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2030، وهو رقم ضخم يضع السعودية ضمن الدول العشر الأكثر طموحا في سياساتها المناخية. أما الهدف الأبعد، فيتمثل في الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060، أي التوازن الكامل بين الانبعاثات الصادرة وتلك التي يتم امتصاصها أو معادلتها، دون التأثير سلبا على نمو الاقتصاد أو أمن الطاقة.


