"أورويل 2+2=5" و"شاعر" وصورة الفنان في أزمنة الانحطاط

كرما في الدورة الثامنة من "الجونة السينمائي"

ملصقا فيلمي "شاعر" و"أورويل 2+2=5"

"أورويل 2+2=5" و"شاعر" وصورة الفنان في أزمنة الانحطاط

حصد الفيلم الوثائقي "أورويل 2+2=5" جائزة نجمة الجونة البرونزية ضمن فئته في الدورة الثامنة من "مهرجان الجونة السينمائي"، في حين فاز الروائي "شاعر" بجائزة نجمة الجونة الذهبية في فئته، ولعلهما بالفعل الأفضل هذا العام في سياق صناعتهما في لحظة صعبة فنيا.

تأتي استثنائية "أورويل 2+2=5" للمخرج الهاييتي راؤول بيك، من كونه يجمع بين الأدب والسينما، حقيقة لا مجازا. يعتمد الفيلم على حياة الكاتب جورج أورويل، التي جعلته يتخيل ديستوبيا روايته الأشهر "1984"، ليعطيها المخرج بعدا بصريا عالميا في لحظة بعيدة عن القديم، ليست متجاوزة له، بل متجاورة تماما لم يخرج منها العالم بعد. يوحد الزمن ضد السلطة، عموما، ويخلق من المستقبل ديستوبيا تحدث عنها كاتب رحل قبل عقود بنظرة ثاقبة تستحق الخلود.

أما استثنائية فيلم "شاعر" (Un Poeta) للمخرج الكولومبي سيمون ميسا سوتو في عمله الأول الطويل، فمختلفة تتعلق بمدى الجماهيرية التي حققها، مقارنة بموضوعه. وربما حتى لم يكن مفاجئا حصوله على جائزة أفضل فيلم روائي في "مهرجان الجونة السينمائي" قبل أيام. إذ يحمل الفيلم أبعادا فنية بات من الصعب تحقيقها عربيا خصوصا بالنظر إلى موضوعه الدقيق: كيف يعيش فنان في لحظة منحطة اجتماعيا وسياسيا لم تعد تؤمن بالشعر والشاعر ولا تؤمن حياته على الإطلاق؟ ثمة تأويلات عدة في فيلم لا يبدو كئيبا، على الأقل ظاهريا، إذ يتمتع بحس كوميدي وخطابي نبيه.

الفيلمان يتحرك خطابهما من الاعتماد المباشر على حياة فنان/ كاتب. سواء الحقيقي جورج أورويل، الضابط الإنكليزي الذي عاد ليكتب مآسيه التي عايشها وسط المستعمرات الإنكليزية، والتي جعلته يظن من خلالها أن العالم في طريقه الى التحلل والانهيار، أو الشاعر المتخيل أوسكار، الأكثر سذاجة وصدقا، العاجز عن تأمين حياته لكتابة الشعر فقط.

الفيلمان يتحرك خطابهما من الاعتماد المباشر على حياة فنان/ كاتب، سواء الحقيقي جورج أورويل أو الشاعر المتخيل أوسكار

وبينما ظل الفيلم الأول محافظا على أرشيف ضخم انطلاقا من فهمه الجيد لطبيعة نوعه، وأن جمهوره الحقيقي يحتاج إلى البحث المضني والأرشيف أكثر من الخفة لإثبات وجهة نظره، استطاع "شاعر" أن يكسر التوقعات بعمل فيلم يظن الجمهور أنه كئيب بينما يسخر فيه الرجل من كل شيء، يحوله الى كوميديا سوداء يتعاطف معها المشاهد دون أن يحزن لحال الفنان.

سخرية تتساءل عن معنى الحياة

بعد فيلم قصير قدمه المخرج الكولومبي سيمون ميسا سوتو عام 2014 وحصد عليه جائزة من "مهرجان كان السينمائي"، جاء فيلمه الطويل الأول الذي عرض في "كان" أيضا وحصل على جائزة لجنة التحكيم من مسابقة "نظرة ما".

كسر الفيلم توقعات جمهوره تماما، أو بالأحرى كسر التوقع المبدئي البديهي بأننا أمام فيلم عاطفي سنتيمنتالي بالضرورة ربما لارتباط الأسى بالشعر والشعراء عموما. فالمخرج يحول تلك النظرة النمطية عن الشعراء إلى سخرية لا تقلل منهم ولا تتعالى عليهم. هنا السخرية من الجميع، وعلى مسافة من الكل أيضا.

Valery HACHE / AFP
المخرج والكاتب والمنتج الكولومبي سيمون ميسا سوتو خلال جلسة تصوير لفيلمه "شاعر" في الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي، 20 مايو 2025

يعتمد المخرج إذن على قصة شاعر بائس تماما (يؤدي دوره الممثل غير المحترف أوبيمار ريوس) ويعرضها بسخرية مفرطة. لا تتهكم تلك السخرية على بطلها، ولا تقدمه خطوة على الآخرين الذين لا يفهمونه، وربما لن يفهموه البتة. تصبح تلك نقطة القوة الأولى في العمل الذي ينشغل بقصة تطور الشاعر الفنان في علاقته مع العالم دون التركيز على سوء الفهم المتبادل بينه وبين الآخرين الذين يجدون توقفه عن العمل والتفرغ لكتابة الشعر محض فشل وجنون.

منذ تتر البداية، يبدأ كسر ذلك الإيهام الحميمي للسرد. يعرض التتر الأسماء على إيقاع موسيقي أوبرالي هادئ، ثم بسرعة مطلقة سيعتاد عليها المشاهد لاحقا، يبدأ بسرد قصة البطل التي يقسمها أربعة أجزاء، تبدأ بـ"الفشل" وتنتهي بـ"قصيدة". وربما من ذلك بدا الانشغال اللافت والحميمي للفيلم بأن "فشل" الفنان منذ البداية أو ربما رحلته كلها لم يكن لأنه لا يعمل أو لا يدير علاقته مع الآخرين بذكاء، بل لأنه لم يكن مؤهلا بعد لكتابة قصيدة مثالية. إنتاجه الفن هو المعضلة، وليس أي شيء آخر.

وبينما يبدو الفيلم أحيانا ساخرا من الصعلكة الاختيارية التي يعيشها البطل مدمن الكحول، والعالة على والدته المسنة، يبدو في اللحظة ذاتها أنه يبحث من خلاله عن حياة فنان تبدو في حد ذاتها قصيدة. الأمر هنا أنه ليس مجرد تخيل الشعر أو تعلمه، بل عيشه واقعا. العيش كقصيدة تمشي في الطرق، هكذا يصبح البطل في رحلته.

ملصق فيلم "شاعر"

تقف حبكة الفيلم على المفارقة التي يفكر فيها البطل الذي يبدو أشبه بطفل ساذج لم يؤهل بعد لمواجهة عالم مادي شرير. رجل مهووس بالتفرغ للكتابة، في اللحظة ذاتها يبحث عن كل شيء يرضي به ابنته التي تعيش مع طليقته. فقط ابنة الشاعر الساذج ووالدته، هما محطة التوقف لديه. كل الآخرين ضد موقفه من العالم. وربما لذلك يصبح عالمه مستغلقا عليهما بشكل مباشر أو غير مباشر. حتى الطفلة التي يجدها في المدرسة تكتب الشعر وتحرك كل أحداث العمل، هي مجاز ابنته البعيدة عنه.

لذلك، تصبح الفتاة الصغيرة هي محركه، قصيدته الوحيدة التي يحاول من خلالها على مدار الفيلم الوصول إلى الشعر، وصولا إلى القصيدة التي تقدمه شاعرا حقيقيا والتي تأتي من وحي وجودها. استخدم الشاعر في بداية قصيدته وصف نفسه كـ"ديناصور". بدت تسمية ملهمة تماما لتخيل حياته كلها. طريقة عيش تكاد تنقرض بالقوة، ورغبة عارمة من رجل متواضع في العيش. هنا بدا الفيلم فعلا قصيدة طويلة خفيفة العرض ثقيلة الأثر عن مفارقة أن تعيش فنانا في لحظة منحطة.

بينما يبدو الفيلم أحيانا ساخرا من الصعلكة الاختيارية التي يعيشها البطل، يبدو في اللحظة ذاتها أنه يبحث من خلاله عن حياة فنان تبدو في حدّ ذاتها قصيدة

مونتاج يقطع اكتمال الأشياء في بداية الفيلم بشكل كوميدي سرعان ما يهدأ في نصف العمل الثاني مع نضج البطل. هنا عمل محكم تماما، بسيط في طريقة عرضه لقضية تضرب عميقا في الجذور. في إنتاج الفن وخارجه، لدينا حياة كاملة تتجاوز كولومبيا، بلد الفيلم، لتتماس مع اللحظة كلها فنيا، في عالم يتحول فيه الشاعر إلى ديناصور يقاوم ليعيش. وبينما قد يراه البعض ساذجا عديم الفائدة، يبدو مع نهاية الفيلم ربما الوحيد الذي يدرك فعلا كيف يجب أن تعاش الحياة.

ملصق فيلم "أورويل 2+2=5"

هل تجاوز العالم نظرة أورويل المتشائمة؟

في آخر مشهد من هذا الوثائقي الطويل والمجهد تماما، يموت الكاتب جورج أورويل الذي نستمع إلى قصته بالتقاطع مع حكايات أخرى، بالتوازي مع مشهد سيدة سوداء تحمل ابنها في فقر مدقع. على إيقاع الصورة، نسمع صوت أنفاس تكاد تحتضر، أو أشبه بنفس أسد ذهب صوته من الزئير. يتوقف الزمن عند لحظة يكاد يحتضر فيها الإنسان بسبب سياسات متحللة ومشؤومة تدير العالم بغباء مطلق. ومن هنا نغوص أكثر في النظرة المتشائمة التي يتحرك خلالها الفيلم من البداية.

Wikimedia Commons
جورج أورويل

رواية أورويل "1984" المعروفة لكل محبي الأدب في العالم، والتي منعت لسنوات، تحكي ببساطة قصة بلد متخيل يحكم بالقوة، وتفرض فيه على الجميع أفكار تستبعد المنطق، تماما كما يجبر النظام أفراده على اعتبار أن 2+2= 5 دليلا مفرطا على التخلي عن المنطق في تلك المدينة غير الواقعية.

Sameer Al-Doumy / AFP
المخرج والمنتج الهايتي راؤول بيك

يقدم المخرج راؤول بيك المهووس بالتفسير السياسي للعالم تلك النظرة تحديدا، باحثا في أرشيف السينما عن الرواية التي اقتبست بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عدد كبير من الأفلام، تأكيدا لسيطرة الأنظمة الشمولية المتخيلة في حالة أورويل كأنها هي ذاتها التي يعيش معها الإنسان اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، مع حكومات تلغي المنطق تماما. ثمة فارق وحيد أن هذا الواقع بات هنا والآن، بعكس الرواية لم يعد محض خيالات. يأخد الفيلم خطوات جريئة تماما ليورط الحكام الحاليين للعالم باعتبارهم المستفيد الأكبر من تلك الشمولية التي يعيشها العالم، وحصة الأسد هنا هي للرئيس الأميركي دونالد ترمب.

ربما ما يجعل هذا الفيلم متفردا، هو الإيقاع المونتاجي التحليلي الذي يبرهن فيه على امتلاء العالم بحكومات فاسدة شمولية، وصولا إلى الرأس الأكثر فسادا في أميركا. يبدو الأمر أشبه بمسألة رياضية معقدة تجد إجابتها النهائية في إدانة الجنون الأميركي. يعتبره المخرج وفق رؤية أورويل "الأب الملك/ الأخ الأكبر" الذي يقود الجميع إلى الهاوية. تتوقف المجازر والحروب والمجاعات في العالم على أعلى نقطة يعتمد عليها الفَسَدَة لاستكمال هيمنته، أي عند رئيس أقوى دولة على الإطلاق.

ومثلما يذهب الرجل إلى مجاعات البلاد السمراء في أفريقيا، يأتي لاحقا للتأمل البصري في الجنون الذي يحدث في غزة، على مدار سنوات طويلة سبقت العامين الأخيرين اللذين شهدا إبادة كاملة. حتى تلك النقطة يحملها الرجل على الحكومات الشمولية التي كان يمكنها -لو أرادت فعلا- إيقاف ذلك في فلسطين وخارجها. هذه نظرة ثاقبة في المرور العابر إلى الأسباب الكبرى دون التوقف كثيرا عند إدانة الكومبارس هنا أو هناك.

ما يجعل هذا الفيلم متفردا، هو الإيقاع المونتاجي التحليلي الذي يبرهن فيه على امتلاء العالم بحكومات فاسدة شمولية، وصولا إلى الرأس الأكثر فسادا في أميركا

 

على مدار ساعتين يفكر المشاهد في مدى تشابه الخيالي لدى أورويل بالواقعي الذي يعيشه. لحظة لا تكاد تنتهي من الجنون العام الذي يفرض نفسه. يسحق الفيلم جمهوره ويقودهم نحو الغضب الضروري. يسخر من رجل أميركا الأكبر بعدما أدانته غالبية المؤسسات في بلاده وخارجها، وسخرت من عقله وعمله. وبينما لا يقدم الفيلم حلا، يترك الأمر وثيقة بصرية تثبت أننا لم نتجاوز الديستوبيا. هنا كذلك بدت حياة الفنان ذاتها قصة مثالية للحكي الواقعي عن العالم.

font change

مقالات ذات صلة