كيف تحوّل موسم الزيتون في الضفة الغربية إلى معركة بقاء؟

المزارعون الفلسطينيون عرضة لتضييق المستوطنين والجيش الإسرائيلي

لينا جرادات
لينا جرادات

كيف تحوّل موسم الزيتون في الضفة الغربية إلى معركة بقاء؟

رام الله- يأتي موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية عادة باعتباره موعدا اقتصاديا وعمود رزقٍ لآلاف الأسر الفلسطينية، غير أن مشهد هذا العام بدا مختلفا كليا. فقد تحوّل موسم الرزق إلى ساحة اشتباك منخفض الحدة، تتقاطع فيها اعتداءات المستوطنين المتزايدة، والإغلاقات العسكرية، وتوتر أمني متصاعد، وسط غياب شبه تام لأي آليات حماية فعّالة للمزارعين.

فقد تحول الموسم من مناسبة فلاحية وطقس تراثي إلى معركة بقاء اقتصادية وإنسانية للفلسطينيين حيث تبرز في خلفية هذا المشهد أزمة معيشية خانقة بعد انهيار مصادر الدخل الرئيسة الثلاثة: تعثر أو تأخّر رواتب شريحة واسعة من موظفي القطاع العام في السلطة الفلسطينية، توقف عشرات آلاف العمال عن الوصول إلى أعمالهم داخل إسرائيل، وتراجع الحركة التجارية بين الضفة ومدن الداخل، ما جعل من "زيت السنة" المورد الأخير لعشرات آلاف العائلات، قبل أن يتحوّل إلى ساحة مواجهة عنيفة بين المستوطنين والجيش الإسرائيلي من جهة والمزارعين الفلسطينيين من جهة أخرى في مشهد يمكن تسميته "حرب الزيتون".

وتزامن موسم القطاف هذا العام مع الهدنة الهشّة في غزة، فانعكست تداعيات الحرب على الحياة اليومية في الضفة، حيث سجّلت منظمات حقوقية وناشطون ارتفاعا غير مسبوق في اعتداءات المستوطنين على عشرات القرى الفلسطينية المحاذية للمستوطنات ومنع وصول المزارعين إلى الكروم، والاعتداء على القاطفين، وسرقة المحاصيل وحرق الأشجار وتدمير المعدات الزراعية، وإطلاق النار المباشر، كما حدث في محافظة طوباس شمال الضفة الغربية، حيث ترافق ذلك مع إجراءات عسكرية إسرائيلية شملت إغلاقات طرق فرعية ورئيسة وعمليات دهم متكررة، ما قلّص الوقت المتاح لقطف الثمار ونقلها إلى المعاصر، وتسبب بخسائر كبيرة في المحصول نتيجة التأخير، وحرمان مئات العائلات من الوصول إلى أراضيها في الأيام "الذهبية" التي يحددها الجيش الإسرائيلي عادة للتنسيق، فيما لم يوفر أية حماية لمزارعي الزيتون أمام اعتداءات المستوطنين، بل شارك في أحيان كثيرة في منع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم.

وقال رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مؤيد شعبان إن الجيش الإسرائيلي والمستوطنين نفذوا ما مجموعه نحو 340 اعتداء ضد قاطفي الزيتون منذ انطلاقة الموسم في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول وحتى هذه اللحظة، كما سجل الموسم الحالي 92 حالة تقييد حركة وترويع لقاطفي الزيتون، إضافة إلى 59 حالة للضرب والاعتداء بحق المزارعين.

موسم الزيتون في الضفة الغربية هذا العام شهد أعلى مستوى من هجمات المستوطنين منذ 5 سنوات، حيث فرض مستوطنون من بؤر جديدة قيودا على الوصول إلى الحقول في مناطق عديدة

وبيّن شعبان، أن هذا الموسم، يعد الأصعب والأخطر في العقود الأخيرة، نظرا لاستغلال الجيش والمستوطنين لأنظمة الحرب في تنفيذ اعتداءاتهم مدعومين بالكثير من السياسات والتشريعات التي تعزز حالات الاعتداء والإرهاب والتضييق لا سيما إغلاق المدن والقرى وتسليم الأسلحة لميليشيات المستوطنين، والأخطر من ذلك إعفاؤهم من المساءلة والمحاكمة، مضيفا أن هذا الموسم شهد إمعانا في فرض المناطق العسكرية المغلقة على الأراضي الزراعية، مشيرا إلى أن هذه الممارسات تسعى لتفريغ الريف الفلسطيني من سكانه تدريجيا عبر خلق مناخ خوف دائم يجعل الوصول إلى الأرض مغامرة مكلفة.

وأضاف، أن 125 عملية اعتداء تعرضت لها الأراضي المزروعة بالزيتون في الموسم الحالي، منها 170 عملية قطع وتكسير وتجريف أراضي مزروعة بالزيتون أدت إلى تخريب ما مجموعه 1200 من أشجار الزيتون.

وبيّن شعبان أن المعطيات الرقمية تشير إلى أنه باتت هناك سياسة ممنهجة لاستهداف موسم الزيتون الفلسطيني، حيث تصاعدت الاعتداءات بدءا من موسم 2022 بـ136 اعتداء إلى 333 اعتداء في موسم 2023 وصولا إلى 407 اعتداءات لعام 2024 ونحو 340 اعتداء حتى اللحظة للموسم الحالي، مما يوضح- وبما لا يدع مجالا للشك- حجم الاستهداف الذي يتعرض له المزارعون الفلسطينيون.

رويترز
مستوطن إسرائيلي يتجادل مع مزارع فلسطيني أثناء حصاد الزيتون في سلواد، بالقرب من رام الله، في الضفة الغربية المحتلة، 29 أكتوبر 2025.

وفي السياق نفسه، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في بيان له أن موسم الزيتون في الضفة الغربية هذا العام شهد أعلى مستوى من هجمات المستوطنين منذ 5 سنوات، حيث فرض مستوطنون من بؤر جديدة قيودا على الوصول إلى الحقول في مناطق عديدة.

يعيش في الضفة الغربية 650 ألف مستوطن يتوزعون على 147 مستوطنة و271 بؤرة استيطانية، فيما ينشط المئات ممن يطلق عليهم تسمية "فتيان التلال" و"فتيات التلال" من المستوطنين بتنفيذ اعتداءات عنيفة منظمة ضد الفلسطينيين تتمثل بحرق البيوت والمركبات والمساجد والكروم والأشجار والمحاصيل الزراعية وتحطيم المركبات ومعدات الطاقة الشمسة أو الزراعية وتدمير شبكات المياه والاعتداءات الجسدية ضد المواطنين التي تصل أحيانا حد إطلاق النار والقتل.

وكان مقطع فيديو قد أظهر مستوطنا إسرائيليا ملثما وهو يحمل عصا غليظة مزوّدة بمسامير، ويهاجم بعنف المسنّة الفلسطينية عفاف أبو عليا بضربات متكرّرة على رأسها ويديها حتى سقطت أرضا مغمى عليها أثناء قطفها الزيتون قرب قرية ترمسعيا شرق مدينة رام الله بالضفة الغربية في 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي قبل أن يعتدي على اثنين من المتضامنين الأجانب في المكان نفسه مما أدّى إلى كسر يد أحدهما.

وقالت أبو عليا- وهي من قرية المغير التي تتعرض يوميا لاعتداءات المستوطنين- لـ"المجلة": "عندما وصلنا كرم الزيتون قرابة الثامنة صباحا وبدأنا عملية القطاف لم نكن نعلم أن المستوطنين يختبئون بين الأشجار المجاورة وباغتونا بالهجوم بحيث لم نتمكن من الهرب، وبدأ أحد المستوطنين بضربي على يدي ورأسي بعصا تحتوي على مسامير وفي تلك اللحظة أدركت أنني سأفارق الحياة لا محالة، ووقعت أرضا ثم فقدت الوعي ولم أستيقظ إلا في المستشفى".

وقد أمضت أبو عليا أربعة أيام للعلاج بالمشفى لكنها غير قادرة على نسيان ما حدث لها من ضرر جسدي ورعب.

كل غياب قسري بسبب خوف أو إغلاق يخلق فراغا تستغله الجماعات الاستيطانية لتسييج الأراضي أو شق طرق ترابية جديدة

لقد أصبحت "حرب الزيتون" تجسيدا لنمط جديد من الحرب الصامتة التي تمزج بين الردع الاقتصادي والسيطرة الجغرافية التي يسعى إليها المستوطنون والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بغضّ النظر عن انعكاساتها وتداعياتها على فرص استقرار الضفة مستقبلا في ظل فراغ السلطة وتآكل مصادر الدخل، حيث يعكس تصاعد عنف المستوطنين تحوّلا في السياسة الإسرائيلية في الضفة من السيطرة الأمنية إلى الإفقار المنهجي، لتفكيك ركائز الاقتصاد الريفي الفلسطيني، وتهجير المزارعين من أراضيهم، وتآكل علاقة الفلاح بأرضه في ظل الخطر الدائم.

من جهته قال فياض فياض، رئيس مجلس الزيت الفلسطيني، في حديث لـ"المجلة" إن السلطات الإسرائيلية تعمل ضمن خطة ممنهجة لتدمير شجر الزيتون في فلسطين، مشيرا إلى أن إسرائيل أبادت نحو مليون شجرة زيتون في الضفة الغربية منذ عام 1967، وأنه منذ عام 2010 حتى سبتمبر/أيلول الماضي أبادت 250,274 شجرة زيتون، ومنذ أكتوبر 2023 حتى اليوم أبادت 56,077 شجرة.

وأوضح فياض أنه في قرية المغير بمحافظة رام الله والبيرة، أباد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون في يوم واحد من شهر أغسطس/آب الماضي عشرة آلاف شجرة زيتون، وقلّصوا مساحة القرية من نحو 25 ألف دونم مزروعة معظمها بالزيتون إلى أقل من ألف دونم فقط بعد الاستيلاء على معظم أراضي القرية.

رويترز
امرأة فلسطينية تقطف الزيتون في قرية ترمسعيا بالقرب من رام الله، في الضفة الغربية، 20 أكتوبر 2025.

وذكر فياض: "حجم اعتداءات المستوطنين على أشجار ومزارعي الزيتون تضاعف هذا العام لأربعة أضعاف عن الأعوام السابقة حيث أضيف للممارسات السابقة سرقة المحاصيل بعد قطافها أو قبل وكذلك سرقة الجرارات الزراعية وحتى الحيوانات التي يستخدمها المزارعون لنقل الزيتون من الحقل لبيوتهم أو المعاصر". وأضاف فياض لـ"المجلة" أن إنتاج الزيت هذا العام سينخفض من 22,500 طن إلى 7,000 طن فقط بسبب العراقيل والاعتداءات الإسرائيلية، فيما وصف وزير الزراعة الفلسطيني رزق سليمية هذا الموسم بأنه أسوأ موسم قطاف زيتون منذ ستين عاما.

كما يؤكد فياض أن الجيش الإسرائيلي استهدف تدمير أشجار الزيتون خلال حرب غزة التي استمرت نحو عامين، إذ لم يتبقَّ في القطاع سوى100  ألف شجرة من أصل مليون شجرة كانت قائمة قبل الحرب، بالإضافة إلى تدمير 35 معصرة زيتون من أصل 40 معصرة.

ولا تقاس اعتداءات المستوطنين على كروم الزيتون والمزارعين بالخسارة المادية فحسب، فالخوف المُتكرر يُحدث لدى كبار السن والنساء والأطفال شعورا بأن الصعود إلى الكروم مقامرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة، لكن رمزية الزيتون تدفع كثيرين إلى تحويل القطاف إلى فعل مقاومة مدنية؛ إذ إن كل صفيحة زيت وزيتون تُنتَج وتُخزَّن هي تصويت يومي على البقاء في الأرض وبهذا المعنى، يتحول الزيت من سلعة اقتصادية إلى لغة سياسية تُقاوم الهندسة القسرية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليومية لعشرات آلاف الفلسطينيين.

وفي مناطق (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة والتي تعادل مساحة 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، يصبح الوجود الدائم للفلاح في أرضه مسألة سياسية لا زراعية فحسب؛ فكل غياب قسري بسبب خوف أو إغلاق يخلق فراغا تستغله الجماعات الاستيطانية لتسييج الأراضي أو شق طرق ترابية جديدة، لذلك، تُقرأ محاولات تقييد الوصول إلى الحقول خلال موسم الزيتون كجزء من استراتيجية أوسع لتغيير أنماط الحيازة والاستخدام الزراعي لأراضي الفلسطينيين، خصوصا قرب الطرق الالتفافية والبؤر الاستيطانية التي تنمو بسرعة.

تحوّل موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية هذا العام من طقس زراعي إلى اختبار شامل لصلابة المجتمع الفلسطيني وقدرته على البقاء

لقد بات القطف في مناطق عديدة يستلزم ترتيبات أمنية؛ مجموعات تتقدّم وأخرى ترصد، وتوزيع أدوار بين الرجال والنساء، وحيطة عند خطوط التماس. في بلدات قريبة من بؤر استيطانية ناشئة، وقد أصبح السؤال الأول قبل الصعود إلى الكروم "من يرافق ويراقب قدوم الجيش أو المستوطنين، وليس كم سنقطف"، هذا التحوّل من طقس اجتماعي إلى مهمة شبه عسكرية يعكس عمق الأزمة الراهنة التي يعانيها مزارعو الزيتون في الضفة الغربية هذا العام.

فاقتصاديا، يُعدّ الزيتون محصول ادخار يوفر السيولة النقدية، ويضمن الأمن الغذائي المنزلي، ويشكّل "احتياطا" لتغطية نفقات الشتاء والدراسة لأبناء الأسر، لكن تعطّل أيام القطف بسبب الاعتداءات أو الإغلاقات يعني خسارة فادحة لأجور عمّال بلا إنتاج، وتأخير في الوصول إلى المعاصر، وارتفاع نسبة الحموضة في الزيت إذا طال الانتظار، في بلدٍ تُنتج فيه بعض المناطق زيتا بسمعة إقليمية كمنطقتي بيت جالا قرب بيت لحم ودير دبوان بمحاذاة رام الله، وتتحوّل ساعات المنع والاحتكاك إلى فارقٍ مالي ومعيشي صعب التعويض، فعائلة كانت تراهن على إنتاج 30–40 صفيحة زيت قد تنتهي بـ20–25 فقط، وفارق هذه الصفائح قد يعني إيجار بيت أو قسط جامعة أو موسم حياة بأكمله.

وتخترق عصابات المستوطنين مواقع التواصل الاجتماعي للمواطنين الفلسطينيين للاطلاع على الفعاليات التي ينوون تنظيمها في مناطق (ج) بالضفة الغربية من جلب متضامنين أجانب لمساعدتهم في قطف الزيتون، فيقومون بتنظيم اعتداءاتهم بناء على ذلك، ففي الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي نشر "فتيان التلال" دعوة لمجموعاتهم وناشطيهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بضرورة مهاجمة فعالية قطف الزيتون في منطقتي بير زيت وعطارة شمال رام الله والتي كان سيشارك بها قناصل أوروبيون وناشطون دوليون، فيما يراقبون المزارعين عبر الطائرات المسيرة والتي استخدمت مؤخرا لمهاجمة قاطفي الزيتون في منطقة نابلس شمال الضفة الغربية.

وتلزم اتفاقيات جنيف الأربعة (1949) القوة القائمة بالاحتلال بحماية السكان المدنيين وممتلكاتهم، بما في ذلك ضمان الوصول الآمن للأراضي الزراعية، إلا أن المزارعين الفلسطينيين يشكون من ضعف استجابة السلطات الإسرائيلية وتأخرها المتعمد، ومن إغلاق معظم ملفات الاعتداءات بدعوى "عدم كفاية الأدلة".

رويترز
جندي إسرائيلي يقف حارسًا بينما يسير الفلسطينيون لدخول أراضيهم لجمع الزيتون خلال موسم قطف الزيتون السنوي، بالقرب من نابلس في الضفة الغربية المحتلة، 4 نوفمبر 2025.

وتضاعف اعتداءات المستوطنين على المزارعين وكرومهم من الضغط الشعبي على الأجهزة الأمنية الفلسطينية وحركة "فتح" للتدخل لحماية المزارعين، وهو ما يتسبّب بإحراج كبير لضباط الأجهزة الأمنية وقيادات حركة "فتح" الذين لم يعودوا قادرين على حماية المواطنين ومصدر رزقهم من هذه الاعتداءات المتصاعدة.

لقد تحوّل موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية هذا العام من طقس زراعي إلى اختبار شامل لصلابة المجتمع الفلسطيني وقدرته على البقاء في وجه منظومة متشابكة من القهر والعنف والإفقار تهدف عبر سياسة ممنهجة إلى تفريغ الريف الفلسطيني من سكانه عبر مزيجٍ من الخوف الاقتصادي والضغط الميداني، حيث لم يعد الزيتون مجرد شجرة مثمرة، بل شاهد حي على الصراع بين الوجود والاقتلاع، فيما تُجسّد "حرب الزيتون" الصراع الفلسطيني في أنقى صوره؛ معركة بقاءٍ يومية تُخاض بالصمت والعناد أكثر مما تُخاض بالسلاح.

font change