"تحول جذري" بين سوريا وأميركا بعد زيارة الشرع للبيت الأبيض

فرصة سانحة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، 10 نوفمبر 2025

"تحول جذري" بين سوريا وأميركا بعد زيارة الشرع للبيت الأبيض

سجّل الرئيس السوري أحمد الشرع سابقة تاريخية هذا الأسبوع، حين أصبح أول زعيم سوري تطأ قدماه العاصمة الأميركية واشنطن، ويُستقبل رسميا في البيت الأبيض، للقاء رئيس الولايات المتحدة. وما زاد من فرادة الحدث أن الزيارة جاءت بعد أقل من عام على بدء المرحلة الانتقالية في سوريا، وأن الضيف كان فيما مضى أحد قادة تنظيم "القاعدة".

وخلال زيارته التي امتدت يومين، التقى الرئيس الشرع نظيره الأميركي دونالد ترمب، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كاين، وعددا من قادة مجلسي الشيوخ والنواب، إلى جانب أكثر من ثلاثين من الرؤساء التنفيذيين وكبار مديري الشركات الأميركية.

منذ دخوله دمشق في ديسمبر/كانون الأول 2024، حقق الرئيس الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني إنجازات لافتة على صعيد السياسة الخارجية. فقد أتاح التحول التاريخي في سوريا لهما فرصة استقبال وفود رسمية من أكثر من ثمانين دولة ومنظمة، متعددة الأطراف خلال أحد عشر شهرا فقط، في موجة انفتاح دبلوماسي غير مسبوقة في تاريخ الدول الخارجة من الحروب. ومع ذلك، لا يكاد يختلف اثنان على أن قرار الرئيس ترمب استقبال الرئيس الشرع في مايو/أيار 2025 يُعد الإنجاز الأهم على الإطلاق.

منذ اللقاء التاريخي الذي جمع الزعيمين في المملكة العربية السعودية في مايو، شهدت العلاقات السورية-الأميركية نموا متسارعا. ومع بدء إدارة ترمب برفع العقوبات وتجميد بعضها أواخر مايو، تدفّق الاهتمام الأميركي بالاستثمار في سوريا على نحو غير مسبوق. وتوافدت الوفود الأميركية إلى دمشق– من قطاع النفط والغاز إلى التكنولوجيا، والبناء، والخدمات اللوجستية، والنقل، والتمويل، لعقد اجتماعات مع الرئيس الشرع وأعضاء حكومته. وقد لعبت غرفة التجارة الأميركية والمجلس الأميركي– السوري للأعمال، الذي أنشئ حديثا، دورا محوريا في تسهيل اللقاءات والمباحثات الجادة.

لا يكاد يختلف اثنان على أن قرار الرئيس ترمب باستقبال الرئيس الشرع في مايو 2025 يُعد الإنجاز الأهم على الإطلاق

تجري شركتا "شيفرون" و"كونوكو فيليبس" محادثات متقدمة مع وزارة الطاقة السورية، فيما عادت "ماستركارد" إلى السوق السورية، وتستعد "فيزا" للحاق بها. أما "غوغل" و"ميتا"، فقد شرعتا في التعاون مع وزارة الإعلام لمكافحة التضليل الإعلامي، في خطوة تعكس تحولا لافتا في طبيعة العلاقة بين الطرفين.

وفي السياق ذاته، عرض وزير الاقتصاد السوري نضال الشعار، رؤية حكومته لنظام مالي مستوحى من النموذج الأميركي، بينما زار كل من محافظ المصرف المركزي عبد القادر حصرية ووزير المالية محمد برنية واشنطن ونيويورك في مناسبات عدة خلال عام 2025 في إطار لقاءات رسمية. ولا شك في أن هذا التحول ذو دلالة بالغة بالنسبة لبلدٍ كان حتى الأمس القريب منغلقا على العالم ويعتمد نموذجا اقتصاديا اشتراكيا.

رويترز
الشرع يحيي أنصاره أمام البيت الأبيض بعد لقائه ترمب في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 10 نوفمبر 2025

ومع ذلك، لا تزال العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر" تشكّل عقبة رئيسة أمام ترجمة هذا الانفتاح إلى تحوّل استراتيجي فعلي. وقد أثار الرئيس الشرع هذه المسألة مباشرة مع الرئيس ترمب في المكتب البيضاوي، وتلقى وعدا بإلغاء القانون خلال هذا العام. ولتعزيز أجواء التفاهم، أعلن الرئيس الأميركي عن خفض الرسوم الجمركية المفروضة على سوريا من 41 في المئة إلى 10 في المئة.

وبعيدا عن الاقتصاد، شهدت العلاقات السورية–الأميركية تطورا أعمق في المجالين العسكري والاستخباري. فقد جرى أول اتصال مباشر بين القوات الأميركية ونظيرتها السورية الجديدة بعد خمسة أيام فقط من سقوط بشار الأسد في 13 ديسمبر، حين سلّم محمد قناطري، الذي كان حتى أيام قليلة أحد عناصر جهاز أمن "هيئة تحرير الشام"، مواطنا أميركيا كان محتجزا في أحد السجون السورية. ومنذ ذلك الحين، تولّى قناطري دورا بارزا في وزارة الخارجية، بصفته حلقة وصل أساسية مع المؤسسة العسكرية والاستخبارية الأميركية.

لا تزال العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر" تشكّل عقبة رئيسة أمام ترجمة هذا الانفتاح إلى تحوّل استراتيجي فعلي

وتلى ذلك بعد أسبوع واحد، مشاركة قائد التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش"، اللواء كيفن ليهي، في أول وفد دبلوماسي أميركي يزور دمشق، ويلتقي الرئيس الشرع. ومنذ ذلك الحين، ترسّخت العلاقة الأمنية والاستخبارية بين البلدين، وأصبحت أكثر فاعلية على المستوى العملياتي، تُدار من دمشق عبر وزارة الداخلية بقيادة أنس خطاب، ومديرية المخابرات العامة التي يرأسها حسين سلامة. ويتحدث كلا المسؤولين بحماسة عن تعاونهما مع "الأصدقاء الأميركيين"، وهي نغمة يبادلهم إياها نظراؤهم الأميركيون الذين يصفون التنسيق المشترك بأنه "تحول نوعي".

وقد بدأت بذور العمليات المشتركة في مايو، حين زوّدت واشنطن دمشق بحزمة معلومات استخبارية حول شبكة واسعة من الأنفاق والمستودعات، التي تضم أسلحة إيرانية يديرها زعيم قبلي نافذ قرب مدينة البوكمال شرق سوريا. وبعد أيام، شنّت قوات وزارة الداخلية السورية عملية خاطفة، سيطرت خلالها على الموقع بالكامل، وصادرت الأسلحة، وألقت القبض على جميع العناصر الإيرانية دون خسائر.

أ.ف.ب
ترمب استقبل الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بحضور نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، والمبعوث الأمريكي إلى سوريا توم براك، في البيت الأبيض، 10 نوفمبر 2025

ووصف أحد المسؤولين الأميركيين العملية بأنها إجراء "مذهل" يفتح الباب أمام تعاون أمني غير مسبوق. وبالفعل، منذ ذلك الحين، تعمّق تبادل المعلومات الاستخبارية، وتدفّق عناصر من القوات الخاصة الأميركية إلى دمشق، وشاركت وحدات سورية في أربع عمليات مشتركة ضد أهداف مرتبطة بإرث إيران، وست عمليات ضد تنظيم "داعش"، أسفرت إحداها عن مقتل أرفع قائد للتنظيم كان لا يزال على الأراضي السورية.

ورغم النفي الرسمي، تجري حاليا جهود مشتركة لتحديد موقع مناسب لإنشاء مقر عمليات أميركي دائم في محيط دمشق بهدف تنسيق العمل الميداني على الأرض.

ترسّخت العلاقة الأمنية والاستخبارية بين البلدين وأصبحت أكثر فاعلية على المستوى العملياتي

ولتكريس التقدم في العلاقات الأمنية، أعلنت سوريا انضمامها رسميا إلى التحالف الدولي لهزيمة تنظيم "داعش". لم يكن هذا القرار سهلا على الحكومة الانتقالية، إذ واجهت فيه تحديات داخلية وخارجية. فعلى الصعيد الشعبي، لا تزال شريحة واسعة من السوريين، تنظر بعين الريبة إلى الولايات المتحدة، فيما تبدي بعض الفصائل الجهادية الصغيرة، التي لم تُدمج بعد في المنظومة العسكرية الرسمية، حساسية بالغة تجاه هذا التقارب.

ويسود اعتقاد داخل أروقة الأمن والاستخبارات السورية، بأن هذا الانضمام قد يثير اضطرابات أمنية على المدى القصير، لكنه في الوقت ذاته يُعد فرصة سانحة لـ"تنظيف البيت من الداخل" عبر مواجهة العناصر الأكثر إشكالية وإعادة ضبط المشهد الأمني.

أ.ف.ب
الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وهما يمشيان برفقة مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا قبل لقائهما في واشنطن العاصمة في 9 نوفمبر 2025.

لا شك أن العلاقات السورية–الأميركية قد دخلت مرحلة تحوّل جذري منذ سقوط الأسد. ورغم التاريخ المثير للجدل للرئيس الشرع، فإن ما تتيحه سوريا الجديدة من فرص استراتيجية للاستقرار والانفتاح والاندماج الدولي، قد دفع عجلة التواصل وبناء الثقة وأرسى ملامح تحالف ناشئ.

ومع ذلك، لا تزال سوريا تقف على أرضية مهتزة، وإذا أرادت أن تواصل ترسيخ انتقالها السياسي وتوسيع نطاق السيطرة والتمثيل، فلا بد لاقتصادها من أن ينهض من جديد. وثمة عوامل كثيرة قد تسهم في ذلك، لكن العامل الأهم بلا منازع، يبقى إلغاء "قانون قيصر" في الكونغرس الأميركي، الذي إذا ما بقي ساريا، فإن مستقبل سوريا، ومعه الفرصة التاريخية التي يمثلها انفتاحها الجديد على العالم، عرضة لخطر مقيم لا يغادر عتبتها.

font change

مقالات ذات صلة