الرياض وواشنطن... من الصفقة إلى المعاهدة

ليست مجرد زيارة دبلوماسية عادية

واس
واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب في الديوان الملكي بقصر اليمامة.

الرياض وواشنطن... من الصفقة إلى المعاهدة

إنها ليست مجرد زيارة دبلوماسية عادية أو رد فعل عابرا على "صفقة مايو" التي قام بها الرئيس دونالد ترمب الصيف الماضي إلى الرياض، بل هي فصل جديد من معركة استراتيجية تُكتب فصولها في أروقة السياسة والمؤسسات الأميركية العميقة. يسافر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى واشنطن حاملا متطلبات "رؤية 2030" ليضع تصورا جديدا وعميقا لإعادة تأسيس التحالف السعودي-الأميركي.

على الضفة الأخرى، اتسمت عقيدة ترمب بالصفقات السريعة والالتزامات الشخصية التي قد تتلاشى مع تغير الرؤساء، مخلّفة وراءها حالة من عدم اليقين الاستراتيجي لا يمكن لدولة تبني مشروعا ضخما أن تتساهل معها.

لذلك، لا يمكن النظر للزيارة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني بأنها مجرد لقاء دبلوماسي، بل هي بيان فلسفي واضح ومواجهة صريحة. فبينما يبني ترمب إرثه على "السياسة الشخصية" المؤقتة، تسعى السعودية إلى "معاهدة دائمة" تؤسس لشراكة مؤسساتية لا تتزعزع بتقلبات المشهد السياسي الأميركي.

الحاجة إلى "إعادة تأسيس" التحالف

منذ اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس تيودور روزفلت على متن الطرّاد "يو إس إس كوينسي" في مياه البحيرات المرة يوم 14 فبراير/شباط 1945، قام التحالف السعودي-الأميركي على معادلة استراتيجية ضمنية، يمكن تلخيصها بـ"الاستقرار الاقتصادي العالمي مقابل الضمان الأمني الإقليمي". لكن هذا النموذج، ورغم صموده لعقود، أثبت أنه "اتفاق شرف" ينتمي إلى حقبة الحرب الباردة، وأصبح اليوم هشّا وعرضة للأهواء السياسية وتقلبات الإدارات في واشنطن. فما يوقعه رئيس بقرار تنفيذي، يمكن لرئيس قادم إلغاؤه بجرّة قلم؛ وتجربة "الاتفاق النووي الإيراني" هي المثال الأبرز لهذا التقلب الدراماتيكي الذي يخلق فراغا استراتيجيا في المنطقة، ويُعرّض مصالح الرياض للاشتعال الإقليمي دون ضمانة للرد الحاسم.

تسعى السعودية إلى "معاهدة دائمة" تؤسس لشراكة مؤسساتية لا تتزعزع بتقلبات المشهد السياسي الأميركي

هذا التقلب لم يعد مقبولا بالنسبة لدولة تبني مشروعا بحجم "رؤية السعودية 2030". فالرؤية ليست مجرد مجموعة من المشاريع الاقتصادية العملاقة؛ بل هي عملية تحوّل شامل تتطلب بيئة أمنية مستقرة ويمكن التنبؤ بها لعقود قادمة. هذا الاستقرار لا يمكن أن يُبنى على "ميثاق شرفي" يتغير كل أربع أو ثماني سنوات.

وقد جاء "جرس الإنذار" الحقيقي في سبتمبر/أيلول 2019، عندما استُهدفت هجمات منشآت النفط الحيوية في بقيق وخريص. لم يكن هذا مجرد هجوم، بل كان "لحظة بيرل هاربور"  لقطاع الطاقة العالمي. الرد الأميركي، في عهد إدارة ترمب، جاء محدودا، وغير متناسب مع حجم الاعتداء، مما كان بمثابة الإثبات القاطع بأن "المظلة الأمنية" الضمنية لم تعد مضمونة، وأنها يمكن أن تخضع لحسابات سياسية داخلية.

أ.ب
الرئيس دونالد ترمب يصل برفقة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لالتقاط صورة جماعية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي خلال قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، المملكة العربية السعودية، 14 مايو 2025.

اليوم، لم تعد الرياض تبحث عن مجرد "حليف"، بل عن "شريك موثوق"، خاصة بعد أن تغيرت شروط المعادلة القديمة:

1- جانب الطاقة: لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على نفط الشرق الأوسط (بفضل ثورة النفط الصخري)، كما أن التحول الطاقي العالمي يقلل من القيمة الاستراتيجية للنفط كأداة ضغط على المدى الطويل.

2- جانب الأمن: أثبتت حوادث 2019 أن "المظلة الأمنية" الأميركية ليست أمرا مسلّما به.

المفارقة هنا أن عقيدة "أميركا أولا" التي يتبناها ترمب، والتي تتسم بالتشكيك العلني في قيمة التحالفات كـ"الناتو"، هي بالتحديد ما يدفع السعودية لطلب "معاهدة مؤسسية" ملزمة. لقد استخدمت الرياض منطق ترمب نفسه معه، أي إذا كان كل شيء "صفقة"، فهذه شروطنا لصفقتنا.

لهذه الأسباب، تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان كمحاولة لـ"مأسسة" التحالف، ونقله من "وعد البيت الأبيض" إلى "ضمانة الكونغرس" الواضحة.

مقايضة الإرث الاستراتيجي: الصفقة الرئاسية مقابل المعاهدة المؤسسية

تدرك إدارة ترمب أن الرياض تمتلك مفاتيح "الجائزة الكبرى" التي يسعى إليها الرئيس لبناء إرثه السياسي الخارجي: إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين المملكة العربية السعودية، كقائدة للعالم الإسلامي، وبين إسرائيل. يرى ترمب هذا الإنجاز صفقة حقيقية يمكنه إتمامها بمنطقه التجاري المفضل: ضغط، ومنافع، وإنجاز سريع. لكن هذا المنطق يصطدم بحقيقة أن ما تطلبه الرياض في المقابل ليس مجرد "منافع"، بل هو "ضمانات".

في المقابل، تضع الرياض "ضمانتها الكبرى" على الطاولة، وهي ليست تقنيات ذكاء اصطناعي، أو برنامج نووي سلمي، أو حتى مجرد صفقة طائرات "F-35"، رغم أهميتها. الثمن الذي تطلبه الرياض هو "معاهدة دفاعية مشتركة". وهنا يكمن جوهر المفاوضات والصدام الفلسفي بين الطرفين.

"الرؤية" ليست مجرد مجموعة من المشاريع الاقتصادية العملاقة، بل هي عملية تحول شامل تتطلب بيئة أمنية مستقرة ويمكن التنبؤ بها لعقود قادمة

"صفقة ترمب" هي وعد تنفيذي، يمكن أن يشمل رفع مستوى التعاون الأمني، وتسهيل مبيعات أسلحة متطورة، وتقديم دعم استخباراتي. لكن كل هذا يبقى ضمن "صلاحيات الرئيس"، وهو مؤقت بطبيعته.

المعاهدة هي التزام مؤسسي. المعاهدة الدفاعية، على غرار حلف "الناتو" أو المعاهدات مع اليابان وكوريا الجنوبية، تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي (67 صوتا). هذه المعاهدة تحوّل أمن السعودية من "مصلحة" أميركية يمكن الجدال حولها، إلى "التزام" أميركي قانوني ودائم، لا يمكن لأي رئيس قادم التلاعب به بسهولة.

الرياض، ببساطة، ترفض مقايضة "إرث دائم" (وهو التغيير الجذري في بنية العلاقات الإقليمية) بـ"وعد مؤقت" من رئيس يواجه هو نفسه تقلبات السياسة الداخلية. المنطق السعودي واضح: إن كنتم تريدون منا خطوة تاريخية ومؤسسية، فعليكم تقديم ضمانة تاريخية ومؤسسية مماثلة.

معضلة الـ67 صوتا

بهذا الطلب، تنقل السعودية المفاوضات بذكاء من المكتب البيضاوي، حيث يبرع ترمب، إلى قاعة مجلس الشيوخ، حيث يكمن "عنق الزجاجة" الحقيقي.

الاختبار الحقيقي لإتمام هذه المقايضة التاريخية ليس دونالد ترمب، بل هو الكونغرس. ترمب، "الرئيس المناهض للمؤسسية" الذي بنى مسيرته على تحدي "الدولة العميقة" في واشنطن، يجد نفسه الآن مضطرا للعب بقواعد المؤسسة التي لا يعطيها أولوية، ومحاولة حشدها لتقديم الضمانة التي تطلبها الرياض كثمن لـ"الفوز" الذي يريده.

هنا، يواجه ترمب معضلة على ثُلثي أصوات مجلس الشيوخ، أي 67 صوتا، وهي معضلة مزدوجة داخل حزبه وبين خصومه:

الجمهوريون: قد يضمن ترمب أصوات "الجمهوريين التقليديين" (المؤسساتيين). لكن المفارقة الكبرى تكمن في "قاعدته" الانتخابية. الجناح "الانعزالي" أو "الترمبي" في الحزب الجمهوري... هؤلاء النواب (مثل السيناتور راند بول)، بنوا مسيرتهم على رفض "حروب الشرق الأوسط" التي خاضها جورج دبليو بوش. سيجد ترمب نفسه مضطرا لإقناع قاعدته بالتصويت كـ"مؤسساتيين عالميين"، وهو ما يتعارض مع صميم "الترمبية".

الديمقراطيون: هنا يكمن التحدي الأكبر، فـ"الجناح التقدمي" في الحزب (بقيادة بيرني ساندرز وآخرين) هو "رفض مطلق"، فهم يعارضون أي تحالفات أمنية مع الرياض من حيث المبدأ. لذلك، يجب على ترمب كسب "ديمقراطيي الوسط". لكن هؤلاء يواجهون تحفظات عميقة، ويقعون تحت ضغط سياسي وإعلامي كبير يتعلق بملفات شائكة أثارت انقساما واسعا في واشنطن خلال السنوات الماضية. إن الثمن السياسي الذي سيطلبه هؤلاء لتجاهل ضغط قواعدهم والتصويت مع خصمهم اللدود (ترمب) سيكون باهظا للغاية. إذن، كيف يمكن لترمب تأمين هذه الأغلبية النادرة والمستحيلة تقريبا؟ الإجابة تكمن في الملف الذي ظل ثابتا في السياسة السعودية لعقود.

وهنا السؤال الجوهري: كيف يمكن لترمب تأمين هذه الأغلبية النادرة والمستحيلة تقريبا؟ الإجابة تكمن في الملف الذي ظل ثابتا في السياسة السعودية لعقود.

المسار الفلسطيني... من "مبدأ" إلى "ضرورة"

هذا الملف الحسّاس يكتسب اليوم بعدا جديدا، فهو لم يعد مجرد مبدأ تاريخي، بل أصبح ضرورة تفرضها حسابات الكونغرس. فلكي يتمكن ترمب من تأمين الـ67 صوتا، سيحتاج حتما إلى أصوات من الوسط الديمقراطي. هؤلاء الديمقراطيون، الذين يواجهون ضغوطا من قواعدهم، لن يمنحوا أصواتهم لمعاهدة دفاعية تاريخية بهذا الحجم... دون تقدم حقيقي ولا رجعة فيه في المسار الفلسطيني.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في صورة جماعية خلال منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات في الرياض في 13 مايو 2025.

بهذا، يصبح المسار الفلسطيني ليس مجرد شرط سعودي لإرضاء الرأي العام العربي والإسلامي، بل هو المفتاح والغطاء السياسي الذي يحتاجه ترمب لفتح قفل الكونغرس. الموقف السعودي هنا ليس موقفا تفاوضيا تكتيكيا، بل هو فهم عميق لآليات عمل المؤسسة في واشنطن، فهمٌ يدمج المبدأ السعودي التاريخي، المبني على مبادرة السلام العربية، بـالواقعية السياسية الباردة. باختصار، فإن الرياض تقول لترمب: إن كنت تريد من مؤسسة الكونغرس أن تقرّ هذه المعاهدة، فعليك أن تقدم لهذه المؤسسة، وتحديدا للديمقراطيين فيها، ما تحتاجه لتبرير تصويتها: وهو إقامة دولة فلسطينية. إنه الحد الأدنى لقبولهم بدء النقاش أصلا.

الرياض تقول لترمب: إن كنت تريد من مؤسسة الكونغرس أن تقرّ هذه المعاهدة، فعليك أن تقدم لهذه المؤسسة، وتحديدا للديمقراطيين فيها، ما تحتاجه لتبرير تصويتها: وهو إقامة دولة فلسطينية. إنه الحد الأدنى لقبولهم بدء النقاش أصلا

ماذا بعد؟

علاقة الرياض بواشنطن هي لحظة الحقيقة. هي لا تختبر "رغبة" ترمب، بل "قدرة" مؤسسات واشنطن كمنظومة تستند إلى قيم الديمقراطية التي وصفها ألكسيس دو توكفيل في القرن التاسع عشر. إن الرياض ترفض بشكل قاطع مقايضة "إرث دائم" بـ"وعد مؤقت". النتائج المترتبة على هذه الزيارة ستكون عميقة، بغض النظر عن النتيجة الفورية:

  • السيناريو الأول ، النجاح المعلن: وهو السيناريو الأرجح على المدى القصير. ستُختتم الزيارة بإعلانات ضخمة عن استثمارات وتعاون نووي مدني، واتفاقيات دفاعية (وليس المعاهدة الملزمة). سيتم الاحتفاء بالزيارة كنجاح، ولكن الملف الجوهري (المعاهدة مقابل العلاقات) يظل عالقا في مفاوضات تقنية وقانونية طويلة. هذا نجاح تكتيكي بانتظار حسم المعضلة المؤسسية لضمان النجاح الاستراتيجي.

واس
ترمب يغادر المملكة العربية السعودية من مطار الملك خالد بالرياض، في 14 مايو 2025

  • السيناريو الثاني، النجاح الحقيقي: هذا السيناريو لا يُقاس بالتوقيع الفوري للمعاهدة المنشودة، فالجميع يدرك استحالة ذلك إجرائيا. بل يُقاس بالحصول على التزام رسمي من البيت الأبيض وقادة الحزبين في الكونغرس بـبدء المسار التشريعي للتفاوض حول المعاهدة. هذا الإعلان عن بدء العملية هو في حد ذاته انتصار مؤسسي هائل، لأنه يلزم المؤسسة وينقل الكرة رسميا إلى ملعب الكونغرس.
  • السيناريو الثالث، الجمود المؤسسي: إذا أثبتت واشنطن (بمؤسساتها) أنها غير قادرة أو غير راغبة في تقديم هذه الضمانة الدائمة، فسيكون ذلك بمثابة إعلان واضح للرياض بأن عصر التعامل مع واشنطن على أنها الحليف الأكثر موثوقية أمرٌ يجب مراجعته بجدّية. هذه الإشكالية لن توقف مسيرة "رؤية 2030"، لكنها ستسرّع بشكل هائل من وتيرة التنويع الاستراتيجي كـ"خيار برغماتي حتمي" أمام تقلبات الحليف الغربي.

في المحصلة، الرياض تطرح على واشنطن مقايضة واضحة: "إرث مقابل إرث"، و"مؤسسية مقابل مؤسسية". والنتيجة، أيا كانت، لن تغيّر مسار المملكة، بل ستحدد فقط من سيكون شريكا موثوقا في هذا المسار.

font change

مقالات ذات صلة