واشنطن – الرياض... مئة عام على التحالف من النفط إلى الذكاء الاصطناعي

مرحلة جديدة لشراكة ناضجة ومتوازنة تقودها شراكات دفاعية وتكنولوجية

واشنطن – الرياض... مئة عام على التحالف من النفط إلى الذكاء الاصطناعي

تندرج زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن ضمن مرحلة تشهد تحولات إستراتيجية عميقة في العلاقات الدولية، وتتزامن مع نقاش أميركي داخلي حول إعادة تعريف الدورين السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في العالم، ولا سيما في مستهل العهد الثاني للرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتبرز في المفاوضات الثنائية السعودية - الأميركية المرتقبة، تحولات الاقتصاد العالمي، ومتطلبات حماية منظومات الطاقة والتكنولوجيا، وتأمين سلاسل التوريد، وتعزيز الأسواق المشتركة وضمان حقوق الملكية الصناعية والتكنولوجية.

ربطت السعودية اندفاعتها التنموية بضرورة التوصل إلى حلول مستدامة للصراعات الإقليمية، مما يسمح بتقدم المشاريع ونجاحها، ولم يعد النفط هو الدافع الوحيد للالتزام الأمني، اليوم، إذ تُعد الكفاءة في إدارة الطاقة العالمية، والاستثمارات الإستراتيجية في قطاعات التكنولوجيا الحساسة، والتحول التنموي، هي العملة الجديدة التي تدفع الدول نحو توقيع التزامات أمنية أعمق.

تمثل العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية نموذجا للشراكات الإستراتيجية. انطلقت هذه العلاقة في ثلاثينات القرن الماضي على أساس مبدأ "النفط مقابل الأمن". ومع ذلك، يشهد التحالف خلال السنوات الأخيرة تحولا جوهريا، ليصبح شبكة من المصالح المشتركة تتجاوز الطاقة والدفاع التقليدي إلى قطاعات المستقبل كالاستثمار السيادي، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة.

الأسس التاريخية لـ"التحالف" 1930 – 1973

بدأت العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتحدة رسميا في 23 فبراير/شباط 1930. كانت تلك المرحلة التأسيسية تتسم بتركيز مبكر على المصالح التجارية المتبادلة. وتوثقت العلاقة أكثر في عام 1931 مع بداية التدفق التجاري للنفط، وتبع ذلك قرار الملك عبد العزيز آل سعود منح حق التنقيب عن النفط لشركة "ستاندرد أويل" الأميركية.

من هنا تعود بدايات "أرامكو" إلى عام 1933، عندما أُبرمت اتفاقية الامتياز بين المملكة وشركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" (سوكال). حينها، تم إنشاء شركة تابعة لها سميت بـ"كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني" (كاسوك) لإدارة هذه الاتفاقية.

يُعدّ عام 1932 مفصليا في علاقة البلدين، حيث شهد توحيد الدولة السعودية، وتوقيع الاتفاقية الديبلوماسية التجارية الموقتة بين البلدين، لتمثل أول معاهدة بين واشنطن والرياض

يُعدّ عام 1932 مفصليا في علاقة البلدين، حيث شهد توحيد الدولة السعودية، وتوقيع الاتفاقية الديبلوماسية التجارية الموقتة بين البلدين، لتمثل أول معاهدة بين واشنطن والرياض تغطي التمثيل السياسي والقنصلي، والتجارة والملاحة، والضمانات القضائية. من الجانب الأميركي، تزامن توقيع هذه الاتفاقية مع توجه واشنطن نحو كسر طوق عزلتها عن العالم الخارجي ودعم شركاتها واستثماراتها في الخارج. ويُفهم هذا الارتباط على أنه قرار استباقي، فالحكومة الأميركية رأت في استقرار شبه الجزيرة العربية ورغبة الملك المؤسس في إجراء إصلاحات اقتصادية (مثل إصلاحات العملة)، فرصة استثمارية لضمان مصادر الطاقة المستقبلية. هذا الإدراك المشترك للمنفعة الإستراتيجية، أرسى أولوية المصالح الاقتصادية على الاعتبارات السياسية الداخلية في كلا البلدين في ذلك الوقت.

قمة كوينسي 1945

شهد مسار العلاقات نقطة تحول في 14 فبراير/شباط 1945، مع عقد اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الطراد "يو أس أس كوينسي"، بعد عودة روزفلت من مؤتمر يالطا.

غيتي
الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في لقاء مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في مصر، 14 فبراير 1945

يُعرف هذا اللقاء باسم "اتفاق كوينسي". كان جوهر الاتفاق هو ربط أمن السعودية واستقرارها، الذي تلتزمه واشنطن، بضمان وصول الولايات المتحدة وحلفائها إلى إمدادات النفط السعودية. وعلى الرغم من أن هذا التفاهم لم يكن معاهدة رسمية في البداية، إلا أنه كان بمثابة "مذكرة تفاهم" غير قابلة للتصرف، ربطت أمن منطقة الخليج بأمن الطاقة العالمي، وجعلت الرياض ركيزة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط طوال فترة الحرب الباردة وما بعدها.

بعد تولي الملك سعود السلطة في عام 1953، تعمقت العلاقات ضمن إستراتيجيا الاحتواء السوفياتي التي تبنتها واشنطن خلال الحرب الباردة، إلا أن أزمة حظر النفط عام 1973 كشفت عن هشاشة الارتباط المباشر بين النفط والسياسة، وسرعت الحاجة إلى مأسسة العلاقة الاقتصادية.

الهندسة المالية والسياسية

انتقلت العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة جديدة من التعاون المؤسسي في 8 يونيو/حزيران 1974، عبر تأسيس اللجنة السعودية الأميركية المشتركة للتعاون الاقتصادي. تأسست هذه اللجنة في أعقاب الحظر النفطي وارتفاع الأسعار، بهدف تلبية احتياجات السعودية من المواد والخبرات لدعم مشروعات التنمية التي كانت تشهدها البلاد آنذاك.

من الناحية الاقتصادية الإستراتيجية، لم تكن اللجنة المشتركة مجرد آلية تعاون، بل كانت أداة لـ"الهندسة المالية والسياسية" لضمان تدوير ما يعرف بـ"البترودولار". نص الاتفاق على أن اللجنة توفر الخبرة والمساعدة التقنية الأميركية للحكومة السعودية على أساس "قابل للاسترداد بالكامل".

يسمح وجود صندوق الاستثمارات العامة كمساهم رئيس في شركات التكنولوجيا الأميركية للرياض بضمان "مقعد الى الطاولة" في اتخاذ القرارات التكنولوجية الحساسة

ولتعزيز دور القطاع الخاص في العلاقة، أُنشئ مجلس الأعمال السعودي الأميركي SABAC في عام 1993 الذي عمل على تشجيع الصناعات التحويلية والمشاريع المشتركة، بالإضافة إلى نشر الوعي بالفرص المتاحة في السعودية للشركات الأميركية وزيادة المعرفة والفهم لبيئات الأعمال والثقافة لكلا البلدين. أكد المجلس أن السياسة الشاملة التي تبنتها الرياض للإصلاح الاقتصادي، بما في ذلك دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2000 الشركات العالمية للاستثمار في قطاع الغاز والصناعات المرتبطة به، قد عززت إمكانات التعاون بين رجال الأعمال في البلدين.

الاستثمار السيادي كرافعة اقتصادية

على مدى سنوات، تحول صندوق الاستثمارات العامة (PIF) من كونه مستثمرا ماليا إلى أداة اقتصادية إستراتيجية، وارتفعت ملكية الصندوق في السوق الأميركية لتصل إلى 20.66 مليار دولار، وتخضع هذه المحفظة لتغيرات دورية.

يركز الصندوق بشكل إستراتيجي على قطاعات التكنولوجيا والخدمات ذات النمو العالي، التي ترتبط بشكل مباشر ببرامج "رؤية 2030"، ومن هذه الاستثمارات: شركة "أوبر تكنولوجي" للنقل والخدمات الحضرية، شركة "لوسيد غروب" للسيارات الكهربائية، وشركات مثل "Electronic Arts" و"Take-Two" للألعاب والترفيه. كما تشمل الاستثمارات الحديثة قطاعات الرعاية الصحية والتكنولوجيات الأساسية.

أ.ف.ب.

إن الاستثمار في شركات مثل "لوسيد" يرتبط مباشرة بأهداف توطين صناعة السيارات الكهربائية في المملكة، مما يحول الاستثمار إلى محرك لنقل المعرفة والتصنيع المحلي. ويسمح وجود صندوق الاستثمارات العامة كمساهم رئيس في شركات التكنولوجيا الأميركية للرياض بضمان "مقعد الى الطاولة" في اتخاذ القرارات التكنولوجية الحساسة، مما يقلل الأخطار السياسية التي تهدد تدفق التكنولوجيا الحيوية.

توطين الصناعات الدفاعية

شهد قطاع الدفاع تحولا إستراتيجيا، حيث تسعى "رؤية 2030" إلى توطين أكثر من 50 في المئة من الإنفاق الدفاعي، وتجلى هذا التوجه خلال زيارة الرئيس ترمب في عام 2017، التي شهدت توقيع اتفاقية دفاعية.

لم تعد الرياض تكتفي بشراء الأسلحة الجاهزة، بل أصبحت تسعى للاستفادة من قدرات الشركاء لنقل التكنولوجيا والتطوير المشترك. اليوم، يتطلب عقد اتفاقية مع الحكومة السعودية، "توطين المحتوى". هذا يعني أن الشركات العالمية، ومنها الأميركية، مطالبة ببناء مصانع داخل المملكة لتصنيع جزء من المنتجات النهائية محليا.

استثمرت الرياض في تدريب وبناء القدرات الرقمية بالشراكة مع شركات أميركية كبرى، ما رفع الكفاءات السعودية وجعل المملكة لاعبًا محوريًا في مستقبل الذكاء الاصطناعي

كما إن هذا الشرط يخدم هدفين إستراتيجيين: أولا، يضمن نقل المعرفة والخبرات التكنولوجية إلى الكوادر السعودية، ثانيا، يحول الإنفاق الدفاعي من مجرد تكلفة أمنية إلى محرك للتنمية الاقتصادية المحلية وخلق الوظائف.

المستقبل الرقمي والطاقة المتجددة

ركزت الشراكة الحديثة على القطاعات التكنولوجية المتقدمة، حيث تسير السعودية نحو التحول من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد رقمي يقوده الابتكار، ومثّل الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية في هذه العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.

shutterstock

تضمنت جهود الرياض استثمارات في تدريب وبناء القدرات الرقمية بالشراكة مع شركات أميركية كبرى مثل "غوغل" و"آبل" و"أمازون"، مما ساهم في رفع عدد الكفاءات الرقمية السعودية. وتؤكد هذه الشراكات أن المملكة أصبحت "لاعبا دوليا محوريا" في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي من خلال الاستثمار في البنية التحتية الرقمية.

في قطاع الطاقة، تجاوز التعاون التركيز على النفط ليشمل الطاقة النظيفة. أبرز مثل على ذلك، مشروع "نيوم للهيدروجين الأخضر"، وهو شراكة استثمارية مع شركة "إير برودكتس" الأميركية و"أكوا باور". ويُنتظر أن يساهم هذا المشروع في تلبية ما يقرب من 10 في المئة من المستهدف العالمي لإنتاج الهيدروجين الخالي من الكربون.

وشهدت زيارة الرئيس ترمب للرياض في مايو/أيار 2025، نقطة تحول اقتصادية في مسار العلاقات الثنائية، وتحولت إلى منصة لإعادة تأكيد العمق التجاري والاستثماري الذي يربط البلدين، مع التركيز على قطاعات المستقبل بما يتماشى مع "رؤية 2030" و"أجندة أميركا أولا".

تدرك كل من الرياض وواشنطن أهمية تطوير التعاون المشترك، الذي لا يقوم على ضمانات سياسية فحسب، بل على تداخل اقتصادي يجعل كل طرف مستثمرا في استقرار الآخر

كانت السمة الأبرز للزيارة هي حجم التعهدات والاتفاقيات الاقتصادية التي تم أعلانها، والتي تجاوزت الصفقات الدفاعية التقليدية لتشمل قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية. أعلنت الرياض عبر شركة Data Volt الاستثمار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وبنى تحتية للطاقة في الولايات المتحدة، وأعلن عدد من الشركات الأميركية، "غوغل" و"أوراكل" و"أوبر" وغيرها، استثمارات مشتركة أو مشاريع تقنية مع شركاء سعوديين في الولايات المتحدة والمملكة، كما عقدت اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة، مع مذكرة تفاهم حول تطوير البنى التحتية للطاقة والمعادن الحرجة.

في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تم توقيع شراكات مع شركات مثل "إنيفيديا" و"AMD" لدعم البنى التحتية السعودية للذكاء الاصطناعي وتوسعة قدرات المملكة في هذا المجال.

مرحلة جديدة من الشراكة الناضجة والمتكافئة

عززت الاتفاقات الجديدة التزام التنويع بعيدا من النفط، من خلال تأمين الاستثمار والشراكة المعرفية في قطاعات النمو المرتفع مثل الذكاء الاصطناعي، السيارات الكهربائية، والترفيه. وضمنت الاستثمارات السعودية في الشركات التكنولوجية الأميركية الحساسة، مثل شركات الرقائق واشباه الموصلات، "مقعدا الى الطاولة" في اتخاذ القرارات التكنولوجية.

أ.ف.ب.
نائب وزير الطاقة الأميركي جيمس دانلي، خلال مشاركته في جلسات "مبادرة مستقبل الاستثمار"، الرياض، 29 أكتوبر 2025

تدخل العلاقات السعودية - الأميركية اليوم مرحلة جديدة تعيد تعريف الأولويات وأدوات الشراكة. لم تعد واشنطن تكتفي بضمان إمدادات الطاقة، ولم تعد الرياض ترى في الحماية العسكرية الضامن الوحيد لأمنها الوطني. ما بات يربط الطرفين، هو شبكة مصالح اقتصادية واستثمارية وتقنية، تُدار بمنطق التبادل والتكافؤ.

زيارة ولي العهد لواشنطن عام 2025، والاتفاقات التي تزامنت مع ولاية ترمب الثانية، تكشف عن عمق التحولات في العلاقة. الاستثمارات السعودية في السوق الأميركية، واتساع رقعة التعاون في قطاعات الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والدفاع الموطَّن، تؤشر إلى أن التحالف بات يتأسس على قواعد اقتصادية تزداد مؤسسية وتشابكا.

في عالم مضطرب يواجه تحولات في موازين القوى وسلاسل التوريد، يتعزز بناء التحالف السعودي - الأميركي اليوم من خلال مرحلة جديدة من الشراكة الناضجة والمتكافئة، تقودها التكنولوجيا وتعيد تشكيلها المصالح. تدرك كل من الرياض وواشنطن أهمية تطوير التعاون المشترك، الذي لا يقوم على ضمانات سياسية فحسب، بل على تداخل اقتصادي يجعل كل طرف مستثمرا في استقرار الآخر.

font change

مقالات ذات صلة