كلارا هوسنيدلوفا الآتية من بلاد الأساطير

متحف "هامبرغر بانهوف" يقيم معرضا لأحدث أعمالها

John MACDOUGALL / AFP
John MACDOUGALL / AFP
منظر عام لتركيب "Embrace" للفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا في القاعة الرئيسة لمتحف "هامبورغر بانهوف" في برلين

كلارا هوسنيدلوفا الآتية من بلاد الأساطير

لم تتخط الفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا عتبة الخامسة والثلاثين من عمرها، غير أن المعرض الكبير الذي أقامه متحف "هامبرغر بانهوف"، لأعمالها وحمل عنوان "احتضان" هو بمثابة احتفاء استثنائي بتجربتها غير المسبوقة أسلوبا وتقنيات وأفكارا وطريقة عرض.

ولعل المعرض الذي كان جزءا من "أسبوع برلين للفن" هو الأهم بين المعارض التي توزعت بين مناطق مختلفة في العاصمة الالمانية، من ضمنها "بينالي برلين".

لذلك فإنه سيستمر إلى أشهر مقبلة. وعلى الرغم من أن كلارا هوسنيدلوفا عرضت أعمالها في مدن أوروبية عديدة، غير أنها لم تحظ من قبل بفرصة عرض مثل التي هيأها متحف "هامبرغر بانهوف" الذي هو واحد من أهم المتاحف العالمية التي تتبنى الفنون المعاصرة وتروج لها.

ومن ذلك أن المتحف يفاخر بامتلاكه أهم أعمال الرائد الثاني للفنون المعاصرة جوزيف بويز (1928 ــ 1986). وقد خصص كبرى قاعاته لعرض سبعة أعمال نفذتها هوسنيدلوفا من الألياف التي تصنع منها الحبال. أعمال يصل ارتفاعها إلى ما يقارب العشرة أمتار وتمتد على الأرض بخطوط أفعوانية. ذلك إنجاز بالنسبة إلى المتحف، أما بالنسبة إلى الفنانة المولودة عام 1990 فإنه يشكل حدثا تاريخيا يفتح أمامها أبواب المتاحف العالمية.

كل عمل من أعمالها هو نسيج يتسع لأساطير شعبها التي اخترقت حياتها وصنعت مزاجها الجمالي وبثت الروح في خيالها

يمكن القول إن "احتضان" وهو عنوان المعرض، ينطوي على معنى مزدوج. فمن جهة يشير إلى احتضان أعمال الفنانة للأساطير التشيكية، ومن جهة أخرى يشير إلى احتضان الفنانة من قبل مجموعة المتاحف التي تهتم بالفنون المعاصرة من خلال متحف هامبورغر. شيء من هذا القبيل يمكن القبول به في ظل سياسات سوق الفن في زماننا.

John MACDOUGALL / AFP
زوار يتأملون منسوجات ضخمة من الكتّان والقنب ضمن تركيب "Embrace" للفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا

حياة يومية لا تنتهي

ما الذي يحدث في ذلك النسيج الذي صنعته كلارا هوسنيدلوفا ولا نراه بحيث أنها عمدت إلى تكراره سبع مرات، ولو سمح لها المكان لكررته أكثر من ذلك؟ الحياة اليومية لا تنتهي حكاياتها. وإذا ما اهتدى الرسام إلى تقنية ما في إمكانها أن ترعى أسلوبه بنوع من العاطفة، فإنه سيجن وهو يسعى إلى الاستفادة من تلك الهبة الكريمة. ذلك ما فعلته هوسنيدلوفا وما ستفعله مستقبلا. كل عمل من أعمالها هو نسيج يتسع لأساطير شعبها التي اخترقت حياتها وصنعت مزاجها الجمالي وبثت الروح في خيالها.

وبسبب ضخامة الأعمال، فإن تأثيرها البصري يسبق البحث في التفاصيل. لذلك يمكن القول إن هوسنيدلوفا صنعت فضاء تجريديا حاصرت من خلاله مشاهدي أعمالها ودفعت بهم إلى طريق اللاعودة. فمن يرى تلك الأعمال التي بدت الفنانة من خلالها مسيطرة على أدواتها، لا بد أن يستنهض في داخله الاستعداد لمواجهة الكثير من الأسئلة التي تتعلق بتفسير ما أصابه من شغف وولع ودهشة مقرونة بقدر هائل من الأعجاب.

الفنانة الشابة تقدم بلادها على طبق من الحكايات ولا تفصل في ذلك الشكل عن المحتوى. كل شيء تشيكي، بدءا من النسيج وانتهاء بالهياكل العظمية التي نفذتها الفنانة، مرة في لوحات مستقلة علقت على الجدران، ومرة أخرى من خلال إلحاقها بالنسيج مرورا بالمفردات الصغيرة التي ملأت الأعمال إيقاعا حركيا.

John MACDOUGALL / AFP
زائر يُرى من خلال خيوط تشكل منسوجات ضخمة من الكتّان والقنب ضمن تركيب "Embrace" للفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا في متحف "هامبورغر بانهوف" في برلين

ليس من المستبعد أن تكون الفنانة مزجت المرويات بكل ما انطوت عليه من خيال خرافي بتفاصيل حياتها الشخصية بأسلوب يتسم بالهذيان. ففي الوقت التي تنفتح الأعمال فيه على خيال الحكايات التي لا زمن محددا لها، فإنها تشع بعاطفة لا يمكن الإفلات من تأثيرها. في كل الأحوال فإن فن هوسنيدلوفا لا  ينتسب إلى الفن الذي يتماهى مع الذاكرة الجمعية ليحيي من خلالها وقائع وأفكارا وصورا سبق لها أن لعبت دورا في صوغ وجدان شعبي. تستعمل الفنانة أرشيف تلك الذاكرة لكي تكون لها السيادة عليه. حياتها الشخصية هي القارب الذي يصل بها إلى تلك الجزر المتباعدة، وهي في الوقت نفسه المنجم الذي تستخرج منه مقتنياتها الثمينة.

عالم من التساؤلات

عام 2020 أقامت كلارا هوسنيدلوفا معرضها الفردي الأول في ألمانيا بعنوان "عش". يتتبع المعرض بحث الفنانة المكثف حول الموقع التاريخي لبرج "جيشتيد" في جمهورية تشيكيا، وهو مشروع معماري ونموذجي بارز من سبعينات القرن الماضي، بني ليجمع بين التكنولوجيا المتطورة والترفيه للسكان المحليين. يضم البرج محطة أرصاد جوية، وهوائي إرسال، وفي هيكله المحيط فندقا أنيقا.

لا تكتفي بما ترسمه أو ما تنحته إلا بعد أن تضيف إليه ما يحتاج إليه من عناصر الواقع من المكان الذي يضم أحداث حكاياتها

ما ينبغي أن نعرفه عن هوسنيدلوفا، يكشف عنه ذلك المعرض. فهي رسامة ونحاتة ومصورة فوتوغرافية، إضافة إلى أنها مولعة بفن التركيب والتجهيز. فهي لا تكتفي بما ترسمه أو ما تنحته إلا بعد أن تضيف إليه ما يحتاج إليه من عناصر الواقع وهو ما تحققه من خلال الصورة الفوتوغرافية والمواد المستعارة من المكان الذي يضم، مثل مسرح، أحداث حكاياتها. ما يهم هنا، الإشارة إلى أن معارض من ذلك النوع لا يمكن إنجازها من غير مؤسسات داعمة، تقوم بمهمة التمويل. من غير ذلك التمويل ما كان لتلك المعارض أن ترى النور. وفي العودة إلى معرض "احتضان" فإن "مؤسسة شانيل" هي التي مولته.

بدأت هوسنيدلوفا في عروضها العالمية فنانة كبيرة. لو لم يكن مشروعها في معرض "عش" كبيرا ومدهشا لما تسنى لها الحصول على تمويل مؤسسة داعمة، ولما حظيت باهتمام المتاحف العالمية.

"عش" عالم من التساؤلات. ينبعث فيه هواء مستقبل لم يحدث قط من المواد الداخلية، ومن الجبال المحيطة ببرج "جيشتيد". تلتقط هوسنيدلوفا هذا العالم بدقة وتعاطف، متبنية الأساليب والأنماط المعمارية المعيارية في أعمالها الجدارية ومنحوتاتها. يشكل الزجاج بركا من الماء أسفل الطاولة حيث يستريح الفطر بهدوء، مع أنه ربما نقل جراحيا من مختبر. تنبعث أضواء متذبذبة من خلال ظلال أعمدة الزجاج المنفوخ يدويا كأنها تنقل إشارات في حالة تعليق دائم.

John MACDOUGALL / AFP
زائر يتأمل منحوتة ضمن تركيب "Embrace" للفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا في متحف "هامبورغر بانهوف" في برلين

في السياسة وبعيدا منها

تنشئ  كلارا هوسنيدلوفا من خلال فنها مشهدا مثاليا باستخدام ألياف الكتان والتطريز والزجاج المصبوب والحجر الرملي والطين والحديد والألواح الخرسانية. تركز في عملها على المناطق الريفية في جمهورية تشيكيا المعاصرة، وهي المناطق التي تشكلت بفعل عمليات الإنتاج الحرفي والصناعي، بالإضافة إلى ظهور حدود وطنية جديدة لم تكن موجودة قبل تقسيم تشكيلوفاسيا دولتين. تذكرنا الألواح الخرسانية والجدران الحديدية بعمارة الحقبة الشيوعية، مرسخة الرؤية المثالية في سياق تاريخي معقد.

يستكشف تركيب كلارا هوسنيدلوفا الضخم في معرضها "احتضان"، موضوعات الوطن، واليوتوبيا، والحياة اليومية في ظل هيمنة أنظمة سياسية مختلفة. يعد هذا العمل النحتي الأكثر طموحا وشمولا لهوسنيدلوفا حتى الآن، ويضم منسوجات هي عبارة عن نقوش عضوية وتطريزات ضخمة. استوحيت زخارف التطريز من أفلام وتسجيلات فيديو لأعمال أدائية قدمتها الفنانة في برلين.

John MACDOUGALL / AFP
زوار يتأملون منحوتات إلى جانب نسيج ضخم من الكتّان والقنب ضمن تركيب "Embrace" للفنانة التشيكية كلارا هوسنيدلوفا

يعكس المحتوى العمارة والأفلام والروايات التي تحدد الذاكرة الثقافية للمناطق الحدودية لما يعرف الآن بجمهورية تشيكيا على مر القرون. في هذا المعنى، فإن كل ما يتعلق بتكريس شهرتها عالميا، ينبعث من ارتباطها بالتراث المحلي لشعبها، الذي يشمل الحكايات القروية والأساطير الشعبية لعصر ما قبل الدولة الوطنية، إضافة إلى ما نتج من حكايات مأزومة في عصر الدولة الشيوعية وما رافقها من أزمات انتهت بها إلى الزوال.

المهم في كل الأحوال أن هوسنيدلوفا لم تسقط في فخ الدعاية السياسة وظلت حريصة على تأثيث عملها بكل ما يرفع من شأنه جماليا

هوسنيدلوفا التي ولدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، عملت على تحويل كل ما قرأته وسمعته إلى مصادر إلهام. وهو ما سمح بامتزاج الواقعي المثبت وثائقيا بالمتخيل الذي يستند إلى تأويل حكايات شفاهية يصعب إثبات حدوثها. المهم في كل الأحوال أن هوسنيدلوفا لم تسقط في فخ الدعاية السياسة وظلت حريصة على تأثيث عملها بكل ما يرفع من شأنه جماليا.

font change