لم يكن أحد يتوقع أن ينتقل اسم أحمد الشرع، خلال أقل من عام واحد، من لائحة التنظيمات المصنّفة على "القوائم السوداء" إلى صف الزعماء الذين يطرقون أبواب العواصم الكبرى ويجتمعون بقادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ما جرى في سوريا بين 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024 ونهاية 2025 لم يكن تحوّلا عاديا في سياق الدبلوماسية، بل كان انقلابا في تعريف السياسة السورية نفسها، وفي طريقة مخاطبتها للعالم.
في قلب هذا التحوّل يقف وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الذي خرج من أسرار الثورة إلى صدارة المشهد الدولي، حاملا خطابا مختلفا، وأسلوبا لا يشبه دبلوماسية النظام السوري السابق ولا الشعارات التقليدية.
وفي هذا الحوار المطوّل، الذي ينشر في حلقتين، يفتح الشيباني صندوق الأسرار- من قرار "تحييد" الطيران الروسي في شمال غربي سوريا نهاية 2024، وصولا إلى تهيئة الظروف للقاء التاريخي بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترمب برعاية سعودية منتصف 2025 وزيارة الشرع البيت الأبيض نهاية 2025.

منذ اللحظة الأولى، يرفض الشيباني وصف ما حدث خلال عام واحد بـ"المعجزة". يقول بهدوء الواثق: "هناك استغراب من النجاح الذي تم تحقيقه من خلال الدبلوماسية السورية. أولا كشخص أنا أعمل على موضوع العلاقات الخارجية منذ 2018 تقريبا... ورؤية الدولة كانت حاضرة لدينا في الذهن كيف ستكون سوريا في المستقبل وما مفاتيحها".
هذا الوعي المبكر بأهمية بناء "مفاتيح" خارجية للمشروع السوري الجديد، هو ما سمح– وفق روايته– بأن لا تتحول سوريا بعد "التحرير" إلى جزيرة معزولة، بل إلى نموذج يسعى الآخرون إلى فهمه والتواصل معه. يضيف: "لا يمكن أن تتكلم عن مشروع يقود دولة ولا تكون له علاقات خارجية... الخارج أحيانا لديه مسلمات معلّبة على الفرد أن يتعامل معها. إذا كان أسيرا لهذه المسلمات أعتقد أنه سيفشل بشكل كبير جدا".
ما يميّز دبلوماسية الشيباني في السياسة الخارجية أنها لا تستند إلى "المزايدة الثورية" ولا إلى "الابتزاز العاطفي"، بل تقوم على مزيج من الواقعية والمثابرة والتخطيط البعيد المدى. يختصر ذلك بجملة لافتة: "ربما لأول مرة نطرح دبلوماسية صادقة، فلا توجد مراوغة وكذب... نحن لدينا مصلحة وطنية، لدينا بلد مهدم، نريد أن تكون لدينا علاقات جيدة مع كل الدول وبالتالي يساعدوننا في هذه المرحلة ونحن نسير 1، 2، 3، 4".
هذه "الدبلوماسية الصادقة"، كما يسميها، لم تبقَ مجرد خطاب، بل ترجمت سريعا في سلوك العواصم. دول كانت تنظر إلى الملف السوري من زاوية أمنية بحتة، وجدت نفسها أمام قيادة جديدة "تفي بما تعد به". يقول وزير الخارجية: "فالدول بدأت ترى أن هناك مصداقية كبيرة جدا، فما كان يحدثنا عنه الشيباني يحصل... رأوا أن هناك جدية، هناك كلام رجال، هناك التزام، هناك رؤية واضحة، وهذا أعطانا أولا ثقة بالنفس، وثانيا أكد للطرف الآخر أننا طرف موثوق".
لكن "العقدة الأصعب" لم تكن الاعتراف العربي أو الغربي، بل "العقدة الروسية". موسكو، التي رسّخت حضورها العسكري في حميميم وطرطوس غرب سوريا، وكانت شريك النظام في قصف المدن، تحوّلت فجأة من "خصم ميداني" إلى طرف يجلس مع الشيباني وجها لوجه على معبر باب الهوى. هناك، تلقّى الروس واحدة من أكثر الرسائل صراحة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
قبل تلك اللحظة، كان لا بد من "تشريح" الهزيمة. من سقوط حلب عام 2016 إلى هدنة سوتشي عام 2020، عاش السوريون أربع سنوات من الانكسار، لكنها تحولت إلى مادة تقييم باردة: لماذا انتصر النظام؟ أين أخطأت الثورة؟ كيف استغل الروس والإيرانيون نقاط الضعف؟ ولماذا وقفت فئات وطوائف مع النظام "مع أنها لا تستفيد شيئا منه"؟
ضمن هذا التقييم، ظهر السؤال الحاسم: كيف يمكن تحييد سلاح الجو الروسي إذا قررت المعارضة إطلاق عملية جديدة؟ من هنا وُلدت فكرة "فك العقدة الروسية": "كان علينا تحييد سلاح الجو الروسي من هذا الموضوع... فتوصّلنا إلى حل: ما مصلحة الروس في سوريا؟ هل مصلحته مع نظام بشار كنظام أم إنه يريد أن يحافظ على مصلحته مع سوريا؟".
جوهر المقاربة الجديدة كان بسيطا وجريئا: روسيا أخطأت بالارتهان لشخص، ويمكنها صون مصالحها بالتعامل مع دولة. يروي الشيباني لقاء مفصليا قائلا: "انطلقنا من أنه لدينا اليوم كشعب سوري موقف من روسيا إلى جانب النظام، هذا موقف خطأ. هذا الموقف يمكن أن يتغير ويتعدل... لتكون الشراكة مع سوريا والشعب السوري ولا تكون مع نظام لا يمكن أن يُراهن عليه".
ثم يطلق الجملة التي أصبحت لاحقا مفتاح المقاربة مع موسكو: "قلنا جملة مفتاحية هم أخذوها في الاعتبار: إن إسقاط نظام بشار لا يعني خروج روسيا من سوريا".
هذه العبارة لم تكن مجرد تطمين تكتيكي، بل إعادة تعريف للعلاقة: سوريا الجديدة مستعدة لعلاقة مع روسيا، لكن على أساس مصالح واضحة وعقد متوازن، لا اتفاقيات إذعان. يقول الشيباني بنبرة ناقدة: "اطلعت على اتفاقية حميميم بينهم وبين النظام. هي اتفاق من طرف واحد... نحن نعيد تنظيم هذه العلاقة ضمن مصلحة سوريا أولا وآخرا. إذا كانت هناك مصلحة سنسير في الاتفاق، إذا لم تكن هناك مصلحة سورية فلن نمضي بالاتفاق... أنا لن أتركهم ديكورا".
وهكذا، بدل استثمار لحظة التفوق العسكري للتشفي أو الإهانة، اختارت القيادة السورية الجديدة مسارا آخر: لا انتقام، بل إعادة تموضع عقلانية. لا خطاب عن "طرد روسيا من المنطقة"، ولا تكرار لمنطق المحاور الذي دمّر البلاد، بل محاولة لاستخدام برغماتية موسكو نفسها. يقول الشيباني: "أرى أن الموقف الذي اتخذوه كان موقفا ذكيا بصراحة، أذكى من الإيرانيين بكثير وبرغماتيا أكثر... نحن نحاول أن نتجاوز ما يمكننا تجاوزه... أين إشارة المصلحة السورية سنحوّل عليها".

بهذه المقاربة، يتجاوز الشيباني مجرد مهارة التفاوض. هو يصوغ شبكة توازنات جديدة: مفاوض ندّي مع الروس، تنسيق مع الأتراك، انفتاح على أوروبا، ثم تمهيد– مع الرئيس الشرع– لتحوّل أكبر باتجاه الخليج والولايات المتحدة.
في الحلقة الأولى من هذا الحوار الذي جرى في لندن في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، نطلّ على "العقل الدبلوماسي" الذي فكّك "العقدة الروسية" وأوقف– كما يروي– مسارا كان يمكن أن يجرّ سوريا إلى معارك مدمرة في قلب دمشق.
في الحلقة الثانية، ننتقل إلى المحطة التي غيّرت موقع سوريا في العالم: زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى السعودية، اللقاء المفصلي مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثم الجلوس التاريخي في البيت الأبيض مع الرئيس دونالد ترمب، حيث تحولت العلاقة من "شروط أميركية" إلى "رهان دولي" على سوريا جديدة، تحاول أن تكون– كما يقول الشرع- "بلدا يليق بالسوريين".
وهنا الحلقة الأولى:
* في 7 ديسمبر/كانون الأول 2024 كان الرئيس أحمد الشرع و"هيئة تحرير الشام" مصنفين بالقائمة السوداء، ولم يكن هناك اعتراف بكم من أي طرف لا عربي ولا غربي ولا حتى بالأمم المتحدة. الآن نحن في نهاية 2025، ومع بداية العام الجديد، يكون الشرع قد التقى كل قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. هناك نقلة دبلوماسية هائلة حصلت خلال سنة كيف تفسر هذا الأمر؟ كيف حصل؟
- أولا، أهلا وسهلا بك. هناك استغراب من هذا الموضوع، ربما أنا شخصيا لست مستغربا كثيرا. لا أعرف لماذا، لكن هناك استغرابا من النجاح الذي تم تحقيقه من خلال الدبلوماسية السورية. أولا كشخص أنا أعمل على موضوع العلاقات الخارجية منذ 2018 تقريبا وليس من الآن. وكان لدي وصول إلى دول كثيرة بهذا الإطار، ورؤية الدولة كانت حاضرة لدينا في الذهن كيف ستكون سوريا في المستقبل وما مفاتيحها.





