الاقتصاد الروسي يترنح بين ناري فاتورة الحرب والعقوبات

خيارات مالية أحلاها مر في ظل استنزاف الموارد وتراجع الإيرادات

إدوارد رامون
إدوارد رامون

الاقتصاد الروسي يترنح بين ناري فاتورة الحرب والعقوبات

على الرغم من صمود الاقتصاد الروسي أمام العقوبات الغربية والحرب المستمرة منذ 2022، فإن الواقع الاقتصادي أصبح هشا بشكل متزايد. التراجع الصناعي، استنزاف القوى العاملة، وارتفاع التضخم يضغط على المواطنين ويحد من قدرة الحكومة على تحفيز النمو. الخيارات المتاحة صعبة: الاستمرار في تمويل الحرب على حساب الاقتصاد المدني أو مواجهة ركود يهدد الإيرادات العامة واستقرار البلاد، في ظل ضغوط داخلية وخارجية متشابكة تلوح في الأفق وترسم مستقبلا غامضا للبلاد.

أظهرت أحدث البيانات والمؤشرات تراجع قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في وجه العقوبات الغربية، ومواصلة تمويل الحرب على أوكرانيا، المستمرة منذ فبراير/شباط 2022، بالوتيرة نفسها من دون أن يخلّف ذلك تداعيات متزايدة على بنية الاقتصاد وأخطارا اجتماعية متنامية.

ومنذ صيف العام المنصرم، حذّر مسؤولون وخبراء من مؤشرات ضعف متزايدة في الاقتصاد الروسي، الذي تمكن خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب، بفضل موارده الواسعة وارتباطاته الخارجية، إلى جانب اتباعه سياسة نقدية ومالية صارمة، من امتصاص صدمة العقوبات الغربية القاسية.

تباطؤ للربع الثالث على التوالي

كشفت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية في 29 أكتوبر/تشرين الأول أن نمو الناتج المحلي الإجمالي واصل تراجعه للربع الثالث على التوالي. وأوضحت أن معدل النمو انخفض إلى 0,6 في المئة في الربع الثالث من السنة الجارية، مقارنة بـ1,1 في المئة في الربع الثاني و1,4 في المئة في الربع الأول. وللمقارنة، كان الاقتصاد الروسي قد سجل نموا بنسبة 4,5 في المئة في الربع الأخير من عام 2024. وأضافت الوزارة أن الاقتصاد نما بنحو 1 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية، أي بمعدل يقل أربع مرات عن نمو العام المنصرم الذي بلغ 4,3 في المئة وفقا للبيانات الرسمية.

بدأت ملامح الركود تتضح في القطاع الصناعي الروسي، على الرغم من التوسع الكبير في الصناعات المرتبطة بالمجهود الحربي. ولم يتجاوز النمو الصناعي خلال 9 أشهر من السنة الجارية 0,5 في المئة، مقارنة بـ5,6 في المئة في العام المنصرم

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، خفّضت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية توقعاتها لنمو الاقتصاد خلال السنة الجارية من 2,5 في المئة إلى 1 في المئة. كما راجعت توقعاتها لعام 2025 من 2,4 في المئة إلى 1,3 في المئة. وعلى الرغم من هذا التراجع، تبقى هذه الأرقام أكثر تفاؤلا من تقديرات مؤسسات دولية أخرى، إذ خفّض صندوق النقد الدولي في 14 أكتوبر/تشرين الأول توقعاته لنمو الاقتصاد الروسي في عام 2025 من 0,9 في المئة إلى 0,6 في المئة.

ساهم الإنفاق الحربي الضخم خلال عامي 2023 و2024 في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي، غير أن الطاقة الإنتاجية واحتياطيات سوق العمل باتت مستنزفة بالكامل. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن سوق العمل الروسية فقدت نحو 300 ألف عامل عقب حملة التعبئة الأولى في خريف 2022، في حين دفعت التعبئة نفسها مئات الآلاف من الشباب في سن العمل ومعارضي الحرب إلى مغادرة البلاد.

رويترز
مركبات تابعة للجيش الروسي تسير وسط موسكو في استعراض عسكري بمناسبة مرور 80 عام على نهاية الحرب العالمية الثانية، 19 أبريل 2025


كما تأثرت سوق العمل بثلاثة عوامل رئيسة: الخسائر البشرية الكبيرة في الحرب بين قتلى وجرحى، والحملة المستمرة ضد العمالة الوافدة من دول آسيا الوسطى عقب تفجيرات "كروكوس سيتي" الإرهابية في موسكو ربيع 2024، فضلا عن توجه أعداد كبيرة من القادرين على العمل، ولا سيما في المناطق الفقيرة، إلى توقيع عقود مع وزارة الدفاع للمشاركة في الحرب، بسبب الرواتب المرتفعة، مقارنة بمستويات الأجور في مناطقهم.

تراجع الانتاج الصناعي الروسي

بدأت ملامح الركود تتضح في القطاع الصناعي الروسي، رغم التوسع الكبير في الصناعات المرتبطة بالمجهود الحربي. ولم يتجاوز النمو الصناعي خلال الأرباع الثلاثة الأولى من السنة الجارية 0,5 في المئة، مقارنة بـ5,6 في المئة في العام المنصرم، في حين شهدت القطاعات المدنية تراجعا ملحوظا. كما انخفض تكرير النفط بنحو 4,5 في المئة نتيجة سلسلة من الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيرة على منشآت الطاقة. وأفادت الوزارة بأن قطاع التعدين الروسي دخل في حالة ركود للمرة الأولى منذ عام 2022، مع انخفاض الإنتاج بنسبة 3,3 في المئة.

 وفي مؤشر إلى استمرار التحديات التي يواجهها قطاع التصنيع الروسي، في ظل ضعف الطلب المحلي وازدياد الضغوط المالية على الشركات والعملاء على حد سواء، أظهر مسح أجرته شركة "ستاندرد آند بورز غلوبال" في مطلع الشهر الحالي، أن قطاع التصنيع الروسي شهد انكماشا أعمق في أكتوبر/ تشرين الأول، مع تراجع الطلبات الجديدة بأسرع وتيرة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.

انخفضت أرباح الشركات الروسية بنحو 8,3 في المئة في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية، أي ما يعادل 1,6 تريليون روبل (19.8 مليار دولار)

هيئة الإحصاء الروسية "روسستات"

وانخفض مؤشر مديري المشتريات (PMI) للقطاع إلى 48 نقطة في أكتوبر/تشرين الأول. وعزا التقرير هذا التراجع إلى استمرار انخفاض الإنتاج والطلبات الجديدة، إذ واصلت الشركات تقليص التوظيف والإنفاق على مستلزمات الإنتاج للحد من التكاليف. كما تراجعت ثقة الشركات إلى أدنى مستوى لها منذ مايو/أيار 2022، في ظل تنامي المخاوف في شأن الصعوبات المالية التي يواجهها العملاء. على سبيل المثل، قررت شركات مثل "أفتوفاز"، أكبر مصنع للسيارات في روسيا، الانتقال إلى أسبوع عمل يتراوح بين ثلاثة وأربعة أيام بسبب تراجع الطلب على منتجاتها. وأفادت بيانات هيئة الإحصاء الروسية "روسستات" أن أرباح الشركات الروسية انخفضت بنحو 8,3 في المئة في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية، أي ما يعادل 1,6 تريليون روبل (19.8 مليار دولار). ويشكل تراجع الإنتاج الصناعي ضربة جديدة لإيرادات الحكومة، تضاف إلى تراجع عائدات النفط والغاز بنحو 20 في المئة.

النمو والتضخم والعجز

ومع تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع الإيرادات، لم تعد موسكو قادرة على ضخ التحفيز المالي الذي ساهم سابقا في التوسع العسكري، وتتجه الآن نحو تبني إجراءات تقشفية قد تؤثر بشدة على الاقتصاد المدني. كما أعلنت الحكومة رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 22 في المئة اعتبارا من بداية العام المقبل، إلى جانب إدخال إصلاحات ضريبية شاملة على الأعمال الصغيرة، مما ينهي المعدلات التفضيلية لمئات الآلاف من رواد الأعمال.

وفي حال نجاح العقوبات الأميركية والأوروبية الجديدة، قد يجد الاقتصاد الروسي نفسه عاجزا عن تلبية الطموحات الجيوسياسية للكرملين. ومن أجل الحفاظ على مستوى الصناعات الحربية الحالي، سيكون من الضروري الانتقال إلى اقتصاد حربي كامل النطاق على غرار اقتصادات الحرب العالمية الثانية، حيث يعاد توجيه الإنتاج المدني نحو الاستخدام العسكري. غير أن الكرملين تجنب هذه الخطوة خشية اندلاع اضطرابات اجتماعية نتيجة نقص السلع الاستهلاكية الأساسية محليا وارتفاع أسعار المستورد منها.

في المقابل، تشير الإجراءات الجديدة المتعلقة برفع ضريبة القيمة المضافة وتعديلات الضرائب على الشركات الصغيرة، إلى أن المواطنين الروس سيتحملون فعليا تكاليف الحرب. كما تعكس محاولة الحكومة تسيير أمورها المالية دون زيادات كبيرة في الإنفاق، مما سيؤثر على حياة السكان ويضعف محركات النمو المستقبلية. ومن الواضح أن موازنة العام المقبل، تعد حلا وسطا بين معسكر الحرب والاقتصاديين.

.أ.ف.ب
ميناء مدينة مورمانسك الروسية، 26 مارس 2025

ولا يشير الخفض الاسمي في الإنفاق الدفاعي عام 2026 بالضرورة إلى أن الكرملين يخطط لإنهاء حربه ضد أوكرانيا. فعلى الرغم من أن الإنفاق على الدفاع الوطني قد ينخفض من 13,4 تريليون روبل (174,2 مليار دولار) هذا العام إلى 12,6 تريليون روبل (163,8 مليار دولار) في 2026، أي بانخفاض قدره 4,2 في المئة، إلا أن الإنفاق على فئة مجاورة تشمل الأمن الوطني وإنفاذ القانون سيرتفع من 3,46 تريليون روبل (44,98 مليار دولار) إلى 3,91 تريليون روبل (50,83 مليار دولار)، بزيادة تبلغ 13 في المئة، مما يعكس توجها لتعزيز السيطرة الداخلية وتأمين الاستقرار السياسي.

خيارات الانفاق الصعبة وضمان الأمن القومي

وفي محاولة لتبرير رفع الضرائب بعيدا من خفض الإنفاق العسكري، الذي يشكل أكثر من 40 في المئة من حجم الموازنة أو نحو 8 في المئة من حجم الاقتصاد، وصف وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، زيادات الضرائب على المستهلكين ورواد الأعمال بأنها خيار أفضل من زيادة الاقتراض، الذي قد يؤدي إلى تفاقم التضخم.

التضخم، الذي يقترب من 8 في المئة، سيظل مرتفعا لفترة أطول من المتوقع. ويبدو أن قرار خفض الفائدة للمرة الرابعة على التوالي منذ الصيف جاء كنتيجة لمفاضلة بين تفادي ركود اقتصادي حاد أو السماح للتضخم بالارتفاع قليلا

البنك المركزي الروسي

وقال سيلوانوف لوكالة "تاس" في 29 سبتمبر/أيلول الماضي: "إن الزيادة غير المنضبطة في الدين العام ستؤدي إلى تسارع التضخم، وبالتالي إلى رفع سعر الفائدة الرئيس. في المقابل، يمنح قرار تمويل الموازنة من خلال زيادات الضرائب البنك المركزي مجالا لتيسير السياسة النقدية، وسعر الفائدة الرئيس أمر بالغ الأهمية لنمو الاستثمار والنمو الاقتصادي". وأضاف سيلوانوف أن الأمن القومي سيصبح محور تركيز الحكومة، مع مراعاة "المهام والتحديات الإضافية" في نفقات الدفاع والأمن، مشيراً إلى أن هذه النفقات تشمل "مجالات وظيفية أخرى لا تتعلق بالدفاع العسكري بقدر ما تتعلق بضمان أمن البلاد ومواطنيها"، بما في ذلك "تطوير أنظمة مضادة للطائرات المسيّرة، وحماية البنية التحتية الحيوية والمناطق الحدودية، وتعزيز أمن النقل والأمن السيبراني". وأوضح أن "الإنفاق الإجمالي في عام 2026 سيبقى عند مستوى مماثل لعام 2025، لكنه سيبقى أعلى من مستوى عام 2024".

.أ.ف.ب
مقر البنك المركزي الروسي وسط العاصمة موسكو، 25 يوليو 2025

وفي محاولة لتعزيز النمو، على الرغم من بقاء معدلات التضخم مرتفعة، خفض المركزي الروسي معدل الفائدة الرئيس من 17 في المئة إلى 16,5 في المئة في 24 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وقال المصرف المركزي في بيان إن الاقتصاد الروسي "يواصل العودة إلى نمو متوازن"، مشيرا إلى أنه تباطأ بعد عامين من التوسع السريع والإنفاق العسكري الضخم المرتبط بالحرب في أوكرانيا. وعدل المركزي الروسي توقعاته للنمو مجددا، إلى ما بين 0,5 في المئة و1 في المئة لعام 2025، من توقعات سابقة بين 1 في المئة و2 في المئة. 

مالية عامة مرهقة

مكنت زيادة الإنفاق روسيا من تحدي التوقعات التي كانت تشير إلى أن العقوبات الغربية الضخمة ستؤدي إلى انهيار اقتصادها، إلا أن هذا الإنفاق تسبب أيضا في ارتفاع حاد في التضخم، مما دفع البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة إلى مستويات قياسية بلغت 21 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول 2024، قبل أن يبدأ خفضها تدريجيا لاحقا.

وأشار البنك المركزي الروسي إلى أن التضخم، الذي يقترب من 8 في المئة، سيظل مرتفعا لفترة أطول من المتوقع. ويبدو أن قرار خفض الفائدة للمرة الرابعة على التوالي منذ الصيف جاء كنتيجة لمفاضلة بين تفادي ركود اقتصادي حاد بسبب تراجع حجم القروض أو السماح للتضخم بالارتفاع قليلا عن المستهدف. ويؤثر تباطؤ النمو على المالية العامة الروسية المرهقة أصلا، والتي سجلت عجزا بنحو 50 مليار دولار منذ بداية العام.

أي خفض مبكر أو متسرع قد ي مبكر أو متسرع قد "يقوض التقدم المحرز في مكافحة التضخم" ويجبر صانعي السياسات على رفع الأسعار مرة أخرى لكبح جماح الطلب

إلفيرا نابيوليناK رئيسة البنك المركزي الروسي

وأعلنت رئيسة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، في نهاية الشهر الماضي خلال اجتماع مشترك للجنة المالية والموازنة والاقتصاد في البرلمان: "منذ يونيو/حزيران خفضنا سعر الفائدة الرئيس بمقدار 4,5 نقاط مئوية، ونتوقع أن تستمر دورة التيسير النقدي طوال العام المقبل". وحذرت نابيولينا من أن أي تخفيف مبكر أو متسرع قد "يقوض التقدم المحرز في مكافحة التضخم" ويجبر صانعي السياسات على رفع الأسعار مرة أخرى لكبح جماح الطلب المتزايد بسرعة.

ويتوقع البنك المركزي أن يبقى التضخم مرتفعا عند نحو 5 في المئة خلال العام المقبل قبل أن ينخفض إلى المستوى المستهدف البالغ 4 في المئة في النصف الثاني من عام 2026.

.أ.ف.ب
عملة معدنية من الروبل الروسي أمام الكرملين، 12 سبتمبر 2025

وأقرت نابولينا بأن توقعات التضخم بين الأسر لا تزال مرتفعة بعناد، متأثرة بالزيادة الأخيرة في ضريبة القيمة المضافة، وارتفاع أسعار الوقود، إضافة إلى زيادة رسوم إعادة تدوير المركبات.

وقدرت أن معدل ضريبة القيمة المضافة الجديد وحده قد يضيف ما يصل إلى 0,8 نقطة مئوية على التضخم، لكنها أوضحت أنه "من دون زيادة الضريبة، سيكون تأثير الموازنة على التضخم أعلى، مما كان سيجبر البنك المركزي على إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول".

استنزاف و"ركود فني"

في المحصلة، صمد الاقتصاد الروسي في زمن الحرب أمام العقوبات الغربية، لكنه يواجه وضعا صعبا، حيث قد يؤدي الضغط الأميركي على قطاع الطاقة إلى ركود، مع حرمان الخزينة من نحو 17 في المئة من وارداتها التي كانت تؤمنها صادرات "روسنفت" و"لوك أويل". وبينما ساهم الإنفاق الدفاعي الضخم في تعزيز النمو، والحفاظ على استمرارية عمل المصانع، وخفض البطالة، استنفدت احتياطيات البلاد من الطاقة التصنيعية والقوى العاملة. كما يفرض تشديد الإنفاق الحكومي على القطاعات غير المرتبطة بالحرب ونقص التكنولوجيا الغربية ضغوطا متزايدة على الاقتصاد. وبالاستناد إلى البيانات الحديثة الصادرة عن البنك المركزي ووزارة التنمية الاقتصادية، من المرجح أن الاقتصاد الروسي دخل فعليا في مرحلة "ركود فني"، وهو ما أشار إليه جيرمان غريف، رئيس مصرف "سبيربانك" الحكومي ووزير الاقتصاد السابق، وأحد أبرز واضعي استراتيجيات الاقتصاد الروسي في عهد بوتين.

font change